إذا اتّبعت توجيهات أحد تطبيقات الملاحة من قبل ثم لاحظت أن المسار المقترح قد انحرف، فقد يكون السبب هو طبقة الغلاف الجوي التي يتراوح ارتفاعها بين 80 و321 كيلومتراً فوقك. قد تحتوي هذه المنطقة من الغلاف الجوي للأرض، التي تحمل اسم "الغلاف الأيوني"، على مستويات متفاوتة من الإلكترونات الحرة التي قد تبطئ إشارات نظام تحديد المواقع (GPS) المنتقلة بين الأقمار الصناعية وأجهزة الاستقبال إذا كانت مركّزة جداً. هذا التأخير في انتقال الإشارات، الذي يشبه تأخير شخص عن عمله بسبب تحركه جيئة وذهاباً على نحو هيستيري في شارع مزدحم في المدينة، هو أحد الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى حدوث أخطاء في أنظمة الملاحة.
خريطة للغلاف الأيوني
بيّن باحثو شركة جوجل في ورقة بحثية نشرتها مجلة نيتشر (Nature) في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أنهم تمكنوا من استخدام قياسات إشارات نظام تحديد المواقع التي أجرتها ملايين الأجهزة المحمولة التي تعمل بنظام أندرويد لإنشاء خريطة للغلاف الأيوني. على الرغم من أن الإشارة الصادرة عن أي جهاز محمول قد تكون "مشوشة" لدرجة أنها لا تحمل الكثير من المعلومات عن الغلاف الأيوني التي يستطيع الباحثون الاستفادة منها، يمكن تصحيح هذه الضوضاء عند توافر العديد من الأجهزة الأخرى التي تجمع إشارات يمكن المقارنة بها. تمكّن الباحثون في النهاية من استخدام هذه الشبكة الواسعة من هواتف أندرويد لإنشاء خريطة للغلاف الأيوني بمستوى من الدقة يتطابق مع دقة خرائط محطات الرصد. تجاوزت دقة التقنية المعتمدة على هواتف أندرويد دقة خرائط محطات الرصد في مناطق مثل الهند ووسط إفريقيا.
اقرأ أيضاً: كيف تنظّم يومك بسهولة باستخدام تطبيق مهام جوجل؟
ما هو محتوى الإلكترونات الحرة؟
يستطيع العلماء من مختلف أنحاء العالم قياس حركة الإلكترونات في الغلاف الأيوني (التي تحمل اسم "محتوى الإلكترونات الكلي") باستخدام شبكة من محطات الرصد الأرضية العالية الجودة. أدوات الكشف هذه فعالة لكن بناءها وصيانتها مكلفان نسبياً، ما يجعلها أقل شيوعاً في المناطق النامية من العالم. يؤدي هذا التفاوت في القدرة على استخدام محطات الرصد إلى تباينات في دقة خرائط الغلاف الأيوني العالمي. حاول باحثو جوجل حل هذه المشكلة بالاعتماد على أجهزة يملكها معظم سكان العالم بالفعل، وهي الهواتف المحمولة.
أفاد الباحث في جوجل والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، بريان ويليامز، لبوبيولار ساينس بأنه لاحظ في السابق كيف تعوق التغيرات في الغلاف الأيوني نظام تحديد المواقع عندما كان يعمل على تطوير منتجات أندرويد. أضاف ويليامز أنه يعتقد أن المشروع الجديد هو فرصة ثمينة للإسهام في التقدم العلمي وتعزيز دقة هذه الأنظمة حتى يتمكن المستخدمون من الاستفادة منها.
وقال: "بدلاً من التفكير في الغلاف الأيوني بأنه يتداخل مع نظام تحديد المواقع، يمكننا قلب الطاولة والتفكير في أجهزة الاستقبال في هذا النظام على أنها أدوات لقياس الغلاف الأيوني. أنشأنا خريطة مفصّلة للغلاف الأيوني لم نكن لنتمكن من إنشائها بطرق أخرى من خلال المزج بين قياسات أجهزة الاستشعار في ملايين الهواتف".
