حالات الإصابة بالحساسية آخذة في الازدياد، لكن العلماء يجهلون الكثير عن أسبابها. نظر الباحثون في دراسة جديدة نشرتها مجلة آفاق في علم الأحياء الدقيقة (Frontiers on Microbiology) بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 2024 حول تأثير الميكوبيوم الأنفي، أي الفطريات التي تعيش في الأنف، في التهاب الأنف التحسسي والربو.
تتفاعل المجاري الهوائية مع البيئة على نحو مستمر، ما يجعل استجابتها المناعية واحدة من الدفاعات الأهم ضد الأمراض. يعرف العلماء منذ زمن أن تجويف الأنف يؤدي دور مخزن للبكتيريا، وإذا استوطنت البكتيريا المسببة للأمراض فيه، فإنها قد تنتشر إلى أجزاء أخرى من الجهاز التنفسي وتتسبب بأمراض الجهاز التنفسي.
مع ذلك، البكتيريا ليست الكائنات الحية الوحيدة التي تعيش في التجاويف الأنفية؛ إذ إن الأنف يؤوي العديد من أنواع الفطريات، ويقول المؤلف المشارك للدراسة الجديدة، لويس ديلغادو، لبوبيولار ساينس: "إن دور المجتمعات الفطرية التي تعيش داخل المجاري الهوائية العلوية في التهاب الأنف والربو غير معروف عملياً".
اقرأ أيضاً: هل الفطريات تفكر؟ دراسة حديثة تُجيب
الميكوبيوم: الميكروبيوم الفطري الموجود في الأنف
ليس غريباً أن تعيش الفطريات في الأنف، فإننا نستنشق كميات كبيرة من أبواغها في كل مرة نأخذ فيها شهيقاً. لكن ما هو عدد هذه الأبواغ؟ يقول ديلغادو: "وفقاً لحسابات العلماء، يتجاوز عدد الأبواغ الفطرية 50 ألفاً لكل متر مكعب من الهواء خلال مواسم فطرية محددة". مع ذلك، فإن أغلبية هذه الأبواغ تدخل الجسم مع الشهيق وتخرج منه مع الزفير. وفقاً لديلغادو، قد يكون التعرض لمجموعة متنوعة من الأبواغ مفيداً، كما يتضح مما يسميه "تأثير المزرعة"؛ إذ ثبت أن الأشخاص الذين ينشَؤون في "البيئات الغنية بالميكروبات المتنوعة على نحو طبيعي" مثل المزارع أقل عرضة للإصابة بالربو والحساسية.
يستوطن بعض هذه الأبواغ في الأنف، وحقق ديلغادو وفريقه في الدراسة الجديدة في إمكانية وجود اختلافات في الميكوبيوم (أو الميكروبيوم الفطري) بين الأشخاص الذين يعانون التهاب الأنف التحسسي أو الربو أو كليهما، والأشخاص الذين لا يعانون أياً من الحالتين. توصّل الباحثون في الدراسة إلى أن "7-10 من بين الأجناس الفطرية الـ 14 الأكثر وفرة في تجويف الأنف مختلفة جداً" بين المصابين بالحالتين وأفراد مجموعة الضبط.
الفطريات قد تكون مسؤولة عن بعض حالات الحساسية
من المغري أن نستنتج أنّ الفطريات التي تعيش في أنوف المصابين بالربو و(أو) التهاب الأنف حصرياً هي سبب محتمل لهاتين الحالتين، مع ذلك، يحذّر ديلغادو من إجراء هذه الاستنتاجات المباشرة قائلاً: "قد لا نتمكن من استنتاج علاقة سببية بسبب تصميم دراستنا ونتائجها". يضيف ديلغادو قائلاً إنه "[على الرغم من أن] تجويف الأنف هو مخزن رئيسي للفطريات المسببة للحساسية أو الانتهازية (أي تلك التي قد تتسبب بالأمراض في ظروف خاصة)، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن العدوى الفطرية الموضعية وعدوى المجاري الهوائية وحتى التحسس الفطري والحساسية الفطرية هي حالات استثنائية في المظاهر السريرية لكل من التهاب الأنف التحسسي والربو".
