أصبح عدّاء المسافات الطويلة الكينيّ، إليود كيبتشوغه، أول شخص يقطع ماراثوناً في أقل من ساعتين في عام 2019. كان لهذا الإنجاز مكانة أسطورية تقريباً؛ إذ إنه يمثّل الحد الأقصى لقدرات الجسم البشري كما توقع بعض علماء الفيزيولوجيا. ولكن في السنوات التي سبقت الإنجاز الذي حققه كيبتشوغه، تمكّن هو وغيره من نخبة الرياضيين من تقصير زمن إنهاء الماراثون أكثر وأكثر. وأخيراً، جرى كيبتشوغه بسرعة قياسية قاطعاً مسافة تبلغ نحو 42 كيلومتراً خلال ساعة و59 دقيقة و40 ثانية في سباق غير مصرّح به أجري على مسار حلقيّ مسطّح بطول 9.6 كيلومترات في مدينة فيينا في عام 2019.
كسر رقم قياسي للماراثون
وفقاً للاتحاد الدولي لألعاب القوى، المنظمة التي توثّق سجلات السباقات، لم يُكسر الرقم القياسي للماراثون الذي يساوي ساعتين رسمياً بعد. يعود ذلك من إحدى النواحي إلى أن السباق الذي أجراه كيبتشوغه لم يضم أي منافسين آخرين. بالإضافة إلى ذلك، فهو لم يكن وحيداً في السباق؛ إذ إنه جرى ضمن مجموعة من العدائين الخبراء، الذين يُطلق عليهم اسم السيّارين أو "الأرانب"، الذين صنعوا شكلاً انسيابياً حول كيبتشوغه.
ساعدت اختبارات أنفاق الرياح والمحاكيات الحاسوبية الفريق على تحسين هذا التشكيل، الذي تألف من 5 سيّارين متمركزين في المقدمة بشكل حرف "V" بعكس الشكل الذي تصنعه أسراب الإوز، بينما جرى سيّاران إضافيّان خلف كيبتشوغه بقليل، على جانبيه الأيسر والأيمن. بدّل العداؤون مواقعهم في التشكيلة بعد كل دورة لتنشيط أنفسهم. قطع كيبتشوغه المسافة خلال زمن أقصر بأكثر من دقيقة من أي زمن سجّله من قبل بفضل هذه التشكيلة التي تحمي من الرياح المعاكسة.
اقرأ أيضاً: دراسة علمية: سرعة المشي قد تتنبأ بتدهور صحة الدماغ والشيخوخة المبكرة
التشكيلة الملائمة لقطع سباق الماراثون وفقاً للعلم
ولكن اتضح أنه قد يكون هناك تشكيلة أفضل لتقليل المقاومة الهوائية في سباقات الماراثون، وذلك وفقاً لفريق من الباحثين من جامعة الكليّة المركزية في مدينة ليون الفرنسية، الذين اختبروا مؤخراً عدة أشكال من خلال وضع الدمى المصغرة في نفق الرياح. اقترح هؤلاء ترتيباً معيّناً يشبه إلى حد ما جسم سمكة أبو سيف، من شأنه أن يقلل قوى المقاومة الهوائية المطبّقة على العدّاء بنسبة 60%.
يدّعي الباحثون أن التشكيلة التي توصلوا إليها يمكن أن تقصّر زمن إنجاز ماراثون فيينا السابق الذكر بمقدار دقيقة تقريباً. قال الباحثون في الورقة البحثية التي نُشرت مؤخراً في مجلة وقائع الجمعية الملكية: أيه (Proceedings of the Royal Society: A)، إنه "قد يكون من الممكن إنجاز أسرع ماراثون على الإطلاق" باستخدام تشكيلة سمك أبو سيف.
لكن العلماء الذين ساعدوا في تطوير التشكيلة المشهورة التي طُبقت في عام 2019 والتحقق منها يشككون في نتائج الدراسة الجديدة، مشيرين إلى أن إعداد نفق الرياح المستخدم فيها يعاني عيوباً وأن نسب الدمى الصغيرة التي أدت دور العدائين في دراسة التشكيلة الجديدة إشكالية. يقول أستاذ الهندسة المدنية في جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا، بيرت بلوكن، الذي استخدم المحاكيات الحاسوبية وتلك المعتمدة على أنفاق الرياح لتحليل الانخفاض في قوى المقاومة الهوائية في سباق فيينا: "تتعارض نتائج الورقة البحثية الجديدة بشدة مع تلك التي توصلت إليها الدراسات السابقة". على الرغم من أن الورقة البحثية الجديدة تشير إلى أن تشكيلة حرف "V" تقلل قوى المقاومة الهوائية بنسبة 50%، يقول بلوكن إن الأبحاث السابقة بيّنت أن هذه النسبة أقرب إلى 85%.
اقرأ أيضاً: تعرف إلى التأثير الذي تحدثه دقائق المشي الخمس في ساعات الجلوس
الجري في مجموعة أفضل من الجري الإفرادي
فوائد تشكيلات الماراثون ليست نقطة الخلاف هنا؛ إذ يتفق الباحثون في مجال الديناميكا الهوائية على أن الجري في مجموعة له أفضلية على الجري الإفرادي، خاصة في السرعات التي يتحرّك بها العداؤون النخبويّون. وفقاً لأستاذ ميكانيكا الموائع ومؤلف الدراسة الجديدة، بييترو ساليزوني، تتناسب قوة المقاومة الهوائية المؤثرة في جسم ما مع مربع سرعته. بتعبير آخر، كلما ازدادت السرعة، زادت شدة مقاومة الهواء الذي يضرب الجسم المتحرك. تكون هذه الاضطرابات غير محسوسة عادة عند التحرّك بسرعات منخفضة. ولكن بالسرعة التي ركض بها كيبتشوغه لتحقيق رقمه القياسي، التي بلغ متوسطها نحو 20 كيلومتراً في الساعة (وتبدو بالنسبة لأغلبية الناس أنها سرعة ملائمة لسباق سريع)، يصبح دفع الهواء بعيداً عن الطريق صعباً جداً.