اقرأ أيضاً: خطوات بسيطة لاستخدام ميزة المخطط الزمني في خرائط جوجل
كيف تحولت الملايين من أجهزة أندرويد إلى "شبكة استشعار موزّعة"؟
الأجهزة الذكية الحديثة مزودة بأجهزة استقبال لنظام تحديد المواقع تقيس الإشارات الراديوية التي تبثها الأقمار الصناعية التي تدور على ارتفاع يبلغ نحو 1,931 كيلومتراً في المدار الأرضي المتوسط. تحسب أجهزة الاستقبال هذه المسافة بينها وبين الأقمار الصناعية وتستخدم هذه القياسات لتحديد الموقع، بدقة يبلغ الارتياب فيها نحو 4.5 أمتار. تنتقل هذه الإشارات بسرعة ودون أي معوقات عبر الفراغ حتى تصل إلى طبقة الغلاف الأيوني، وهي طبقة من الغلاف الجوي العلوي قد تكون مكتظة بالجسيمات إلى حد ما بناءً على متغيرات مثل الموسم والوقت من اليوم والبعد عن خط الاستواء، وهي في النهاية عوامل تسهم في أخطاء الدقة بنظام تحديد المواقع. أغلبية أجهزة الاستقبال في الهواتف مزودة بنموذج تصحيحي قادر على تصحيح نحو نصف الأخطاء المقدّرة.
سعى باحثو جوجل للتحقق من إمكانية استخدام القياسات التي تجريها أجهزة الاستقبال هذه في هواتف أندرويد لإنشاء خرائط للغلاف الجوي مطابقة لتلك التي تنشئها محطات الرصد الأكثر تقدماً. تتمتع محطات الرصد بأفضلية واضحة مقارنة بالهواتف المحمولة، فمن إحدى النواحي، تحتوي هذه المحطات على هوائيات أكبر بكثير من هوائيات الهواتف، إضافة إلى أنها تقبع عادة تحت السماء المفتوحة والصافية، على عكس الهواتف التي تعوقها غالباً الأبنية أو ملابس مستخدميها. يعاني كل هاتف أيضاً تحيّزاً خاصاً به في القياس يؤدي إلى انحراف القياس بمقدار بضعة أجزاء من المليون من الثانية. لكن الهواتف تعوض ما تفتقر إليه من التعقيد بالأعداد الهائلة.
جمع الباحثون في التجربة إشارات الملاحة عبر الأقمار الصناعية من ملايين هواتف الأندرويد حول العالم، المزودة بنظام الملاحة العالمي عبر الأقمار الصناعية الثنائي التردد. تقول جوجل إن القياسات كانت "مجمعة" (أي ليست فردية) و"غير محددة الهوية" وجاءت من عينة من أجهزة الأندرويد التي فعّل مستخدموها ميزات تحديد الموقع والإعدادات الأخرى ذات الصلة. استخدم الباحثون "الموقع التقريبي" للهواتف فقط (بارتياب نحو 10 كيلومترات) للحفاظ على الخصوصية أكثر. أتاح العدد الهائل من الهواتف المستخدمة في الدراسة للباحثين تصحيح التحيز الفردي للهواتف من خلال مقارنتها ببعضها. بمجرد جمع القياسات، تمكّن الباحثون من إنشاء خريطة عالمية مفصلة للإلكترونات الحرة في الغلاف الأيوني.
قال باحثو جوجل في منشور ضمن مدونة: "يمكن أن تؤدي شبكة من الإشارات المجمعة بطريقة التعهيد الجماعي دور أداة علمية شديدة الحساسية".
قارن الباحثون بعد ذلك خريطة هواتف أندرويد بقياسات قاعدة بيانات تتضمن قراءات من عدة محطات رصد حول العالم. هذه الطريقة المعتمدة على الهواتف وسّعت التغطية بنسبة كبيرة، خصوصاً في مناطق الهند وأوروبا الشرقية التي لا تحتوي على الكثير من محطات الرصد. تبين النقاط الزرقاء في الصورة أعلاه نحو 100 ألف موقع حول العالم حيث توافرت أعداد كافية من قياسات الهاتف لإنشاء خريطة للغلاف الأيوني، مقارنة بـ 9 آلاف محطة رصد فقط.
قال الباحثون في المنشور السابق الذكر: "يكافئ أداء نموذجنا في العديد من مناطق العالم استخدام أحدث خرائط الغلاف الأيوني العالمية المنشأة باستخدام قياسات محطات الرصد".
اقرأ أيضاً: كيف تستخدم ساعتك الذكية لتحديد المواقع بدلاً من هاتفك؟
تعزيز دقة نظام تحديد المواقع بخرائط الغلاف الأيوني
قد تساعد الطريقة الجديدة قريباً على توفير أدوات ملاحة أدق للمستهلكين. يزعم الباحثون في الدراسة الجديدة أن طريقة إنشاء الخرائط للغلاف الأيوني بالاعتماد على الهواتف تمتعت بأداء أفضل في تصحيح الأخطاء بقياس الغلاف الأيوني مقارنة بالطرق القياسية المستخدمة في معظم الهواتف بالفعل. قالت جوجل لبوبيولار ساينس إنها تخطط لتزويد هواتف أندرويد الجديدة ببعض ميزات تحديد المواقع الأدق في المستقبل. قد يؤدي ذلك إلى تقليل عدد أخطاء الملاحة المزعجة في أثناء رسم المسارات. قد تؤدي التحسينات التي تبدو بسيطة وغير ذات قيمة في الدقة دوراً بالغ الأهمية في حالات الطوارئ القصوى. قال ويليامز إن هذا المستوى الجديد من الدقة قد يساعد النظام على التمييز بدقة أكبر بين طريق سريع وطريق جانبي وعر موازٍ، وهي تفاصيل بالغة الأهمية بالنسبة لرجال الإنقاذ الذين يحاولون الوصول إلى مكان الحادث بأسرع ما يمكن.
تتيح المنطقة الواسعة التي تغطيها بيانات خريطة الهواتف للباحثين فرصة رصد ظواهر الغلاف الأيوني المثيرة للاهتمام وتوثيقها، مثل فقاعات البلازما، باستخدام عدد قليل من المعدات المتخصصة. في إحدى الحالات المفاجئة، تمكن باحثو جوجل من استخدام خريطة الهواتف لاكتشاف شذوذ استوائي فوق جنوب آسيا لم تكشفه محطات الرصد القليلة في المنطقة.
قال ويليامز "شعرت بالدهشة عندما وصلنا أول مرة إلى الدقة المطلوبة لكشف حركة فقاعات البلازما فوق الهند قبيل غروب الشمس. رصد العلماء فقاعات البلازما الاستوائية من قبل، ولكن ليس بهذا المستوى من التفصيل في هذه المنطقة من العالم. شعرنا بسعادة غامرة حين استطعنا التحقق من أرصادنا عندما مر أحد أقمار كوزمك-2 التابعة لوكالة ناسا عبر إحدى فقاعات البلازما وقاس انخفاضاً في كثافة الأيونات مطابقاً تماماً لما قاسته الهواتف التي استخدمناها".
هناك فوائد أخرى غير مباشرة للطريقة الجديدة في إنشاء خرائط الغلاف الأيوني. قال الباحثون إنهم تمكنوا عند تحليل قياسات أجهزة الاستقبال في أجهزة أندرويد من كشف علامات على النشاط الكهرطيسي تتوافق مع علامات عاصفتين شمسيتين شديدتين حدثتا في وقت سابق من عام 2024، منهما عاصفة حدثت في أميركا الشمالية بين 10 و11 مايو/أيار. بيّنت قياسات الهواتف للغلاف الأيوني في تلك المنطقة ارتفاعاً كبيراً في النشاط الكهرطيسي تلاه انخفاض سريع. على الرغم من أن محطات الرصد تحسست هذه العاصفة، تشير الدراسة الجديدة إلى أن قياسات الغلاف الأيوني المعتمِدة على الهواتف في المناطق التي لا تحتوي على محطات الرصد قد تُوفر معلومات حول العواصف الشمسية أو النشاط المغناطيسي الأرضي ربما يكون الحصول عليها بطرق أخرى غير ممكن. قد يساعد تحليل هذه البيانات العلماء على التوصل إلى طرق أكفأ للاستعداد للكوارث والاستجابة لها في المستقبل.
قال ويليامز: "تكشف خرائط الغلاف الأيوني المعتمدة على قياسات الهواتف ديناميكيات الغلاف الأيوني بتفصيل أكبر في بعض المواقع مقارنة بالطرق المتاحة، ونأمل أن تساعد هذه الخرائط العلماء على فهم تأثير العواصف المغناطيسية الأرضية على الغلاف الأيوني بدقة أكبر".