تصل إشارات راديوية غريبة إلى الأرض وتحيّر العلماء. يمكن استشعار هذه الإشارات آلاف المرات يومياً، وذلك إذا عرف علماء الفلك مكان العثور عليها.
على الأرجح أنه لم يتم توليد هذه الإشارات من قبل الكائنات الفضائية التي تحاول التواصل مع البشر. يدعو العلماء هذه الإشارات الدفقات الراديوية السريعة، وهي تعتبر من أكبر الألغاز الفلكية المحيرة في يومنا هذا. بدأ العلماء في تشكيل صورة عن منشأ هذه الإشارات، ولكنهم ليسوا متأكدين تماماً من سبب تشكّلها.
يعمل علماء الفلك حالياً على اكتشاف منشأ الدفقات الراديوية السريعة؛ إذ قام باحثون من جامعتي نانجينغ وهونغ كونغ بنمذجة منشأ أحد أنواعها في ورقة بحثية نشرت بتاريخ 21 سبتمبر/ أيلول 2022 في مجلة نيتشر كوميونيكيشنز، ودرسوا في هذا البحث دفقة سريعة متكررة تحمل اسم إف آر بي 20201124 أيه (FRB 20201124A).
اقرأ أيضاً: استغرق 13 مليار سنة ليصل إلينا: أبعد نجم زائف يرسل انبعاثات راديوية
إن الدفقات الراديوية السريعة قصيرة؛ إذ إن معظمها لا يدوم سوى ثانية أو ثانيتين، أو حتى أقل. كما أنه من اسمها، فهي دفقات، ويعتقد أن طاقتها تساوي طاقة شمسنا عند إطلاقها. مع ذلك، تصبح هذه الدفقات أضعف بكثير من الموجات الراديوية التي تصدرها الأرض بحلول الوقت الذي تصل فيها إلينا. ما يفسّر بشكل جزئي صعوبة تحسسها.
رصد علماء الفلك السماء بحثاً عن هذه الدفقات السريعة باستخدام التلسكوبات الراديوية لأكثر من عقد من الزمن. وفي عام 2007، وجد علماء الفلك الذين فحصوا بيانات عمرها 6 سنوات نبضة قصيرة وسريعة غير معروفة المنشأ. وكانت هذه النبضة الأولى من بين مئات النبضات التي رُصدت حتى الآن.
إشارات مجهولة المصدر
لا يزال منشأ الدفقات الراديوية السريعة مجهولاً. وذلك إذا افترضنا أن لها منشأ واحداً في المقام الأول. اقترح علماء الفيزياء الفلكية تفسيرات تتعلق بالثقوب السوداء والنجوم النيوترونية والمستعرات العظمى ودفقات من أشعة غاما، وغيرها من الظواهر البعيدة (ومن ضمنها الكائنات الفضائية بالطبع).
أحد التفسيرات المحتملة هو النجم المغناطيسي، وهو أحد أنواع النجوم النيوترونية عالية الطاقة التي تمتلك حقولاً مغناطيسياً بالغة الشدّة تصل قوّتها إلى تريليون ضعف الحقل المغناطيسي الأرضي. في عام 2020، رصد علماء الفلك دفقة راديوية سريعة تصدر عن نجم مغناطيسي يوجد في مجرة درب التبانة.
اقرأ أيضاً: إشارات فضائية غريبة قد تكون ناتجة عن دقائق دوارة من الغبار الماسي
وحتى في ذلك الوقت، لم تكن الآلية التي تجعل النجم المغناطيسي يولّد الدفقات الراديوية السريعة مفهومة. يعتقد بعض علماء الفلك أن ذلك يتعلق بدوران النجم المغناطيسي حول نفسه، ما قد يولّد بعض أنواع الدفقات الراديوية بتواتر يمكن للعلماء التنبؤ به، والذي يمكن تشبيهه بالتوقيتات الدقيقة لنجم نابض دوّار. يطلق علماء الفلك على هذه الظاهرة اسم الدوريّة. مع ذلك، لم يتمكن العلماء من إيجاد أدلة على هذه الظاهرة في أغلب الحالات. (تنص فرضية أخرى على أن منشأ بعض أنواع الدفقات الراديوية السريعة هو أقراص الغاز والغبار التي تتشكّل حول الثقوب السوداء).
ما يجعل الموضوع أكثر تعقيداً هو أن الدفقات الراديوية السريعة تختلف عن بعضها؛ إذ يومض بعضها مرة واحدة ويختفي للأبد، بينما يومض بعضها الآخر أكثر من مرة. تتوقف بعض الدفقات عن الوميض لبضعة أيام، ثم تومض بشكل عشوائي لفترة قصيرة وتختفي مجدداً. كما يومض بعض هذه الدفقات لعشرات المئات من المرات بتتابع سريع. وتعتبر الدفقة إف آر بي 20201124 أيه من النوع الأخير هذا.
البحث عن إف آر بي 20201124 أيه
رصد العلماء هذه الدفقة لأول مرة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 (ولهذا سميت بهذا الاسم). وقاموا بذلك باستخدام تلسكوب تشايم (التجربة الكندية لتخطيط كثافة الهيدروجين، CHIME)، وهو تلسكوب راديوي في مقاطعة كولومبيا البريطانية يبحث العلماء باستخدامه حالياً عن المزيد من الدفقات الراديوية السريعة. يمسح هذا التلسكوب السماء يومياً، متوقّفاً بشكل مؤقت في بعض النقاط لبضع دقائق. تمكّن هذا التلسكوب من رصد دفقة إف آر بي 20201124 أيه في إحدى هذه الوقفات المؤقتة.
بدت هذه الدفقة لأول وهلة مثل أي دفقة راديوية سريعة أخرى. يقول آدام لانمان (Adam Lanman)، عالم الفيزياء الفلكية في مرحلة ما بعد الدكتوراة في جامعة ماكجيل، والذي ساهم في رصد دفقة إف آر بي 20201124 أيه: "لم نعلن عن هذا الرصد مباشرةً". ولكن هذا تغير في وقت قصير.
في أبريل/ نيسان 2021، رصد تلسكوب تشايم نفس الدفقة ولكنها كانت تنبض بشكل متكرر. قام علماء تلسكوب تشايم عندها بإيصال الخبر إلى مجتمع علم الفلك. ويقول لانمان: "بدأت العديد من المراصد الأخرى برصد الكثير من النبضات لنفس الدفقة الراديوية".
اقرأ أيضاً: التقاط إشارات غريبة من مجرة بعيدة
كان مرصد فاست (التلسكوب الكروي بفتحة 500 متر، FAST) أحد هذه المراصد، وهو أكبر تلسكوب راديوي في العالم، ويقع في جبال مقاطعة غوزاو جنوب غرب الصين. أفاد علماء مرصد فاست في ورقة بحثية أخرى نُشرت في مجلة نيتشر بتاريخ 21 سبتمبر/ أيلول 2022 بأنهم رصدوا نحو 2000 نبضة أخرى من دفقة إف آر بي 20201124 أيه قبل اختفائها مجدداً.
يقول وانغ فايين (Wang Fayin)، عالم الفيزياء الفكية في جامعة نانجينغ: "يمكن أن تساعدنا هذه العينة الكبيرة من البيانات في اكتشاف منشأ الدفقات الراديوية السريعة".
الدفقات الراديوية السريعة المتكررة ليست ظاهرة جديدة، لكن لاحظ علماء مرصد فاست وجود عدد من البصمات الفريدة في الأمواج الراديوية والتي تشير إلى أن شيئاً ما كان يتسبب بتغيّرها. يقول وانغ: "تمتلك دفقة 20201124 أيه بعض السمات الفريدة التي دفعتنا لإنشاء نموذج لها".
نموذج لنظام نجمي
قام وانغ وزملاؤه بإنشاء نموذج لهذه الدفقة. ويشير هذا النموذج إلى أن إف آر بي 20201124 أيه نشأت من نجم مغناطيسي، ولكنه ليس السبب الوحيد لتشكّل هذه الدفقة. عندما تصدر الأمواج الراديوية من نجم مغناطيسي، فإنها تمر عبر غلاف النجم الذي يدور حوله هذا النجم المغناطيسي. تدور بعض النجوم المغناطيسية حول نوع خاص من النجوم يحمل اسم النجوم بي (Be stars)، وهي نجوم ساطعة للغاية تُحاط بأقراص من البلازما والغاز. تمر الأمواج الراديوية عبر هذه الأقراص، ما يفسّر سماتها المميزة.
يقول جوناثان كاتز (Jonathan Katz)، عالم الفيزياء الفلكية في جامعة واشنطن في مدينة سانت لويس، والذي لم يشارك في البحث الجديد: "كل المعلومات في هذا النموذج تخمينية، ولكن ليس من المستحيل أن تكون صحيحة".
يقول لانمان، والذي لم يشارك في البحث الجديد أيضاً: "لم أرَ أي ورقة بحثية أخرى على نفس القدر من التفصيل مثل الورقة الجديدة".
اقرأ أيضاً: قد يكون اتصالنا الأول مع الكائنات الفضائية عن طريق روبوتاتهم
مع ذلك، لا يفسّر هذا النموذج الجديد بيانات مرصد فاست بكاملها؛ إذ إن هناك بعض التباينات التي يعجز عن تفسيرها بشكل كامل. يقول كاتز: "بغض النظر عن المنشأ الدقيق لهذه الدفقة، فقد يساهم النموذج الجديد في تفسيرها. ولكن هناك الكثير من العوامل الأخرى المساهمة".
إن نمذجة الدفقات الراديوية السريعة ليست آلية جديدة. اعتقد العلماء أن الدفقات الراديوية السريعة المتكررة تنشأ عن النجوم النيوترونية أو الثقوب السوداء التي تدور حول النجوم. ومن ناحية أخرى، فالآلية التي تتسبب بتكرار دفقة إف آر بي 20201124 أيه ليست مفهومة. يقول كاتز إن المجموعات البحثية لم تتمكن بعد من دراسة بيانات مرصد فاست بحثاً عن أدلة على ظاهرة الدوريّة.
مع ذلك، إذا كان منشأ هذه الدفقة نجماً مغناطيسياً يدور حول نجم آخر يبحث علماء الفلك عنه، فسيسهّل ذلك عملية إيجاد هذا النجم المغناطيسي بالنسبة لهم. ساهمت البيانات التي استخدمها الباحثون لتصميم النموذج الجديد بتضييق مجال البحث عن مصدر دفقة إف آر بي 20201124 أيه، إذ إنه أصبح محصوراً بمجرة واحدة فقط، وهو أمر سيساعد علماء الفلك على إيجاد هذا المصدر لاحقاً. قد يجد العلماء هذا المصدر من خلال البحث باستخدام أطوال موجية أخرى، مثل الأشعة السينية أو أشعة غاما.
اقرأ أيضاً: تصادمات كونية بين النجوم القزمة البيضاء
حاول علماء الفلك مسح المجرة سابقة الذكر باستخدام الأشعة السينية من قبل. لكن النموذج الجديد يمكن أن يساعدهم في تضييق مجال البحث أكثر، وهذا ما ينصح به لانمان، إذ يقول: "لا شك في أن البحث باستخدام الأشعة السينية في المستقبل هو أمر ضروري".