في القرن التاسع عشر، أشبع بعض الباحثين عن الإثارة رغباتهم من خلال ممارسة لعبة حملت اسم "الأرجوحة المسكونة". توجد هذه اللعبة في غرفة تبدو عادية؛ إذ إنها كانت مفروشة بطاولة وكراسي، واحتوت أيضاً في حالة واحدة على الأقل على بيانو. ولكن كانت هناك حيلة، احتوت الغرفة على عدد من المقاعد المعلّقة على أرجوحة من عارضة حديدية عبر منتصفها، مثل قوارب الجندول التي لها شكل سفن القراصنة الموجودة في الكرنفالات الحديثة. بعد أرجحة المقاعد ذهاباً وإياباً، يوقف المسؤول الأرجوحة ويدوّر الغرفة بأكملها حول الركّاب (قطع الأثاث جميعها مثبتة على الأرض). استمتع بعضهم بهذه اللعبة، وشعر آخرون بأنهم سيتقيؤون.
قال أحد زوار مهرجان ميدوينتر لعام 1894 في سان فرانسيسكو: "شعر الكثيرون بالغثيان بسبب هذا الوهم. قابلت عدداً من الرجال الذين قالوا إنهم لم يتمكنوا من الخروج من المبنى إلا بصعوبة بسبب الدوار والغثيان". ما شعر به هؤلاء هو نوع من أنواع دوار الحركة الناجم عن عدم التوافق بين سكون أجسادهم في أثناء الجلوس والمحيط الذي يدور حولهم.
اقرأ أيضاً: كيف يتم قياس سرعة الضوء؟
دوار الحركة هو مرض تتسبب به التكنولوجيا بصورة حصرية. يحدث دوار الحركة عندما نشعر بالسكون داخل مركبة تتحرك، سواء كانت سيارة أو سفينة أو طائرة، ما يحفّز الشعور بالدوار. ولكن يمكن أن يحدث أيضاً نتيجة بعض وسائل التسلية أو الأجهزة البصرية. ربما تسببت لعبة الأرجوحة المسكونة بما يسميه الخبراء اليوم داء الحركة الناجم عن الإبصار، وهو إحساس يمكن أن نشعر به في أثناء ارتداء نظّارة الواقع الافتراضي أو الجلوس في الصف الأمامي لمشاهدة فيلم ثلاثي الأبعاد مثل أفاتار. يمكن أن يتسبب نوعا دوار الحركة بتأثيرات متشابهة ضارة أو شعور مزعج في القناة الهضمية.
أعراض دوار الحركة وأسبابه
الغثيان والتقيؤ هما من أبرز أعراض دوار الحركة. يظهر إحساس الغثيان المزعج أولاً عادة، ولكن من المحتمل أن تعاني أحد العَرَضين دون الآخر؛ إذ يمكن أن يتقيأ المصابون بدوار الحركة دون سابق إنذار أحياناً. تشمل الأعراض أيضاً الشعور بالحمى (من دون أي زيادة حقيقية في درجة حرارة الجسم) والدوخة والتوهان والصداع وفقدان الشهية والإفراز المفرط للعاب وإطراح العرق البارد.
عموماً، هناك تفسيران محتملان رئيسيان لهذا المرض، نظرية عدم الاستقرار الوضعي، ونظرية التضارب الحسي. ينصُّ التفسير الأول على أن شعور الغثيان يظهر عندما نفقد السيطرة على وضعيتنا، كما هو الحال عندما نكون في زورق تهزّه الأمواج. بينما ينص الثاني، الذي يُستشهد به كثيراً في الأبحاث الطبية، على أن الدوار ينتج عن التضارب بين الأنظمة الحسية والمخططات الدماغية التي تحدد الحالة الطبيعية.
يقول أستاذ علم النفس التطبيقي في جامعة وستمنستر في لندن، جون غولدنغ، الذي درس دوار الحركة منذ أواخر الثمانينيات، إن الأرجوحة المسكونة هي "مثال تقليدي على التضارب الحسي".
بينما تتحرك أجسامنا عبر المساحات المختلفة، تسجّل أدمغتنا أنماط انطباعاتها الحسية عن هذه التجارب. على سبيل المثال، تمنحنا أعيننا إشارات بصرية عندما نلف رؤوسنا، ولكن هناك أنظمة أخرى تعمل. يسجّل كل من النظام الدهليزي والعضلات والمفاصل الحركة أيضاً. تشمل هذه الشبكة الحسية المسؤولة عن الحفاظ على توازن الجسم وتوجيهه جذع الدماغ والأذن الداخلية.
