هل يسهم الجسد جنباً إلى جنب مع الدماغ في القدرات الإبداعية؟

هل يسهم الجسد جنباً إلى جنب مع الدماغ في القدرات الإبداعية؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/ Sorapop Udomsri
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هل يشارك الجسد في عملية الإبداع والتفكير الإبداعي أمْ أن الأمر مقتصرٌ على الدماغ فقط؟ سوف نتكلم في هذا المقال عن الإبداع المجسّد (Embodied Creativity)؛ وهو مفهوم ينطوي على فكرة أن أجسادنا وتجاربنا الجسدية تؤدي دوراً أساسياً في تشكيل الإدراك والمعرفة. وفقاً لهذا المفهوم، فإن الإبداع ليس ناتجاً عن العمليات العقلية التي تحصل في الدماغ فقط، وإنما يتأثر أيضاً بالتفاعلات ما بين الدماغ والجسم والبيئة المحيطة. وإليك الآليات التي يؤدي الجسد من خلالها دوراً في الإبداع.

اقرأ أيضاً: جانب آخر من نظرية التطور: كيف طور أسلافنا الذكاء الجماعي؟

كيف يؤثّر الجسد في عملية الإبداع؟

الإدراك الحسي

تزوّد الأعضاء الحسية مثل أعضاء البصر والسمع واللمس وغيرها الدماغ بمعلومات حول العالم الخارجي. تشكّل هذه المدخلات الحسية الأساس للإلهام الإبداعي. على سبيل المثال، يمكن للإدراك البصري أن يُثير أفكاراً إبداعية عند الرسام، وكذلك الأمر بالنسبة للإدراك السمعي للموسيقيّ، فالحواس إذاً هي الأساس الفيزيولوجي للإدراك والإبداع، وقد يختلف إدراك الحواس نفسها من شخصٍ إلى آخر نتيجة أن تفسير الدماغ للمحفزات يختلف باختلاف الأفراد، وذلك بناءً على قدرات الفرد ومعرفته وذاكرته وعواطفه وتوقعاته. في الأحوال جميعها، تعد التجارب الحسية ضرورية للإبداع لأنها تساعد على جمع المعلومات وتكوين الارتباطات واستخلاص الإلهام من البيئة.

الأفعال الحركية

تعد قدرة الجسم على التفاعل مع البيئة من خلال الأفعال والمهارات الحركية جانباً حاسماً من الإبداع؛ إذ عندما ننخرط في أنشطة مثل الرسم أو الكتابة أو الرقص أو العزف على آلة موسيقية، فإن أفعالنا الحركية تترجم الأفكار الإبداعية إلى أنماط محسوسة. يمكن القول إن هذه الحركات ليست مجرد مخرجات فقط، وإنما حركات قد تسهم أيضاً في توليد أفكار جديدة؛ إذ يمكن لبعض التدخلات الحركية المصممة جيداً أن يسهم في تعزيز الإمكانات الإبداعية عند الافراد، وذلك وفقاً لدراسة منشورة في دورية “آفاق في علم النفس” (Frontiers in Psychology) عام 2021.

يقول مستشار الأعمال ومؤلف كتاب “تتبع العجائب: استعادة حياة ذات معنى وإمكانية في عالم مهووس بالإنتاجية” (Tracking Wonder: Reclaiming a Life of Meaning and Possibility in a World Obsessed with Productivity)، “إنه يمكننا أن نتعلم كيف يمكن للحركات الجسدية أن تحفّز الخيال واللغة من أجل التعلم وحل المشكلات والعمل الإبداعي، وقولبة الأفكار وتشكيلها ونحتها وليس مجرد الحديث عنها. بالنسبة لي، يحدث التعلم المتجسد عندما نتفاعل مع موضوع جمالياً و/أو عاطفياً و/أو جسدياً. إن التعلم المتجسد يوقظ الذكاء بداخلنا والذي ربما لم يكن متاحاً من قبل”.

