يُقال إن أردت أن تعيش طويلاً عليك أن تكثر أكل الخضروات والفاكهة العضوية، وتقلل أكل الأطعمة المعالجة، وتمارس الرياضة باستمرار، وتحرص على قضاء وقت جيد في الطبيعة حيث الهدوء والهواء النظيف. لكن مهلاً لحظة، ألم يكن هذا بالضبط ما كان يفعله البشر قبل التاريخ؟ فلماذا لم يتعدَ متوسط العمر المتوقع لهم أكثر من 35 عاماً في أحسن الأحوال؟ حسناً، ينبغي قبل توضيح كيف تغيّر متوسط أعمار البشر عبر الزمن، وهو موضوع هذا المقال، أن نميّز بين متوسط العمر المتوقع للإنسان (Life expectancy) والعمر الافتراضي له (Life span). وإليك التفاصيل.
ما الفرق بين متوسط العمر المتوقع للإنسان وعمره الافتراضي؟
يشير العمر الافتراضي للإنسان، أو يمكن تسميته طول العمر، إلى الحد الأقصى المحتمل لطول الحياة الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان، دون أن يتأثر بالعوامل الخارجية مثل الأمراض أو الحوادث أو غيرها من أسباب الوفاة المبكرة. لم تتغير هذه العتبة القصوى كثيراً على مر العصور، وظلت ثابتة نسبياً.
من ناحية أخرى، فإن متوسط العمر المتوقع هو مقياس افتراضي إحصائي، يحسب متوسط عدد السنوات التي من المتوقع أن يعيشها شخص ما في زمن محدد. وبالطبع يمكن حساب هذا المتوسط عند أيّ مرحلة من العمر، لكن المقياس الأكثر شيوعاً يكون منذ الولادة؛ أي متوسط عدد السنوات التي من المتوقع أن يعيشها هذا المولود في مجتمع معين وزمن محدد. بالتالي، كلما ارتفع معدل وفيات الرضع؛ سواء بسبب الأمراض المعدية أو سوء التغذية أو قلة النظافة أو غير ذلك، فإن هذا المتوسط سيكون أصغر.
على سبيل المثال، بالنسبة لأخوين أحدهما توفي قبل عيد ميلاده الأول والآخر عاش حتى سن السبعين، فإن متوسط العمر المتوقع منذ الولادة لهما هو 35 عاماً. يتأثر هذا المقياس بعوامل مختلفة؛ مثل التقدم في الرعاية الصحية، والصرف الصحي، والتغذية، والظروف المعيشية العامة وغيرها.
كيف تغيّر متوسط العمر المتوقع للإنسان عبر الزمن؟
مرة أخرى، من غير المرجح أن يكون العمر الافتراضي للإنسان، أو المدة التي يمكن أن يعيشها في حال لم يتعرض للعنف أو المرض والكوارث الطبيعية، قد تغير بطريقة قابلة للقياس عبر عشرات الآلاف من السنين. لكن من الصعب التحقق من هذا الأمر؛ إذ يبدو أنه من المستبعد ألا يتسلل العنف أو المرض أو الكوارث الطبيعية أو أي من المشكلات الأخرى إلى المشهد في حال عاش الإنسان وقتاً كافياً على هذه الأرض. أما بالنسبة لمتوسط العمر المتوقع منذ الولادة فالأمر مختلف تماماً؛ إذ تغيّر كثيراً مع مرور الزمن وإليك كيف.
اقرأ أيضاً: هل أثّر تغير المناخ قديماً في عملية التطور البشري؟
شعوب ما قبل التاريخ
يواجه علماء الآثار والأنثروبولوجيا تحدياً حقيقياً في محاولة كشف معلومات موثوقة عن الخصائص السكانية لبشر ما قبل التاريخ، وذلك نتيجة قلة الأدلة والبقايا البشرية المتحجرة اللازمة لاستخلاص استنتاجات قوية. لكن ووفقاً لبعض الأبحاث، يقدَّر العمر المتوقع لإنسان ما قبل التاريخ (قبل 30 ألف عام) بنحو 30 عاماً. لكن هذا لا يعني أن الأسلاف القدماء معظمهم كانوا يموتون عند بلوغ سن الثلاثين؛ وإنما يعني أن عدداً كبيراً منهم كانوا يموتون في مرحلتي الرضاعة والطفولة المبكرة.