اقرأ أيضاً: تقنية جديدة للتعديل الوراثي تتفوق على كريسبر وتفتح الآفاق أمام علاجات وراثية جديدة
وهذا التفصيل مهم لسبب أساسي. يقول كبير العلماء في معهد كايت-تورونتو لإعادة التأهيل في كندا التابع لمستشفى يونيفيرسيتي هيلث نيتوورك، بهرانج كيشافارز، الذي يدرس الواقع الافتراضي ودوار الحركة، إن أدمغة البشر "تشبه الأرشيف"؛ إذ إنها قادرة على "انتقاء التجارب التي نمر بها ومقارنتها" بالتصورات السابقة. إذا كانت أحاسيس أجسادنا يتطابق بعضها مع بعض؛ أي إذا توافقت العيون مع الجهاز الدهليزي وتوافقت توقعات أدمغتنا مع كل ذلك، فلن نعاني أي مشكلة.
إذا اضطرب هذا التوافق قليلاً، لن يؤدي ذلك إلى أي مشكلة على الأرجح. ولكن إذا تولّد تفاوت كبير في مزامنة هذه الأحاسيس والعمليات، ستبدأ المشكلات. المثير للدهشة هو أن شدة الحركة الجسدية لا يبدو أنها تؤثر في الدخول في حالة دوار الحركة. يقول غولدنغ: "لن تشعر بدوار الحركة في أثناء ركوب الخيل"، بغضِّ النظر عن عنف حركات الحصان. ويضيف: "قد تتسبب الحركات الأقل شدة بدوار الحركة".
هل هناك تفسير تطوري لسهولة دخولنا في حالة الاضطراب هذه؟ يقول غولدنغ إن إجابة هذا السؤال ليست واضحة، لكن اقترح بعض الخبراء تفسيراً يحمل اسم "نظرية السموم"، التي تنص على أن "ما نسميه داء الحركة هو ببساطة توصيف غير دقيق لرد فعل دفاعي قديم جداً". بتعبير آخر، تعتقد أدمغتنا التي تشعر بالدوار أن الجسم يحتوي على سم وتجبرنا على التقيؤ لطرد المادة الضارة.
يعد البعض أكثر عرضة للإصابة بدوار الحركة. وجدت الأبحاث التي أجراها غولدنغ أن الذين يعانون الصداع النصفي أكثر عرضة للإصابة بهذا المرض. قد يحتوي الجينوم على أدلة مخفية متعلقة بدوار الحركة، ولكن الأبحاث حول هذا الموضوع لا تزال في مراحلها المبكّرة. حددت إحدى دراسات الحمض النووي القليلة، التي أجرتها شركة علم المورثات، 23 آند مي ، 35 متحوّراً وراثياً مختلفاً على الأقل مرتبطاً بدوار السيارة. يشبّه غولدنغ هذه النتيجة بالمنحنى الجرسيّ الذي يصف طول البشر على اختلاف جماعاتهم؛ إذ إنه لا توجد مورّثة واحدة مسؤولة عن طول البشر، بل هناك الآلاف من المورثات المسهمة.
يمكن أن يؤدي كل من العمر والجنس دوراً أيضاً. لا يصاب الأطفال الذين تقل أعمارهم عن عام واحد بدوار الحركة إلا نادراً، ويصل معدّل الإصابات إلى ذروته عند عمر 8 سنوات تقريباً، ثم ينخفض مع الدخول في مرحلة البلوغ. تختلف هذه المعدلات بالنسبة لداء الحركة المستحثّ بصرياً؛ إذ إنه من المرجح أن يشعر الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً بالغثيان في أثناء استخدام جهاز محاكاة القيادة على سبيل المثال. في الوقت نفسه، يشير بعض الدراسات إلى أن معدل الإصابة بدوار الحركة بين الإناث أكبر من نظيره لدى الذكور. لكن كيشافارز، الذي يعمل أيضاً أستاذاً غير متفرّغ في قسم علم النفس في جامعة تورنتو متروبوليتان، يقول إن أبحاثه والتجارب الأخرى لم تكشف أي تفاوت في معدلات الإصابة بين الجنسين.
