ما هي بروتينات الهستونات؟ وكيف تساعد خلايا الجسم على أداء وظائف ضرورية للحياة؟

7 دقيقة
تبين أن الهستونات، المعروفة بأنها بمثابة دعامة للحمض النووي وتنظّم نشاط الجينات، تؤدي أيضاً أدواراً استقلابية مهمة في الخلية.

ملخص: تجري خلايا الجسم تفاعلات تربط جزيئات الكربون بالبروتينات والدهون والحمض النووي وغيرها أو تزيلها منها، وهي عملية ضرورية لبقاء الخلايا والعديد من وظائفها، مثل الانقسام والنمو. النوع الأهم من هذه التفاعلات هو الذي تُجريه الإنزيمات لربط مجموعات الميثيل والأسيتيل بالبروتينات التي تحمل اسم "الهستونات" (التي يلتف حولها الحمض النووي) أو فصلها عنها، واعتقد العلماء أن الهستونات مجرد دعامة بنيوية للجينات وأنها بالغة الأهمية في التحكم بتفعيلها، لكن دورها لا يقتصر على ذلك؛ إذ إنها تؤدي أدواراً مهمة في عملية الاستقلاب، وذلك من خلال مساعدة الخلية على التعامل مع جزيئات الكربون الناتجة عن التفاعلات الكيميائية الحيوية. تؤدي الهستونات دور مخزن لمجموعات الأسيتيل تستخدمه الخلية عندما تحتاج إليها، كما أنها تؤدي دور مصرف لمجموعات الميثيل يمكن وضعها فيها حتى لا تعوق التفاعلات الكيميائية، كما تسهم في عمليات توليد الطاقة في الخلية. لا يزال منشأ الهستونات مجهولاً، لكن هناك أكثر من فرضية، منها أنها تطورت لتساعد العتائق على توليد الطاقة، وأنها ربما أسهمت في حماية الحمض النووي من الفيروسات ومن التفكك في البيئات القاسية.

في كل ثانية يتنفس فيها البشر أو ينامون أو يأكلون أو يجرون نشاطاتهم اليومية، تحدث ملايين التفاعلات الكيميائية الحيوية في خلايا أجسامهم. من بين التفاعلات الكيميائية العديدة والمتنوعة هذه، هناك تفاعلات تربط جزيئات الكربون الصغيرة بالبروتينات والدهون والحمض النووي وغيرها (أو تزيلها من هذه المركّبات). عملية إضافة هذه الجزيئات الصغيرة أو إزالتها ضرورية لحدوث العديد من التفاعلات التي تمكّن الخلايا من البقاء والنمو والانقسام.

ربما يكمن الهدف الأكثر إثارة للاهتمام لعمليات الإزالة والإضافة هذه، وهو الذي درسه العلماء أكثر من غيره، داخل النواة النشطة، التي يربط العديد من الإنزيمات فيها جزيئين صغيرين (مجموعات الميثيل ومجموعات الأسيتيل) بالهستونات أو يزيلهما منها، وهي "بكرات" البروتين التي يلتف حولها الحمض النووي البشري.

اعتقد العلماء عبر عقود من الزمن أن إضافة مجموعات الميثيل أو الأسيتيل إلى الهستونات أو إزالتها منها هي العمليات الأساسية التي تتحكم بوقت تفعيل الجينات وموقعه.

لكن يشير الكثير من الأدلة المتزايدة إلى أن دور هذه التفاعلات لا يقتصر على ذلك. على الرغم من أن إضافة مجموعات الميثيل والأسيتيل إلى الهستونات يرتبط على نحو وثيق بنشاط الجينات المجاورة في بعض النقاط من الجينوم، لكن هذا التفاعل ليس له أي تأثير في العديد من النقاط الأخرى. يشير ذلك إلى أن تنظيم نشاط الجينات ليس الوظيفة الوحيدة لهذه الهستونات، كما أنه قد لا يمثّل الوظيفة الرئيسية لها في المقام الأول.

في الواقع، تشير الأبحاث الناشئة إلى أن هذه التعديلات على الهستونات تؤدي أدواراً بالغة الأهمية في إحدى العمليات الكيميائية الحيوية الخلوية، وهي عملية الاستقلاب؛ إذ إنها تساعد الخلية على التعامل مع جزيئات الكربون الصغيرة التي تنتج عن التفاعلات الكيميائية الحيوية.