مع ذلك، تشير نتائج الدراسة على نحو مثير للاهتمام إلى وجود علاقة بين الميكوبيوم والإصابة بهذه الحالات، إضافة إلى أنها تثير تساؤلات حول فرضية "مرض مجرى الهواء الواحد"، التي تنص على أن التمييز بين التهاب الأنف التحسسي والربو والحالات المشابهة اعتباطي إلى حد كبير، وأن هذه الحالات هي تجليات مختلفة لمرض التهابي واحد في مجرى الهواء. طرح العلماء هذه الفكرة في أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة ولا تزال مؤثرة حتى يومنا هذا، ووفقاً لديلغادو، الأمر الأهم هو أن هذه الفرضية "هي أساس الإرشادات الصحية الخاصة بالتهاب الأنف التحسسي وتأثيره في الربو التي يستخدمها الأطباء حالياً على نطاق واسع في تشخيص الأفراد بهذين المرضين والتعامل معهما".
مع ذلك، يقول ديلغادو إن العديد من الأوراق البحثية الحديثة تحدى هذه الفكرة، "وأشار مؤلفوها إلى أن التهاب الأنف والتهاب الأنف المصحوب بالربو قد يمثلان مرضين منفصلين يتجلى كل منهما بتحسس مختلف تجاه مسببات الحساسية". هناك العديد من الاختلافات المميزة بين الحالتين وبين استجاباتهما للعلاجات المختلفة، كما اتضح أيضاً أن هناك اختلافات مميزة في الميكوبيوم بين المشاركين الذين يعانون التهاب الأنف التحسسي فقط وأولئك الذين يعانون الربو فقط والذين يعانون الحالتين معاً.
اقرأ أيضاً: كيف يتسبب التغيّر المناخي بانتشار الفطريات الخطيرة على صحة البشر؟
يبدو أيضاً أن هناك اختلافات في طريقة تفاعل الأنواع المختلفة من الفطريات في كل حالة. يقول ديلغادو: "الجدير بالذكر هو أن المصابين بالتهاب الأنف والربو المصاحب هم الذين يتمتعون بشبكة ميكوبيوم أكبر وأكثر تنوعاً تحتوي على أصناف فطرية تنخرط في العديد من التفاعلات الإيجابية والسلبية (التنافسية)، بينما تمتع كل من أفراد مجموعة الضبط والمصابين بالتهاب الأنف بتفاعلات أقل شدة كانت إيجابية بأكملها (أي تستفيد فيها الكائنات الحية الدقيقة المرتبطة من بعضها)".
اختلاف الميكوبيومات قد يكون من أعراض الأمراض
قد يمثل ذلك مجالاً بحثياً مستقبلياً، وخصوصاً، كما يشير ديلغادو، لأن "الأبحاث السابقة بيّنت أن التغيرات في أنماط الوفرة المشتركة والاستبعاد قد تمثّل مؤشراً على عمليات مرضيّة أساسية ربما تتسبب باضطراب كل من شبكات الارتباط الفطرية والبنية الفطرية 'الصحيتين'". بتعبير آخر، قد يكون اختلاف الميكوبيومات أحد أعراض هذه الحالات وليس سبباً لها، إلى حد ما على الأقل.
هناك أيضاً تساؤل يتعلق بطريقة تفاعل البكتيريا والفطريات المختلفة في التجاويف الأنفية، ويقول ديلغادو: "لم نتطرق في هذه الدراسة إلى التفاعلات البكتيرية الفطرية (أو تفاعلات الميكروبيوم والميكوبيوم). [هذه التفاعلات] قد تكون ضرورية لصحة شبكة ميكروبيوم الجهاز التنفسي، أو من ناحية أخرى، قد تكون تفاعلات إيجابية أو سلبية محددة تسهّل التهاب مجرى الهواء وظهور الأمراض. قد تمثّل دراسة بعض التفاعلات الفطرية البكتيرية متابَعة مثيرة للاهتمام لدراستنا".
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يسبب بعض أنواع الفطريات جائحة في المستقبل؟
في الواقع، من المرجح أن فهم التفاعلات المعقدة للغاية بين مختلف الكائنات التي تعيش في المجاري الأنفية سيتطلب سنوات من البحث. مع ذلك، تشير الدراسة الجديدة إلى أن العلماء سيضطرون إلى دراسة فطريات الأنف أكثر لفهم السبب الدقيق الذي يجعل بعضنا أكثر عرضة لحالات الحساسية الأنفية من غيره.