ملخص: تحتوي البيئة على الكثير من مسببات الحساسية، لكن استجابة الجسم الفيزيولوجية لها معقدة للغاية وغير مفهومة تماماً. يعاني البعض الحكة بسبب لدغات البعوض بينما لا يشعر البعض الآخر بها، يحاول العلماء تفسير هذا التفاوت الكبير في ردود الفعل التحسسية. تستجيب العصبونات الحسية لمسببات الحساسية وتحفّز الخلايا المناعية في مناطق محددة، ما يدفعها إلى بدء رد الفعل التحسسي، ويؤدي ذلك بدوره إلى شعور الحكة. اكتشف العلماء في دراسة جديدة أن نوعاً من الخلايا المناعية اسمه "جي دي 3" يؤدي دوراً في العمليات التي تؤدي إلى الحكة التحسسية الناجمة عن مسببات الحساسية البروتيازية (بروتينات بيئية توجد في العديد من المصادر وتؤدي إلى الالتهابات التحسسية). تركّب هذه الخلايا جزيئات اسمها "آي إل-3" استجابة لمحفّزات بيئية معينة توجد عادة على الجلد، وتحضّر هذه الجزيئات العصبونات المولدة للحكة للاستجابة. لاحظ الباحثون أن عدد كل من خلايا جي دي 3 وجزيئات آي إل 3 يحدد شدة الاستجابة التحسسية للدغات البعوض، وتمكنوا من تثبيط المسار الجديد مادياً في التجارب على الفئران، ما قد يساعد على تطوير علاجات جديدة للحساسية في المستقبل.
مسببات الحساسية منتشرة على نطاق واسع، لكن استجابة البشر الفيزيولوجية لها معقدة جداً. يمكن أن يؤدي كل من غبار الطلع وعث الغبار إلى أعراض تشبه تلك الناجمة عن نزلات البرد التي تتسبب بها الفيروسات، مثل السعال أو العطس أو التهاب الحلق. يشعر البعض بالحكة بسبب لدغات البعوض، بينما لا يكاد البعض الآخر يلحظ هذه اللدغات، ويحاول العلماء تفسير هذا النطاق الواسع من ردود الفعل التحسسية.
اقرأ أيضاً: كيف تتخلص من حساسية الجلد الناتجة عن التعرق؟
تقول المتخصصة في الحساسية السريرية بمستشفى ماساتشوستس العام، الدكتورة كارولين سوكول، لبوبيولار ساينس: "إنّ تمتّع البشر باستجابة لمسببات الحساسية ليس منطقياً؛ إذ إن هذه المواد لا تتسبب بالعدوى، ما يعني أنها لا يُفترض أن تؤذي البشر".
مع ذلك، تؤثر هذه المواد في البشر؛ إذ يعاني ما لا يقل عن بالغ واحد من كل أربعة بالغين في الولايات المتحدة الحساسية الموسمية.
تحاول سوكول وغيرها من المتخصصين في الحساسية الوصول إلى الآلية التي يتحسس الجسم وفقها من عث الغبار ووبر القطط والكلاب وغبار الطلع لتفسير الحساسية التي يعانيها البشر. اكتشف هؤلاء مساراً جزيئياً يؤدي وفقه التفاعل بين الخلايا المناعية والخلايا العصبية إلى الحكة. الأهم من ذلك، أن الباحثين تمكنوا من تثبيط هذا المسار مادياً في الدراسات ما قبل السريرية التي أجروها على الفئران. أعلن الباحثون ما اكتشفوه حول الموضوع في دراسة نشرتها مجلة نيتشر (Nature) بتاريخ 4 سبتمبر/أيلول 2024، ومن المحتمل أن تساعد النتائج على تطوير علاجات جديدة للحساسية في المستقبل.
تفسير الحكة
على الرغم من أن الجهاز المناعي هو خط الدفاع الأول ضد الفيروسات والبكتيريا، فإن مسببات الحساسية تثيره عادة بعد الجهاز العصبي الحسي. مع ذلك، يستطيع الجهاز المناعي أيضاً التحكم بالجهاز العصبي الحسي والتفاعل معه.
قد تستجيب الخلايا العصبية الحسية مباشرة لمسببات الحساسية هذه لدى الأشخاص الذين لم يتعرضوا إلى هذه المواد من قبل. يؤدي ذلك إلى الحكة ويحفّز الخلايا المناعية في مناطق محددة ويدفعها إلى بدء رد الفعل التحسسي. ينطوي رد الفعل هذا على الحكة وظهور الطفح على الجلد. يتمتع الأشخاص الذين يعانون الحساسية المزمنة بأجهزة مناعية تستطيع زيادة نشاط الأعصاب الحسية، ما يؤدي إلى الحكة المستمرة.
اكتشف العلماء في دراسات سابقة أن العصبونات التي تتسبب بالحكة تثيرها مسببات الحساسية التي لها نشاط مماثل لنشاط إنزيم البروتياز مباشرة. مسببات الحساسية البروتيازية هي بروتينات بيئية توجد في مصادر عديدة مثل غبار الطلع وعث الغبار وبعض سموم الحشرات وغيرها، وهي قد تؤدي إلى الالتهابات التحسسية.