الوقاية من دوار الحركة وعلاجه
أفضل طريقة للتعامل مع دوار الحركة هي تجنّب الممارسات التي تؤدي إليه، أي تجنّب ركوب القوارب إذا كنت تعاني دوار البحر أو ركوب المروحيّات إذا كنت تعاني دوار الجو على سبيل المثال.
توصي مراكز السيطرة على الأمراض ومنع انتشارها الركّاب بالحفاظ على ترطيب الجسم في أثناء التنقّل، وتناول وجبات خفيفة على نحو متكرر وتجنّب التدخين وتناول الكحوليات أو الكافيين والجلوس في مقدّمة السيارة أو الحافلة في مقعد بجوار النافذة والاستلقاء أو إغلاق العيون إذا كان ذلك ممكناً.
اقرأ أيضاً: ممَّ يتكون الجهاز العصبي المركزي وكيف تتم الحركة؟
توقّع التغيّرات الحركية قد يكون مفيداً أيضاً بصفته استراتيجية عامة. يقلل التحكم بالسيارة احتمالية الإصابة بدوار الحركة؛ إذ إنه، على سبيل المثال، السائقون أقل عرضة للإصابة بالغثيان من الركاب. يمكنك أيضاً أن تحاول التركيز على إدراك توجّهك. يقول غولدنغ: "عموماً، إذا كان بإمكانك النظر إلى الأفق، فستقلل احتمال الإصابة بدوار الحركة". (من ناحية أخرى، يمكن أن يؤدي كل من استخدام الهاتف أو قراءة الكتب إلى ازدياد الخطر، لأن العيون ستراقب عندها عناصر ثابتة لا تبيّن للدماغ بأن الجسم في حالة حركة).
أخيراً، يمكنك إزالة العوامل المحفّزة للشعور بالغثيان بتطبيق بعض التقنيات. قال أحد الركاب في غرفة الأرجوحة المسكونة في عام 1895: "اختفت الأحاسيس على الفور في اللحظة التي أغمضت فيها عينيّ".
من الممكن علاج أعراض دوار الحركة باستخدام الأدوية مثل ديفينهيدرامين (diphenhydramine، الذي يباع تحت الاسم التجاري بينادريل، Benadryl)، وديمينهيدرينات (dimenhydrinate، ذي الاسم التجاري درامامين، Dramamine)، أو سكوبولامين (scopolamine)، ولكن يمكن أن تتسبب هذه الأدوية بالنعاس غير المرغوب فيه.
توصلت دراسات غولدنغ السلوكية إلى أن التنفس المتحكّم فيه؛ أي عندما "تركز على الحفاظ على الانتظام الشديد للتنفس" بحسب تعبيره، يمكن أن يخفف دوار الحركة؛ إذ إن فعاليته تقارب نصف فعالية الأدوية من دون أي آثار جانبية. يضيف غولدنغ قائلاً إنه على الرغم من عدم وجود ما يكفي من الأدلة التي تبيّن أن أربطة العلاج بالضغط الإبري تقي من الغثيان، فإن ارتداءها على المعصم يمكن أن يوفر شعوراً بالراحة النفسية. يقول غولدنغ: "التأثيرات الوهمية يمكن أن تكون فعالة للغاية".
اقرأ أيضاً: لماذا نشعر بالحرارة في غرفة درجة حرارتها مساوية لدرجة حرارة الجسم أو حتى أقل منها؟
درس كيشافارز إمكانية أن تحفف الروائح الزكية أو الأصوات شدة أعراض داء الحركة المستحثّ بصرياً، ووجد أن استماع المرضى لنوع الموسيقى المفضل لديهم يمكن أن يكون مفيداً في بعض الظروف. يدرس كيشافارز حالياً إذا ما كان للتغييرات في درجات حرارة الجسم تأثير في هذه المرض، وذلك بناءً على التجارب السابقة التي اعتمدت على زيادة التعرض لتدفّق الهواء.
يقول كيشافارز: "تنصُّ فرضيتي على أن الهواء يبرّد الجسم ويحفز شعوراً مريحاً"، ما يبطل الإحساس بالحمى. لكن عموماً، يتوقع كيشافارز أن يبقى دوار الحركة مشكلة صحيّة مع تزايد اعتمادنا على التكنولوجيا. قد يؤدي انتشار السيارات التي لا تحتاج إلى سائق ومركبات الأجرة الهوائية الذاتية القيادة ومنتجات الواقع الافتراضي الجديدة إلى ازدياد خطر الإصابة بدوار الحركة.