أشارت 3 دراسات إلى أن تشكيلة حرف "V" المستخدمة في سباق فيينا هي الأفضل، ويقول بلوكن إن هذه الدراسات تضمنت اختبارات أجرتها شركة استشارية بريطانية باسم آي إن إي أو إس (INspec Ethylene Oxide and Specialities) على 110 تشكيلات باستخدام محاكيات ديناميكا الموائع، والمحاكيات الحاسوبية التي أجراها فريقه لـ 15 تشكيلة، وتجارب نفق الرياح التي تشمل 10 تشكيلات. (لم تُنشر هذه التقارير بسبب شروط السريّة التي فرضتها شركة آي إن إي أو إس، التي رعت سباق كيبتشوغه).
يقول بلوكن: "توصّلت الدراسات المفصّلة السابقة جميعها إلى النتائج نفسها"، وترافقت التشكيلة التي تضم "ترتيب العدائين على شكل حرف V أمام العدّاء الرئيسي مع وجود عدّائَين خلفه" مع القيمة الأخفض لقوة المقاومة الهوائية.
تشكيلة حرف V مقابل تشكيلة سمكة أبو سيف
اختبر ساليزوني وزملاؤه 8 أنماط للتشكيلات على نحو مستقل، ومنها تشكيلة حرف "V"، من خلال تثبيت دمى بطول 16.5 سنتيمتراً في نفق رياح معزول. هدف هؤلاء إلى قياس مقاومة الهواء بما يتناسب مع ما قد يواجهه عداؤو الماراثونات. في النهاية، وجد الباحثون أن وضع عدّائَين في الخلف مفيد أيضاً. يشير ساليزوني إلى أن قوة المقاومة المؤثرة في جسم متحرك "هي مجموع الضغوط المطبّقة في الأمام والخلف"، ويمكن أن يساعد وجود شخصين في مؤخرة التشكيلة على الحد من انخفاض الضغط. يقول ساليزوني: "يجب التحكّم في الأثر الذي يولّده الجسم المتحرك في الهواء"، تماماً كما تفعل الأجنحة الخلفية في سيارات سباق فورميولا ون.
استنتج فريق ساليزوني أن الشكل الأكثر فعالية هو شكل سمكة أبو سيف كما يُنظر إليها من الجانب، وهو يتألف من شخص واحد يتبعه 4 أشخاص يصنعون شكل ماسة نحيلة على بعد نحو 1.2 من المتر منه، وأخيراً الرياضي الرئيسي على بعد أقل من متر ونصف من مؤخرة الماسة. قال عالم الفيزيولوجيا في جامعة كولورادو في مدينة بولدر، رودجر كرام، الذي لم يشارك في الدراسة الجديدة، لمجلة ساينس نيوز (Science News)، إن "الشكل المغزلي الأضيق" في هذا التشكيلة قد يتيح للعدائين "أن يقطعوا الهواء قطعاً" نوعاً ما.
اقرأ أيضاً: إسقاط دمى بشرية في أحواض السباحة يساعد الباحثين على فهم إصابات الغطس
لا يزال بلوكن غير مقتنع، ويجادل بأن الدمى التي استخدمها الفريق تتمتّع بنسب غير ملائمة. يقول بلوكن: "يبدو أن الدمى التي استخدمها الباحثون في الدراسة الجديدة تشبه دمى الرسوم المتحركة الصغيرة التي تختلف هندستها تماماً عن هندسة الجسم البشري الحقيقي"، في إشارة إلى نسب صدور الدمى إلى بطونها غير الواقعية والحواف الحادة لمفاصلها التي يمكن تغيير وضعيتها. استخدم بلوكن في الدراسات التي أجرها دمى ملساء وصلبة مصممة بناءً على المسوحات الحقيقية لأجسام عدائي سباقات الماراثون.
في النهاية، لا تبقى أطراف العدّائين ثابتة في مكانها في أثناء الحركة. يقول بلوكن إن هذا الإعداد "قد يولّد نتائج واقعية عند دراسة عداء واحد"، لكنه يوضّح أن ظواهر ديناميكيا الموائع في التشكيلات تكون أكثر حساسية للتغيرات الطفيفة. في الواقع، كما أشارت صحيفة ذا نيويوركر في عام 2019، ضُبطت التشكيلة المستخدمة في سباق فيينا بدقة شديدة لدرجة أنه لو تحرك كيبتشوغه بمقدار 12.7 سنتيمتراً خارج مكانه، فسيصبح أكثر عرضة بكثير لتأثير قوة المقاومة الهوائية الديناميكية.
قد يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يختبر أحد أفضل عدائي الماراثون تشكيلة أخرى. يشارك كيبتشوغه عادة في ماراثونين فقط سنوياً. وسيُجري سباقه الثاني لعام 2023 في مدينة برلين في سبتمبر/ أيلول، حيث حقق الرقم القياسي العالمي الذي بلغ ساعتين ودقيقة واحد و9 ثوانٍ رسمياً في عام 2022 من دون مساعدة أي تشكيلة.