وبسبب صعوبة جمع هذا النوع من البيانات، حاول علماء الأنثروبولوجيا النظر إلى مجموعات البشر التي تعتاش على الصيد وجمع الثمار الموجودة اليوم، مثل بعض القبائل التي تعيش في تنزانيا التي لا تمتلك إمكانية الوصول إلى الدواء والغذاء الحديثين. وقد وُجد أن متوسط العمر المتوقع عند الولادة في هذه القبائل يتراوح بين 30-37 عاماً من الحياة، لكن ومع ذلك، فإن النساء اللواتي يبقين على قيد الحياة حتى سن الـ 45 عاماً، فمن المرجح أن يعشن حتى 65-67 عاماً.
تشابهت هذه النتائج مع ما توصل إليه بعض الباحثين في الجامعة الوطنية الأسترالية، فقد تبين عند تحليل مقدار تآكل الأسنان لـ 174 هيكلاً عظمياً من الهياكل العظمية الأنغلوساكسونية (مقابر في إنجلترا) المدفونة قبل 1500 عام، أن غالبية هذه الهياكل تقل أعمارها عن 65 عاماً، في حين أن 16 شخصاً منهم قد وصلوا إلى سنٍّ يتراوح بين 65-74 عاماً، و9 أشخاص قد بلغوا 75 عاماً من العمر على الأقل.
اقرأ أيضاً: تسلق الأشجار منح أسلاف البشر قدرة المشي على قدمين
عصور ما قبل الصناعة
قُدِّر متوسط العمر المتوقع عند الرومان والإغريق القدماء بنحو 20-35 عاماً. وقد أظهرت السجلات في مصر؛ التي كانت إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية قبل 2000 عام، أن متوسط العمر المتوقع في ذلك الوقت كان في العشرينيات. لكن الأشخاص الذين بقوا على قيد الحياة بعد سن الخامسة عشر، من المرجح أن متوسط العمر المتوقع لهم كان يرتفع حتى الأربعينيات.
في الواقع، إذا استُثنيت سنوات الطفولة الخطرة في الفترة الممتدة من 1200 إلى 1745 ميلادي، فمن المحتمل أن يعيش الأشخاص البالغون من العمر 21 عاماً حتى سن 62-70 عاماً على نحو متوسط، باستثناء القرن الرابع عشر، حيث أدى الطاعون الدبلي إلى خفض متوسط العمر المتوقع إلى 45 عاماً (مع استثناء مرحلة الطفولة بالطبع).
والجدير بالذكر أن متوسط العمر المتوقع في أوروبا قد اختلف كثيراً بين الرجال والنساء على مر العصور؛ فبالنسبة للرجال الناضجين الذين يبلغون من العمر 15 عاماً، فإن متوسط العمر المتوقع (بعد سن الـ 15) لم يتغير كثيراً على مدار 3000 عام، وذلك بالنسبة للأفراد النخبة في المجتمع؛ إذ قُدِّر تقريباً بـ 62.7 في عام 1570، وأصبح 72 بحلول عام 1989.
في حين أن متوسط العمر المتوقع للمرأة عند سن 15 عاماً قد ازداد تدريجياً على مر السنوات؛ إذ قُدر بنحو 48.2 في عام 1480، ثم بلغ 79.2 في عام 1989. ويعزى ذلك إلى المشكلات العديدة التي كانت تواجه النساء في مراحل الحمل والولادة.
