عندما يولد حيوان أو تنبت نبتة، لا يرث الجيل الجديد الحمض النووي من الآباء فحسب؛ بل إنه يرث أيضاً بعض الذكريات الجينية التي تحمل اسم "الذكريات فوق الوراثية". يمكن أن تتجلّى هذه الذكريات الجينية في تعبير جيني متغيّر بسبب الصدمة الناتجة من عوامل الضغط البيئية السابقة، أو في التعليمات الأساسية حول وظيفة العلامات الكيميائية الخلوية المحددة في الشيفرة الجينية التي يرثها الأبناء عن الآباء. الموروثات فوق الوراثية شائعة بصورة خاصة في النباتات، ويمكن أن يساعد فهم آلية عملها على إنتاج نباتات تتمتّع بقدرة أكبر على التحمّل بهدف تأمين الإمدادات الغذائية المستقبلية في مواجهة التغير المناخي العالمي.
العمليات الأساسية في المورثات فوق الوراثية
يقترب العلماء من فهم العمليات الأساسية وراء الموروثات فوق الوراثية في بعض النباتات، واكتشفوا الآلية التي يتبعها بروتين معين للتحكّم في هذه العمليات. وُصفت النتائج الجديدة بالتفصيل في دراسة نُشرت بتاريخ 28 أغسطس/ آب 2023 في مجلة سيل (Cell).
بحث فريق من مختبر كولد سبرينغ هاربور ومعهد هوارد هيوز الطبي في الدراسة الجديدة بعمق أكبر في الطريقة التي تورّث وفقها النباتات العلامات الكيميائية التي تعمل على تعطيل جينات تحمل اسم "الجينات القافزة" التي قد تكون مُخلّة. تحمل هذه الجينات أيضاً اسم "الجينات القابلة للنقل"، ويمكن أن تتحرك وتتسبب بالخلل في الجينات الأخرى داخل الخلايا عند تنشيطها. تجري الخلايا عملية تحمل اسم "المَثْيَلة" لتثبيط الجينات القافزة وحماية الجينوم، وتُضاف في هذه العملية علامات تنظيمية إلى المواقع المحددة في الحمض النووي التي تقفز فيها هذه الجينات.
اقرأ أيضاً: ما دور الرائحة في بقاء النباتات اللاحمة؟
المَثيلة
خلال عملية المثيلة، يساعد بروتين مثبّط للجينات يحمل اسم "دي دي إم 1" (DDM1) الإنزيمات التي تضع علامات كيميائية موروثة مهمة على خيوط الحمض النووي الجديدة للنبات على أداء وظائفها. تحتاج الخلايا النباتية إلى بروتين دي دي إم 1 لفك تشابك الحمض النووي لأن هذا الأخير متشابك بإحكام على نحو طبيعي. تلفّ الخلايا الحمض النووي فيها حول بروتينات الرصّ التي تحمل اسم "الهستونات" للحفاظ على تكثيفه على النحو الصحيح.
قال عالم الأحياء النباتية والمؤلف المشارك للدراسة، روب مارتينسن، في بيان صحفي: "تؤدي هذه العملية إلى منع مختلف أنواع الإنزيمات المهمة من الوصول إلى الحمض النووي". وأضاف قائلاً إن بدء عملية الميثلة "تتطلب إزالة هذه الهستونات أو إزاحتها".
هنا يدخل بروتين دي دي إم 1 المعادلة؛ إذ إنه يمرر الحمض النووي على طول بروتينات الرصّ لكشف المواقع في الخلية النباتية التي يجب تطبيق عملية الميثلة فيها. أوضح مارتينسن إن هذه العملية تشبه الطريقة التي ينزلق بها اليويو على طول خيطه. وقال إن الهستونات: "يمكن أن تتحرك للأعلى وللأسفل على الحمض النووي لتكشف عدة أجزاء منه في وقت واحد؛ لكنها لا تنفلت عنه أبداً".
اكتشف مارتينسن وزميله السابق، إريك ريتشاردز، بروتين دي دي إم 1 لأول مرة منذ 30 عاماً، وتعتمد الدراسة الجديدة على هذا الاكتشاف وتستخدم نوعاً من النبات يحمل اسم رشاد أذن الفأر.
دور الهستونات في العملية
حدد مارتينسن الهستونات التي يزيحها بروتين دي دي إم 1 في سلسلة من التجارب الوراثية والكيميائية الحيوية. بعد ذلك، استخدم عالم الأحياء الجزيئية والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، ليمور جوشوا-تور، عملية تحمل اسم "الفحص بالمجهر الإلكتروني الفائق البرودة" لالتقاط صور مفصلة لكل من الإنزيم الذي يتفاعل مع الحمض النووي وبروتينات الرصّ المرتبطة به. تمكّن الفريق من رصد بروتين دي دي إم 1 وهو يلتقط هستونات معينة لإعادة ترتيب الحمض النووي المرصوص.
اقرأ أيضاً: اكتشاف البروتين الذي يغلق مسام النبات ضد مسببات الأمراض
قال جوشوا-تور في بيان صحفي: "اتّضح أن الرابط غير المتوقع الذي يربط بروتينات دي دي إم 1 معاً يقابل الطفرة الأولى التي اكتُشفت منذ زمن طويل".
بيّنت التجارب التي أجراها المؤلفون أيضاً كيف يحافظ ميل بروتين دي دي إم 1 لإزاحة هستونات معينة على الضوابط فوق الوراثية عبر أجيال النباتات. هناك نوع من الهستونات يوجد فقط في حبوب اللقاح يتمتّع بمقاومة لبروتين دي دي إم 1، وهو يؤدي دور عنصر نائب في أثناء انقسام الخلايا. قال مارتينسن: "يتذكّر هذا النوع موقع الهستون في أثناء نمو النبات وينقل هذه الذاكرة إلى الجيل التالي". تساعد هذه المعلومات الأجيال الجديدة من النباتات على منع الجينات القافزة من الإخلال بالجينوم.
من المحتمل أن النباتات ليست الكائنات الحية الوحيدة التي تتمتّع بهذه الخاصية؛ إذ يعتمد البشر أيضاً على بروتينات مشابهة لبروتين دي دي إم 1 تحافظ على فعالية عملية مثيلة الحمض النووي. يمكن أن يستفيد العلماء من هذا الفهم الجديد لدور هذه العملية في علم ما فوق المورثات في تفسير كيف تحافظ هذه البروتينات على سلامة جينوم البشر وأدائه الوظيفي؛ ولكن ثمة حاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث.