يعتبر وصول البشر إلى القمر والمشي عليه واحداً من أهم الإنجازات البشرية. ولكن إذا سألت أحد علماء الأنثروبولوجيا الحيوية، على الأرجح أن يقول إن أهم إنجاز بشري هو امتلاك القدرة على المشي على قدمين. مع ذلك، لا تزال الآلية الدقيقة التي تسببت بتطور هذا السلوك الحركي لدى أسلاف البشر المبكرين غير مفهومة بشكل جيد.
تبيّن دراسة جديدة نُشرت بتاريخ 14 ديسمبر/ كانون الأول 2022 في مجلة ساينس أدفانسيس (Science Advances) أن أسلاف البشر طوّروا القدرة على المشي على قدمين بهدف جمع الطعام من أغصان الأشجار بكفاءة أكبر. من المحتمل أن تغيّر هذه النتائج الجديدة الفرضية التي سادت لزمن طويل حول تطور المشي على قدمين لدى البشر.
تقول طالبة الدكتوراة في الأنثروبولوجيا الحيوية بجامعة كينت البريطانية والمؤلفة الرئيسية للدراسة الجديدة، ريانا دراموند-كلارك (Rhianna Drummond-Clarke): " المشي على قدمين سمة مميزة للسلالات البشرية وهي التي تفصل أحافير أسلافنا عن القرود . لذلك، فإن فهم كيفية تطورها ضروري للغاية لفهم ما يجعلنا بشراً".
اقرأ أيضاً: هل أثّر تغير المناخ قديماً في عملية التطور البشري؟
فرضية السافانا
يشير المؤلفون في الدراسة إلى أنه إذا تعرّضت إحدى الحاجات الأساسية، مثل الحاجة للطعام أو الماء أو الهواء أو المأوى، لتهديد ما، فمن المرجح أن يجبر الضغط التطوري للبقاء أسلافنا الأوائل على التكيّف. تحمل الفرضية السائدة لتطور المشي على قدمين والتي يدعمها علماء الأنثروبولوجيا اسم "فرضية السافانا"، والتي تنص على أن أسلافنا بدؤوا بالمشي على قدمين كاستجابة للتغيرات البيئية.
قبل نحو 10-2.5 مليون سنة، بدأت الغابات الاستوائية بالتحول إلى سهول السافانا الجافة والمفتوحة. وأدى انخفاض عدد الأشجار إلى انخفاض في عدد مصادر الغذاء المتاحة. ما أجبر أسلاف البشر على التخلّي عن جمع الطعام من الأشجار والبدء بجمعه على الأرض. يفترض أن هذا التغير في الموطن هو العامل الأساسي الذي أدى إلى تطوّر سمة المشي على قدمين.
مع ذلك، يشكك بعض علماء الأنثروبولوجيا في هذه الفرضية. يقول عالم الأنثروبولوجيا الحيوية في كلية لندن الجامعية وكبير مؤلفي الدراسة الجديدة، ألكسندر بيل (Alexander Piel)، إن تراجع الغابات أسهم في تطور المشي على قدمين على الأرجح، ولكنه لم يكن العامل الأساسي بالضرورة.
اقرأ أيضاً: الحمض النووي القديم يحل بعض ألغاز حياة البشر الأوائل في إفريقيا
يتمثّل أحد أسباب عجز العلماء عن إيجاد جواب حاسم لهذا السؤال في غياب ما يكفي من الأحافير التي تعود لأسلاف البشر الذين عاشوا في الفترة الزمنية التي يُعتقد أن المشي على قدمين تطوّر فيها. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأدلة المتوفرة بالفعل لا تدعم تماماً فرضية السافانا. على سبيل المثال، بيّنت الأبحاث السابقة التي هدفت إلى إعادة إنشاء المواطن القديمة خلال نفس الفترة الزمنية أن الأحافير لم توجد في الأراضي العشبية المفتوحة بل في المناطق المشجرة.
بالإضافة إلى ذلك، تحتوي أحافير أشباه البشر المتوفرة على علامات تبين وجود أطراف أمامية شبيهة بأطراف القرود، والتي من المحتمل أنها ساعدت الكائنات التي تمتلكها على التأرجح من الأشجار وتسلّقها. لهذا السبب يميل بيل للاقتناع بالفرضية الشجريّة، والتي تنص على أن البشر طوّروا سمة المشي على قدمين لجمع الطعام من الأشجار بكفاءة أكبر.
المشي من أهم السمات التي ميزت البشر
في الدراسة الجديدة، أمضى المؤلفون 15 شهراً في دراسة سلوك 13 من قرود الشمبانزي في سهول السافانا في وادي إيسا، تنزانيا. وفقاً لبيل، اختار الفريق دراسة هذه القرود لأنها قريبة وراثياً من البشر وتعيش في موطن يشبه ذلك الذي تطوّرت فيه سمة المشي على قدمين منذ ملايين السنين. يقول بيل: "لا يوجد مكان أفضل لدراسة هذه السمات، والضغوط التطورية التي أسهمت بظهورها، والتي تعتبر من أهم السمات البشرية التي تميّز نوعنا".
تنتمي قرود الشمبانزي التي تعيش في وادي إيسا إلى نوع من الرئيسيات يقضي أفراده نحو نصف حياتهم على الأشجار، بينما يقضي بقية الوقت على الأرض. سعى مؤلفو الدراسة إلى اختبار ما إذا كان العيش في السافانا يزيد من الوقت الذي تقضيه القرود على الأرض مقارنة بالعيش في منطقة مشجرة. وبيّنت النتائج أن هذه القرود أمضت نفس الوقت على الأشجار بغض النظر عما إذا تواجدت في غابة أو سهل سافانا.
بالإضافة إلى ذلك، بيّنت دراسة البيانات المتعلقة بحركة مجموعات أخرى من الشمبانزي في أبحاث سابقة أن قرود الشمبانزي التي تعيش في وادي إيسا أمضت المزيد من الوقت على الأشجار مقارنة بالقرود التي عاشت في الغابات. في الواقع، شابه سلوك هذه القرود قرود الشمبانزي المنتشرة في بلدة كيبالي في أوغندا، والتي تعيش في الغابات.
اقرأ أيضاً: 3 أسباب تجعل آثار أقدام البشر القديمة في الساحل الغربي لجنوب إفريقيا اكتشافاً مثيراً
علاقة المشي بتسلق الأشجار
عندما يتعلق الأمر بالمشي على قدمين، لاحظ المؤلفون ظاهرة مثيرة للاهتمام بين قرود الشمبانزي في وادي إيسا. لاحظ هؤلاء أن هذه القرود تمشي على قدمين بشكل متكرر أكثر عندما تكون على الأشجار مقارنة بالوقت الذي تكون فيه على الأرض. مشت القرود على قدمين بشكل أكثر تكراراً عندما كانت تبحث عن الطعام في الغابة. تبين النتائج أنه من المحتمل أن سمة المشي على قدمين تطوّرت كطريقة لقضاء المزيد من الوقت في البحث عن الطعام على الأشجار المتوفرة في السافانا.
يقول عالم المورفولوجيا التطورية وعالم الأنثروبولوجيا القديمة في جامعة نيويورك، سكوت ويليامز (Scott Williams، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة، إن هذه الدراسة تعتبر مساهمة "رائعة" للبيانات المتعلقة بالحركة. مع ذلك، يعتقد ويليامز أن سمة المشي على قدمين تطوّرت بسبب انتشار السافانا. وفقاً لويليامز، إن البيانات التي تظهر أن قرود الشمبانزي في وادي إيسا تمارس المشي على قدمين بمعدل أكبر بـ 4-25 مرة من القرود التي تعيش في الغابات يمكن تفسيرها بطريقة مختلفة.
يقول ويليامز: "بالنسبة لي، يشير هذا السلوك إلى نتيجة معاكسة لما وصل إليه مؤلفو الدراسة، وهي تنص على أن تشكّل مواطن السافانا تسبب بانتشار سمة المشي على قدمين بين أشباه البشر المبكرين". يضيف ويليامز قائلاً إن قرود الشمبانزي ربما أمضت وقتاً أطول على الأشجار لأن البحث عن الطعام في المواقع الأعلى كان أكثر أماناً، ولأنه قلل من تعرّضها للمفترسات مقارنة بالبحث عن الطعام على الأرض في سهول السافانا المفتوحة.
من ناحية أخرى، لا يعارض بعض علماء الأنثروبولوجيا الفكرة التي تنص على أن سمة المشي على قدمين تطورت نتيجة لعوامل مختلفة عن تغيّر المواطن. تقول أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة نيفادا، لاس فيغاس، أليسا كريتندن (Alyssa Crittenden)، إن الدراسة الجديدة تقدّم أدلة قوية تدعم الفرضية الشجرية، خصوصاً نظراً لمكان إجراء البحث.
قالت كريتندن في رسالة عبر البريد الإلكتروني لموقع بوبساي: "على الرغم من أن أنظمة السافانا البيئية تستخدم في أغلب الأحيان عند دراسة تطور المشي على قدمين، فمن النادر أن نحظى بالفرصة للتعلم من قرود الشمبانزي التي تعيش في هذه المواطن بشكل مباشر"، وأضافت: "توفّر هذه الدراسة المهمة أدلة تدعم الفرضية التي تنص على أن سمة المشي على قدمين بين أشباه البشر تطوّرت في مواطن مشجرة على الأرجح، وأنها استمرت لفترة طويلة بعد بدء أشباه البشر بالعيش في مواطن مفتوحة تحتوي على عدد أقل من النباتات".
اقرأ أيضاً: هل أكل اللحوم هو ما جعلنا بشراً فعلاً؟
عيوب الفرضية الشجرية
على الرغم من أن الدراسة أجريت في موقع فريد يشبه المواطن القديمة كثيراً، يشير ويليامز إلى أن أحد العيوب التي تعاني منها الفرضية الشجرية هو أنها لا تفسّر تطور سمة المشي على قدمين بين الحيوانات الأخرى التي لا تعيش على الأشجار، مثل الكناغر والفئران القافزة وحتى الصراصير.
يقول ويليامز: "من الواضح أن السمات التي تمتلكها أنواع أشباه البشر، مثل قرد الأرض والقرد الجنوبي والبشراني، تتعلق بالحركة على الأرض وليس الحركة على الأشجار"، ويضيف: "مع ذلك، طوّرت العديد من الأنواع تكيّفات [أخرى] نتيجة العيش على الأشجار، وهو أمر كان مفيداً في المناطق التي ينتشر فيها الطعام على الأشجار وتنتشر فيها المفترسات على الأرض".
اقرأ أيضاً: كيف تلعب جينات إنسان نياندرتال دورها في حمايتنا من الأمراض؟
تتمثّل الخطوة التالية التي سيتخذها مؤلفو الدراسة الجديدة في دراسة الموارد المتوفرة لقرود الشمبانزي في وادي إيسا، وسيساعدهم ذلك في تفسير كيفية تمكّن أسلاف البشر من قضاء وقت طويل على الأشجار على الرغم من انخفاض عددها في السافانا.