اقرأ أيضاً: ما الرياضات التي تتفوق فيها النساء على الرجال؟
من 1800 حتى هذا اليوم
منذ القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن التاسع عشر تقريباً، كان متوسط العمر المتوقع في جميع أنحاء أوروبا يتراوح بين 30 و40 عاماً، ويُعزى ذلك جزئياً إلى ارتفاع معدلات وفيات الرضع التي بلغت نحو 25% حتى عام 1800. وفي حال استُثنيت مرحلة السنوات الخمس الأولى، فإن متوسط العمر المتوقع لم يتغير كثيراً منذ عام 1800 حتى اليوم، إذ قُدّر بـ 73 عاماً للنساء و75 للرجال في ذلك الوقت، في حين أصبح عام 2021 في أميركا على سبيل المثال 73 عاماً للرجال و79 عاماً للنساء.
أما ما تطور فعلاً منذ تلك الفترة حتى اليوم فهو متوسط العمر المتوقع منذ الولادة؛ إذ بدأ يتضاعف منذ بداية القرن التاسع عشر كل 10 أجيال، وذلك بسبب تحسن الرعاية الصحية، والصرف الصحي، واللقاحات، والحصول على المياه النظيفة، والتغذية الأفضل وغيرها من العوامل.
ومع ذلك، فإن بعض الأمراض الفيروسية وحُمى التيفوئيد والحمى القرمزية بقيت تؤثر في متوسط العمر المتوقع خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ثم ومع تقدم العلم وتوفير اللقاحات الحديثة، بدأ متوسط العمر المتوقع عند الولادة بالارتفاع بسرعة، حتى بلغ نحو 82.7 في دول أوروبا الغربية عام 2023، أما على مستوى العالم، فقد بلغ نمو متوسط العمر 70.8 للرجال، و76 عاماً للنساء، وذلك بسبب التباين الكبير بين دول العالم.
اقرأ أيضاً: لماذا ينام الإنسان عدد ساعات أقل من الرئيسيات الأخرى؟
أيّ عصر أفضل يا ترى للعيش فيه إن أردت العيش مدة أطول؟
يتعلق الجواب ربما بالزمان والمكان؛ إذ يوضح تقرير منظمة الصحة العالمية على سبيل المثال، وجود تفاوتات صارخة في متوسط العمر المتوقع بين دول العالم؛ إذ في حين بلغ في المنطقة الأوروبية عام 2022 نحو 78.2 سنة، فقد بلغ 64.5 عاماً فقط في المنطقة الإفريقية.
ومن المؤكد بالطبع أن التحسينات في توافر الغذاء، والنظافة، والرعاية الصحية، والعلاجات الطبية، والابتكارات التكنولوجية وغيرها، أدت إلى تقليل عدد الوفيات الناجمة عن الإصابات والقتل والالتهابات والأوبئة التي كانت تفتك بالناس سابقاً.
لكن من ناحية أخرى، فإن ثمة بعض الأمراض التي تواجه البشرية اليوم مؤثرة في متوسط العمر المتوقع، ربما لم تكن لتواجه البشر القدماء مثل؛ السرطان والبدانة وداء السكري وارتفاع ضغط الدم والاكتئاب والانتحار واحتشاء عضلة القلب والسكتة الدماغية.
اقرأ أيضاً: الحمض النووي القديم يحل بعض ألغاز حياة البشر الأوائل في إفريقيا
في الواقع، إن الحد الأقصى لعمر الإنسان الافتراضي يبلغ نحو 125 عاماً، وهو حد لم يتغير بالكاد منذ وجدنا على هذه الأرض. وتشير التقديرات أنه إذا حُلَّت المشكلات الرئيسية الثلاثة للوفاة في سن الشيخوخة اليوم؛ وهي أمراض القلب والأوعية الدموية، والسكتة الدماغية، والسرطان، فإن العالم المتقدم لن يشهد سوى زيادة قدرها 15 عاماً في متوسط العمر المتوقع، فهل سيرضى الإنسان بهذا الحد أم سيفعل المستحيل ليعيش أكثر؟