اقرأ أيضاً: دراسة علمية: سرعة المشي قد تتنبأ بتدهور صحة الدماغ والشيخوخة المبكرة

الإدراك المجسّد 

الإدراك المجسّد (Embodied Cognition) هو إطار نظري مفاده أن العمليات المعرفية لا تقتصر على الدماغ، وإنما للجسد المادي دور فاعل فيها. يتحدى هذا المنظور وجهة النظر التقليدية التي تقول إن الإبداع هو عملية معرفية أو عقلية بحتة، وبدلاً من ذلك، يُسلّط الضوء على أهمية التجارب الجسدية والتصورات الحسية في تعزيز التفكير الإبداعي والابتكار. إذ وفقاً للباحثين في هذا المجال، فإن الجسم أو تفاعلات الجسم مع البيئة يشكّل أو يسهم في تشكيل الإدراك والإبداع بطرق تتطلب إطاراً جديداً للتحقيق فيها. على سبيل المثال، عندما نستخدم أيدينا للعزف أو الرسم أو الكتابة، فيمكن أن يحفّز ذلك العمليات المعرفية المتعلقة بحل المشكلات والإبداع. إذاً، يعمل الجسم كامتداد للفكر في تحقيق الإبداع.

الحالات العاطفية والجسدية

ترتبط العواطف والأحاسيس ارتباطاً وثيقاً بالإبداع؛ حيث أشارت دراسة في دورية “بلوس ون” (Plos One) نُشرت عام 2019، أن للحالات العاطفية سواءً كانت إيجابية أو سلبية تأثيراً في الإنتاج الإبداعي. على سبيل المثال، يمكن للحالات العاطفية الإيجابية مثل السعادة والاسترخاء أن تعزز التفكير الإبداعي في حين أن حالة التوتر قد تعوق حدوثه، كما يمكن في المقابل أن يعزز بعض الحالات العاطفية السلبية الأداء العاطفي عند الأفراد ذوي سمات شخصية محددة. مما لا شك فيه أن للعواطف تأثيراً كبيراً في العمليات المعرفية، مثل الإدراك والتعلم والذاكرة والتفكير وحل المشكلات، ولها تأثير قوي بشكلٍ خاص في الانتباه وتحفيز العمل والسلوك. 

الآليات العصبية 

ثمة العديد من الدراسات التي تشير إلى أن مناطق الدماغ المرتبطة بالإبداع مثل قشرة الفص الجبهي وشبكة الوضع الافتراضي (Default Mode Network) وغيرها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمناطق المسؤولة عن معالجة الأحاسيس والحركات الجسدية، ما قد يدل على أن التجارب أو الخبرات الجسدية تشكّل شيئاً من الأساس العصبي للإبداع. ومن هذه الدراسات، بيّنت دراسة منشورة في دورية التقارير العلمية (Scientific Reports) وجود تفاعل بين شبكة الوضع الافتراضي (شبكة من مناطق الدماغ تنشط عندما يكون الدماغ في حالة راحة أو منخرط في التفكير الاستبطاني) مع الأحاسيس والحركات الجسدية لإنتاج الأفكار الإبداعية.

اقرأ أيضاً: 5 أمراض تصيب مراكز اللغة في الدماغ

بالإضافة إلى ذلك، تطرقت دراسة أخرى منشورة في دورية العلوم النفسية (Psychological Sciences) عام 2016 وركّزت أساساً على دراسة العلاقة ما بين الذاكرة والإبداع إلى وجود ترابط ما بين العمليات المعرفية المختلفة، بما في ذلك التجارب الحسية، التي يمكن أن تؤثّر في التفكير الإبداعي. وهذا ما أكدته مراجعة منشورة في دورية النشرة النفسية (Psychological Bulletin) عام 2010، التي راجعت دراسات التصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي لمناطق الدماغ المرتبطة بالإبداع، ووضّحت مشاركة مناطق الدماغ المرتبطة بالأحاسيس والحركات الجسدية في العمليات الإبداعية.

تقدّم هذه الدراسات أدلة تدعم فكرة أن التجارب والحركات الجسدية والتصورات الحسية تؤدي دوراً في تشكيل عمليات التفكير الإبداعي، سواء على المستوى السلوكي أو العصبي، حيث تعد العلاقة بين الجسد والإبداع مجالاً مثيراً للاهتمام ويحتاج إلى المزيد من الأبحاث العصبية والنفسية وغيرها.