تتوجّه أنظار الفيزيائيين حول العالم إلى مصادم الهادرونات الكبير التابع لمنظمة سيرن مع عودته للعمل بعد إيقافه لفترة طويلة بغرض تحديثه. ولكن هذا المصادم ليس الأداة العلمية الوحيدة التي حصلت على تحديثات. إذ يتم إجراء التجهيزات النهائية على أداة علمية أخرى على بعد أكثر 9600 كيلومتر في الجزء المقابل من الكرة الأرضية.
يحتوي مختبر المسرّع الوطني في مركز المسرّع الخطي التابع لجامعة ستانفورد جنوب ولاية سان فرانسيسكو على ليزر كبير يدعى "مصدر لايناك للضوء المتّسق"، والذي يُتيح للعلماء استخدام الأشعة السينية لفحص الجزيئات. يقول مايك دون، مدير مختبر المسرّع الوطني: "يمكنك التفكير في مصدر لايناك للضوء المتسق على أنه مجهر فائق الدقة".
حصلت هذه الأداة مؤخراً على تحديث كبير اسمه "مصدر لايناك للضوء المتسق 2" يسمح لدرجة حرارة هذا الليزر أن تنخفض لتصبح أكبر بقليل من الصفر المطلق.
اقرأ أيضاً: العلماء يعيدون التألق للأشعة السينية
إعادة بعث الحياة في مصادم قديم للجسيمات
قبل قرن من الزمن، كان يحتوي نفق مركز المسرّع الخطي التابع لجامعة ستانفورد مسرعاً للجسيمات. وبينما تقوم معظم مسرعات الجسيمات الحالية بتسريع الجسيمات في مسارات دائرية، كان هذا المسرّع مستقيماً تماماً. وكان يجب أن يتجاوز طوله 3.2 كيلومتر حتى يتمكن من إيصال الإلكترونات إلى السرعة الكافية لإجراء التصادمات. كان هذا المسرع "المبنى الأطول في العالم" لعقود بعد افتتاحه. (وكان نفق التسريع المستقيم الذي يبلغ عدة كيلومترات طولاً والمحفور في التلال السفحية واضحاً لدرجة أن الطيارين كانوا يستخدمونه كنقطة علام).
كان هذا المصادم عند تشغيله لأول مرة في عام 1966 أعجوبة هندسية. وأدت أبحاث فيزياء الجسيمات التي تم إجراؤها فيه إلى أكثر من 3 جوائز نوبل في الفيزياء. لكن بحلول القرن الواحد والعشرين، أصبح هذا المصادم قديماً نوعاً ما، إذ تجاوزته المصادمات الأخير في منظمة سيرن وغيرها التي باتت قادرة على مصادمة الجسيمات بطاقات أكبر بكثير ورصد ظواهر لا يستطيع هذا المسرّع الخطي رؤيتها.
لكن هذه المنشأة لا تزال موجودة حتى الآن، وزوّدها مركز المسرع الخطي التابع لجامعة ستانفورد في 2009 بأداة جديدة هي مصدر لايناك للضوء المتسق.
تعتبر هذه الأداة الجديدة مثالاً على آلات تدعى ليزرات الإلكترونات الحرة التي تعمل بالأشعة السينية. على الرغم من أن هذه الأداة هي ليزر، فإنها لا تشترك بالكثير مع مؤشرات الليزر الصغيرة المحمولة التي يلعب بها الأطفال. تولّد هذه المؤشرات حزمة ليزرية باستخدام مكونات إلكترونية مثل الصمامات الثنائية.
بينما تشترك ليزرات الإلكترونيات الحرة التي تعمل بالأشعة السينية بالكثير مع مسرعات الجسيمات. في الواقع، فإن تسريع حزم الإلكترونات إلى سرعات قريبة جداً من سرعة الضوء هي المرحلة الأولى في عمل الليزر. والتي يليها مرور حزمة الإلكترونات عبر حقل مغناطيسي يجبرها على التحرك وفق مسار متعرّج بسرعة كبيرة. تصدر الإلكترونات في أثناء هذه العملية الطاقة المخزنة فيها على شكل أشعة سينية.
تتسبب هذه العملية بإصدار مختلف أنواع الأمواج الكهرومغناطيسية من الأمواج الميكروية إلى الأمواج فوق البنفسجية إلى الضوء المرئي. ولكن العلماء يفضّلون استخدام الأشعة السينية. ويعود ذلك إلى أن الأشعة السينية لها أطوال موجية تساوي أقطار بعض الذرات تقريباً، ويمكن عند تركيزها في حزم ذات طاقات عالية فحص الجزيئات الكيميائية المختلفة.
اقرأ أيضاً: الأشعة فوق البنفسجية مطهر قوي قد تستخدم لتعقيم الأماكن العامة
إن ليزر مصدر لايناك للضوء المتسق مختلف عن معظم الليزرات الأخرى التي تعمل بالأشعة السينية في العالم. إذ إنه يعمل كالأضواء المتقطّعة. يقول دون: "توثّق كل ومضة من ومضات هذا الضوء المتقطع الجزيء في حالة معينة".
كان يصدر هذا الليزر 100 ومضة كل ثانية. ما كان يتيح للعلماء على سبيل المثال تسجيل فيلم لتفاعل كيميائي أثناء حدوثه. إذ إنهم كانوا قادرين على مشاهدة تشكل الروابط بين الذرات وتفككها ومشاهدة تشكل جزيئات جديدة. من المحتمل أن يصبح هذا الليزر قادراً على تسجيل أفلام بمعدلات إطارات أسرع بآلاف المرات في المستقبل.
