سألني طفلي ذو السبع سنوات: لماذا يتحارب البشر؟ ألا يملكون ما يكفي من طعام ومنازل؟ لم أعلم حقيقةً كيف أجيبه، فأنا نفسي لا أعلم، لكن لا بُد من أن يكون الأمر أعمق من مجرد التنافس على الموارد من غذاء وماء وأراضٍ وشركاء، وربما يمكن تفسيرها من وجهة نظر بيولوجية.
لكن يقتضي التنويه إلى أن تفسير ميل البشر إلى القتال من منظور بيولوجي لا يعني تبرير الحرب أو الدفاع عنها أخلاقياً، وإنما فقط تسليط الضوء على الأسباب التي قد تكون أدت إلى تطور مثل هذه السلوكيات في المقام الأول. إذاً، إليكم أهم العوامل البيولوجية والاجتماعية والثقافية التي قد تفسر سبب امتلاك البشر تاريخاً طويلاً لا ينتهي من الحروب، وذلك وفقاً للدراسات العلمية والاجتماعية.
العوامل الوراثية والسلوكية التي تسهم في نزعة البشر إلى الحرب
وفقاً لدراسة منشورة في دورية فلسفة العلوم الاجتماعية (Philosophy of the Social Science)، فإن الحرب ربما تنبع من سمات سلوكية موروثة ساعدت البشر الأوائل على البقاء وتكوين مجموعات اجتماعية قوية.
فسماتٌ مثل العدوان والمجازفة والترابط بين الذكور والولاء للمجموعة والخوف من الغرباء، هي سمات مدمجة في التركيبة الجينية للبشر. وقد كانت مجموعات البشر الأوائل التي تمتعت بمثل هذه السمات مجهزة بصورة أفضل لحماية أعضائها ونقل جيناتهم، ما جعل هذه الميول شائعة في الطبيعة البشرية بمرور الوقت.
وقد وجدت دراسة أُخرى منشورة في دورية تقدمات في علم الوراثة (Advances in Genetics)، أن 50% من التباين في السلوك العدواني عند البشر، من الذكور والإناث على السواء، يرجع إلى تأثيرات جينية، بينما يمكن تفسير الـ 50% المتبقية نتيجة التأثر بالعوامل البيئية.
كما أن التفاعلات بين الجينات والبيئة تمثّل عنصراً حاسماً في تكوين السلوك العدواني. على سبيل المثال، قد تتضخم الاستعدادات الجينية للعدوان أو تتلاشى بفعل البيئة، مثل الفقر أو الإساءة. وهذا يعني أن الأفراد الذين يتمتعون بصفات وراثية معينة قد يكونون أكثر ميلاً إلى التصرف بعدوانية إذا نشأوا في ظروف صعبة.
وعلى الرغم من أن الدراسة لم تتناول الحرب بصورة مباشرة، فإن نتائجها تشير إلى أن العوامل الوراثية والبيئية تسهمان في العنف عند البشر عموماً. فقد تعمل الاستعدادات الوراثية على جعل الأفراد أكثر استعداداً للعدوان، في حين تؤدي الضغوط البيئية، مثل التفاوت الاجتماعي أو عدم الاستقرار السياسي، إلى تصعيد هذه الميول إلى العنف على نطاق واسع، مثل الحرب.
وفي محاولة لفهم الأنماط التاريخية للعنف عند البشر، لجأ باحثون في دراسة منشورة في دورية نيتشر العلمية (Nature) عام 2016، إلى تحليل معدل العنف المميت عند 1,024 نوع من الثدييات، ومنهم نحو 600 مجموعة بشرية عبر التاريخ (تعود إلى نحو 50 ألف عام مضت حتى الوقت الحالي)، وتوصلوا إلى أن الرئيسيات من الثدييات، الرتبة التي ينتمي إليها البشر، تقتل أفراداً ينتمون إلى مجموعتها بمعدل أعلى بـ 6 أضعاف تقريباً مما تفعله الأنواع الأخرى من الثدييات.
أي أن البشر عنيفون مع بعضهم بعضاً بالقدر نفسه الذي تتسم به الرئيسيات الأُخرى معظمها، وقد كانوا على هذا النحو منذ فجر التاريخ تقريباً؛ إذ تنبأ الباحثون بأن نحو 2% من الوفيات البشرية نجمت عن العنف المميت بين البشر في المجتمعات القديمة. إذاً، يمكن القول مرة أخرى إن مستويات معينة من العنف لدى البشر قد تكون سمة موروثة من الأسلاف.
اقرأ أيضاً: كيف ستؤثّر الحرب النووية العالمية على كوكبنا؟ السيناريو الأسوأ
العوامل الاجتماعية التي تسهم في تأجيج النزاع
من أهم الديناميكيات (الديناميكيات هي كيفية تفاعل الأشخاص أو المجموعات وتأثيرها في بعضها بعضاً بمرور الوقت) التي تسهم في الصراع والانقسام والتمييز والتفتت الاجتماعي هو عملية تقسيم البشر إلى "مجموعات داخلية" و"مجموعات خارجية"، وهي ظاهرة معقدة متجذرة في العمليات التطورية والمعرفية والثقافية.