تقول سوكول: "لا نعلم بالضبط ما هو المكوّن في لعاب البعوض الذي يجعل البشر يشعرون بالحكة. نعلم أن لعاب البعوض يحتوي على مجموعة من الإنزيمات أو المواد الكيميائية، وأن بعض هذه الإنزيمات هي البروتيازات التي تفكك البروتينات وتشبه العديد من جزيئات غبار الطلع إلى حد كبير".
اقرأ أيضاً: 11 طريقة بسيطة لتخفيف الحكة والألم الناجمين عن لدغات البعوض
افترضت سوكول وزملاؤها أن بعض الخلايا المناعية المتأصلة قد تكون قادرة على تحديد "عتبة" لتفاعلية مسببات الحساسية في العصبونات الحسية. قد يميز نشاط هذه الخلايا بدوره الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالحساسية.
تأثير تحسسي متداعٍ
أجرى الفريق في الدراسة الجديدة تحليلات خلوية مختلفة وعملية تحديد التسلسل الجيني في محاولة لتحديد الآليات الجزيئية التي تؤدي دوراً في الحكة التحسسية الناجمة عن التعرض لمسببات الحساسية البروتيازية المختلفة.
اكتشف الباحثون أن هناك خلايا مناعية جلدية محددة تؤدي دوراً في هذه العملية، وهي خلايا لم يدرسها العلماء جيداً من قبل تحمل اسم "جي دي 3" (GD3). تركّب هذه الخلايا جزيئاً يحمل اسم "آي إل-3" استجابة لمحفّزات بيئية معينة توجد عادة على الجلد. بعد ذلك، تؤثر جزيئات آي إل-3 مباشرة في بعض العصبونات الحسية المسببة للحكة لتحضيرها للاستجابة، حتى لو احتوى الجسم فقط على مسببات الحساسية من المصادر الشائعة مثل البعوض وبنسب منخفضة.
تقول سوكول: "تؤدي هذه الأنواع الغريبة والطريفة من الخلايا القديمة دوراً أساسياً في تحفيز الحكة الناجمة عن البعوض، إضافة إلى أنها ضرورية جداً في الاستجابة المناعية التحسسية النهائية للدغات البعوض. من المرجّح أن عدد كل من خلايا جي دي 3 وجزيئات آي إل-3 يحدد الطريقة التي يستجيب وفقها الجسم للدغات البعوض".
اكتشف الفريق أن هذه العملية تتضمن مسار تأشير يحفّز سلسلة من العمليات المتتابعة التي ترفع معدل تركيب جزيئات محددة ويؤدي إلى بدء رد فعل تحسسي.
تقول سوكول: "تمثّل بعض هذه الاستجابات والحالات الالتهابية المبكرة بداية نشاط الجهاز العصبي".
أجرى الباحثون تجارب إضافية على الفئران مسترشدين بالمسار الجديد الذي اكتشفوه. اكتشف هؤلاء أن الفئران يمكن أن تكتسب مقاومة لكل من الحكة والتأثير المحفّز للمناعة لبعض مسببات الحساسية من خلال إزالة جزيئات آي إل-3 أو خلايا جي دي 3 من عينات الجلد وتثبيط مسارات التأشير النهائية لها.
دلائل جديدة
وفقاً للفريق، قد تساعد النتائج الجديدة على تفسير الدور الذي يؤديه المسار الجديد لدى البشر؛ لأن هذه الأنواع من الخلايا المناعية لدى الفئران تشبه تلك التي يحتوي عليها جسم الإنسان.
تقول سوكول: "ما يميّز هذه الدراسة هو أنها كشفت عن مسار جديد، ما يعني أنها ستمكننا من تحديد المسار الذي يجب استهدافه بالضبط، والتوصل إلى طرق للتدخل وتعطيل هذا المسار. لكن المشكلة تكمن في أننا لا نعرف لماذا تكون هذه الخلايا مشوهة لدى البعض وغير مشوهة لدى البعض الآخر".
اقرأ أيضاً: خطوات بسيطة لصنع مصيدة للبعوض وتجنب لدغاته
اكتشف الفريق بعض الأدلة الأولية التي تساعد على تفسير إصابة البعض بردود فعل تحسسية أشد، لكن ما تزال هناك حاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث لفهم هذه الآلية تماماً. يعتمد كل من عدد خلايا جي دي 3 ونشاطها على العمر. يؤدي التركيب الكيميائي لمجهريات البقعة في الجلد أيضاً دوراً في هذه التفاعلات، علاوة على أن خلايا جي دي 3 حساسة للتغيرات البيئية مثل زيادة جفاف الهواء.
تقول سوكول: "عدد مسببات الحساسية المعروفة آخذ في الازدياد، ولا يعود ذلك فقط إلى أن قدرتنا على كشفها تحسنت. نحن نحتاج حقاً إلى تحديد سبب ذلك، وهناك الكثير من الأسئلة التي يجب أن نتوصل إلى إجابات عنها، لكن هذا ما يجعل هذا المجال من العلوم والطب ممتعاً".