تبريد الليزر
تم استخدام هياكل نحاسية لتسريع الإلكترونات في أول مرحلة من عمل ليزر مصدر لايناك للضوء المتسق. ولكن أصبحت هذه الهياكل غير قادرة على تحمل الزيادات في الطاقة التي تنتجها هذه الآلة. يقول دون: "كانت الهياكل النحاسية تمتص نسبة كبيرة من طاقة حزم الإلكترونات، ما جعلها تذوب كما تنصهر الأسلاك داخل علبة الصهر".
هناك طريقة لحل هذه المشكلة، وهي تستغل أثراً كمومياً غريباً يدعى الموصلية الفائقة.
عندما تنخفض درجة حرارة مادة ما وتصبح أقل من حد معين، تصبح مقاومتها الكهربائية شبه معدومة. ما يسمح افتراضياً بتمرير تيار كهربائي عبرها دون أن يفقد هذا التيار أياً من طاقته إلى المحيط على شكل حرارة مهما طالت مدة تدفقه.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها هذه التكنولوجيا. ولكن تكمن المشكلة في أن الوصول إلى درجة الحرارة المنخفضة هذه والتي تبلغ عادة بضع درجات فوق الصفر المطلق ليس أمراً سهلاً.
يقول "جورج هوفستيتر"، فيزيائي من جامعة كورنيل عمل من قبل على هذه التكنولوجيا: "يصبح الحفاظ على متانة أنظمة التبريد هذه التي تنخفض درجة حرارتها كثيراً، أمراً صعباً للغاية". هناك مواد فائقة التوصيل تعمل في درجات حرارة أعلى قليلاً لكن لا يعمل أي منها في الأماكن التي يبلغ طولها مئات الأمتار.
اقرأ أيضاً: ما أهم مشاريع مصادم الجسيمات الأكبر في العالم بعد عودته للعمل؟
ربما كانت المنشآت الأصغر لتعجز عن حل هذه المشكلة، ولكن بنت إدارة مركز المسرّع الخطي في جامعة ستانفورد أجهزة تبريد بحجم مستودع في كل نهاية من نهايتي المنشأة. يُستخدم في هذين البرادين الهيليوم السائل لتبريد المسرّع درجة حرارة تبلغ 271 درجة مئوية تحت الصفر.
يجعل استخدام المواد فائقة التوصيل أيضاً هذه المنشأة أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة. من المعروف أن منشآت الأبحاث الفيزيائية الكبيرة تستهلك كميات من الطاقة الكهربائية تعادل تلك التي تستخدمها دولة صغيرة. يقول هوفستيتر: "تعتبر تكنولوجيا التوصيل الفائق بحد ذاتها تكنولوجيا صديقة للبيئة نوعاً ما. وذلك لأنه يتم تحويل نسبة صغيرة فقط من طاقة المسرّع إلى حرارة".
سيصبح ليزر مصدر الضوء المتسق 2 قادراً على توليد مليون نبضة في الثانية بعد الانتهاء من التحديثات.
ما هي استخدامات هذه التكنولوجيا؟
يقول دون إن هناك 3 مجالات رئيسية يمكن أن تساهم فيها هذه التكنولوجيا في تقدم العلم. أولاً، يمكن أن تساعد حزم الأشعة السينية علماء الكيمياء في جعل التفاعلات الكيميائية أكثر سرعة مع استخدام كمية أقل من المواد، ما قد يؤدي إلى تطوير طرق صناعية أكثر رفقاً بالبيئة أو ألواح شمسية أكثر كفاءة.
من ناحية أخرى، يمكن للأداة أن تساعد علماء الأحياء في اكتشاف الأدوية من خلال كشف الطريقة التي تؤثر فيها المستحضرات الصيدلانية على الإنزيمات في جسم الإنسان والتي تصعب دراستها بطرق أخرى.
وأيضاً، يمكن أن تساعد هذه الحزم علماء المواد في الوصول لفهم أفضل للطريقة التي تتصرف فيها المواد في ظل الظروف المتطرفة مثل التعرض لوابل من الأشعة السينية. يمكن للعلماء أيضاً استخدام هذه التكنولوجيا في تصميم مواد جديدة مثل الموصلات الفائقة الأكثر كفاءة التي يمكن استخدامها لبناء مخابر فيزيائية مستقبلية مثل مركز المسرّع الخطي في جامعة ستانفورد تماماً.
كما هو الحال في أي عملية تحديث كبيرة للمنشآت العلمية مثل هذه المنشأة، يجب على الفيزيائيين أن يتعلموا كيفية استخدام أدواتهم الجديدة. يقول دون: "يجب علينا نوعاً ما أن نتعلم كيفية إجراء هذه التجارب من الصفر"، ويضيف: "يعود ذلك إلى أن هذه التجارب لم تعد كما كانت من قبل، بل أصبحت تمثّل مجالاً جديداً كلياً".
اقرأ أيضاً: ما هو “جليد 7″، ولماذا يستخدم العلماء الليزر لصنعه؟
إحدى المشكلات التي يجب على الباحثين حلها هي إيجاد طريقة للتعامل مع الكم الهائل من البيانات التي ينتجها الليزر، والتي تبلغ 1 تيرابايت كل ثانية. هذه المشكلة هي من المشكلات التي تواجهها المنشآت الكبيرة بالفعل، وستصبح أكبر على الأرجح إذا لم تتطور الشبكات والحواسيب الفائقة لتجاريها.
مع ذلك، لم يخفف ذلك من حماس الفيزيائيين للاستمرار في تطوير المنشآت. إذ يخطط العلماء بالفعل لتزويد الليزر بتحديث جديد من المقرر إنجازه في أواخر العقد الجاري، والذي سيزيد المستويات الطاقية لهذا الليزر ويسمح له بالتعمق أكثر في عالم الذرات.