فمن وجهة نظر تطورية، كان تشكيل مجموعات متماسكة أمراً ضرورياً للنجاة؛ إذ منحت عضوية المجموعة الأمان والوصول إلى الموارد والحماية من الحيوانات المفترسة، ما عزز فرص النجاة والتكاثر. وقد شعر الناس بالانتماء والولاء والتعاطف تجاه مجموعتهم الخاصة؛ في حين نظروا إلى الغرباء (المجموعة الخارجية) نظرة شك وعداء، وكثيراً ما كانت الأحوال تتصعد إلى صراع بين المجموعات، خاصة إذا كانت الموارد شحيحة أو إذا اعتبرت إحدى المجموعات الأخرى تهديداً لها.
وقد يتساءل المرء إن كان الإنتماء إلى المجموعة قد أدى غرضه في النجاة خلال العصور الغابرة، فلماذا لا يزال قائماً على الرغم من أن البقاء الجسدي لا يعتمد كثيراً على الانتماء إلى المجموعة في القرن 21؟
اقرأ أيضاً: تعرف على تأثير العمل الجمعي على ازدهار المدن قديماً
في الواقع، يمثّل تفضيل أعضاء المجموعة الداخلية والشك في أعضاء المجموعة الخارجية جزءاً من الاستجابات التكيفية للدماغ التي تطورت على مدى آلاف السنين لتعزيز النجاة والتكاثر، وعلى الرغم من أن البقاء لم يعد يعتمد كثيراً على هذه المجموعات، فإن الآليات النفسية، مثل تعزيز احترام الذات والتماسك الاجتماعي والشعور بالهدف والمعنى، ما زالت تدفع الناس إلى التجمع حتى في غياب التهديدات الجسدية.
فضلاً عن أن هذا التصنيف يمثّل عنصراً أساسياً من التفكير البشري؛ إذ يؤدي وظيفة إدراكية أساسية، فمثلما نصنّف الحيوانات إلى مفترسة أو غير مفترسة، والنباتات إلى صالحة للأكل أو سامة، كذلك هم الناس فإما "معنا" أو "ضدنا"، أو على الأقل ضمن مجموعتنا أم ضمن مجموعة مختلفة.
دون أن ننسى التأثيرات الثقافية والمجتمعية، إذ تعمل التنشئة الاجتماعية منذ الطفولة على تحديد حدود الجماعة وقيمها ومعاييرها، وتصنيف الناس إلى مَن ينتمي إلى جماعة محددة ومَن يستبعدوه منها بناء على السلوك المُتوقع والمقبول. وكثيراً ما تعمل السرديات (القصص والأفكار ووجهات النظر التي تتقاسمها جماعة ما) التي تسلط الضوء على الاختلافات بين الجماعات على تعزيز وحدة الجماعة الداخلية في حين تبرر استبعاد أو تهميش أولئك الذين يُعتبرون "غرباء".
العوامل الثقافية التي قد تؤجج الحرب أو تحلّ السلام
يؤدي التطور الثقافي دوراً كبيراً في تكوين السلوكيات مثل الحرب أو السلْم، فالبشر لا ينقلون السمات الوراثية فحسب؛ بل ينقلون أيضاً الأعراف والممارسات الثقافية. وقد أسهم تطور القدرات المعرفية الفريدة للبشر في منحهم الوسائل اللازمة لشن الحروب المنظمة، مثلما منحهم القدرة على تجنبها.
أي وعلى الرغم من أن البشر قد ورثوا ميلاً إلى العنف الجماعي، الذي طوروه وطوروا وسائله بناء على الإدراك المعقد الذي يتمتعون به، لكنهم تمتعوا أيضاً بالقدرة العميقة على تحقيق السلام، التي ترجع بدرجة كبيرة إلى التطور الثقافي التراكمي وتدجين الذات، وفقاً لدراسة منشورة في دورية الأنثروبولوجيا التطورية: القضايا والأخبار والمراجعات (Evolutionary Anthropology: Issues,News, and Reviews) عام 2024.
اقرأ أيضاً: تاريخ موجز ومرعب للأسلحة النووية التكتيكية
فعلى مدى آلاف السنين، ومع تطور المجتمعات البشرية، تطورت سلوكيات البشر وبنياتها الاجتماعية، حيث سمح تعزيز التواصل وتطوير الممارسات الدبلوماسية والسلوكيات الاجتماعية ببناء التحالفات، وحل النزاعات سلمياً، وتوسيع التعاون إلى ما هو أبعد من الأقارب أو المجموعات المألوفة، وقد أسهمت البيئات التي فضّلت التحالفات التعاونية في نشوء تكيفات سلوكية تعزز التسامح والسلام.
إذاً، يمكن القول إن العنف والسلام أدّيا أدواراً تكيفية في نجاة الإنسان؛ إذ لم يعطِ التطور أولوية للحرب أو للسلام أحدهما على الآخر؛ إنما زوَّد البشر بمجموعة متنوعة من السلوكيات التي سمحت لهم بالمرونة على أساس السياقات البيئية والاجتماعية؛ إذ وفي أوقات الندرة أو المنافسة، يمكن أن ينحاز البشر إلى العدوان، في حين يكون التعاون السلمي مفيداً في السياقات المستقرة التي تعود بالنفع على الأطراف جميعها.
في حين تتضمن البيولوجيا البشرية ميولاً قد تؤدي إلى الحرب، فإن التعبير عن هذه الميول يتأثر إلى حد كبير بالعوامل الثقافية والاجتماعية. والتعرف إلى هذه الجذور البيولوجية من شأنه أن يساعد على فهم أنه وعلى الرغم من أن القدرة على الحرب قد تكون جزءاً من تاريخنا التطوري، فإن المجتمعات البشرية تتمتع أيضاً بالقدرة على السلام والتعاون وحل النزاعات من خلال التعاطف والدبلوماسية.