اقرأ أيضاً: ما تأثير المكونات الكيميائية في الأدوية وغيرها على نتائج بعض التحاليل الطبية؟

ما هو دور الهستونات؟

يقترح الباحثون أن الهستونات تؤدي دور بنك أو مخزن لمجموعات الأسيتيل (المكونة من ذرتين من الكربون وثلاث ذرات من الهيدروجين وذرة من الأوكسجين) تستطيع الخلية استخدامه عندما تحتاج إلى المزيد من الأسيتيل للتفاعلات الكيميائية.

يقترح هؤلاء أيضاً أن الهستونات تؤدي دور مصارف لمجموعات الميثيل (التي تتألف من ذرة من الكربون وثلاث ذرات من الهيدروجين) يمكن وضع الميثيل فيها حتى لا يعوق التفاعلات الكيميائية. دون هذه المصارف، يتوقف نشاط العديد من الجزيئات التي لا تستطيع الانتقال إلى الخطوة التالية في المسار الكيميائي الحيوي دون فقدان مجموعة ميثيل، ما يؤدي إلى خلل في عمل الخلية.

نظر العلماء إلى الهستونات من قبل على أنها دعامة بنيوية للجينات، أي جزيئات تحافظ على ترتيب الطيات الكثيفة من خيوط الحمض النووي. لكن بعد ذلك، أصبح العلماء ينظرون إليها على أنها منخرطة في عملية التحكم في الجينات، إمّا من خلال تسهيل عملية بسط الحمض النووي، التي تتيح نسخه، وإمّا من خلال منعها. الآن، إذا تبينت صحة نتائج الأبحاث الجديدة، سيثبت العلماء أيضاً أن الهستونات تؤدي أدواراً مرتبطة على نحو وثيق بالعمليات الاستقلابية في الخلية.

يقول العلماء إن ذلك قد يساعد على اكتشاف منشأ الهستونات وكيفية تطورها في المقام الأول.

التأشير في ظروف الوفرة

منذ أكثر من عقد من الزمن، كان عالم الكيمياء الحيوية في مركز ساوث ويسترن الطبي التابع لجامعة تكساس، بنجامين تو، يزرع خلايا الخميرة في مختبره عندما لاحظ ظاهرة مثيرة للاهتمام. كان نشاط أكثر من ألف جين يتفاوت بالتناسب مع كمية الأوكسجين التي تستهلكها الخلايا. وكان كل من نشاط الجينات والنشاط الاستقلابي يتغيّر بطريقة منسّقة.

لاحظ تو أيضاً أنه عندما كان نشاط الجينات التي تؤدي دوراً في نمو الخلايا في ذروته، تزامن ذلك مع وجود أعداد كبيرة من مجموعات الأسيتيل عالقة على هستونات هذه الجينات. وعندما كانت الجينات غير نشطة خلال المرحلة التالية من الدورة الخلوية، اختفت مجموعات الأسيتيل. قال تو: "كانت هذه ملاحظة مثيرة للحماس للغاية".

يعود ذلك إلى أن الجسيمات الكوندرية، وهي العُضيّات المنتجة للطاقة في الخلية، هي التي تركّب مجموعات الأسيتيل. تستخدم الخلية مجموعات الأسيتيل لتركيب الجزيئات مثل الأحماض الدهنية التي تؤدي دور مصدر للطاقة وتستخدمها الخلية في بناء أغشيتها. ما بدا أنه يحدث هو أن الأسيتيل يؤدي دور إشارة ترسلها الجسيمات الكوندرية إلى نواة الخلية تفيد بأن هناك وفرة في الطاقة وفي الوحدات الأساسية الكيميائية. رفعت مجموعات الأسيتيل نشاط الجينات التي تؤدي دوراً في نمو الخلايا من خلال الارتباط بالهستونات. في النهاية، حدوث النمو والانقسام في ظروف الوفرة منطقي.

لاحظ تو دلائل تشير إلى أن الأسيتيل المرتبط بالهستونات قد يؤدي دور مصدر للطاقة تستطيع الخلية الاعتماد عليه في ظروف القحط. لاحظ تو أن كمية مادة كيميائية مهمة تحمل اسم "أسيتيل الإنزيم المساعد أيه" (acetyl-CoA) تنخفض في الخلية عند حرمانها من الطاقة، وهي مادة تؤدي دوراً بالغ الأهمية في توليد الطاقة. استهلكت الخلايا مجموعات الأسيتيل التي انفصلت عن الهستونات لتوليد الطاقة. أعادت الخلية ترتيب مجموعات الأسيتيل المتبقية بطريقة تؤدي إلى تنشيط الجينات بهدف تركيب المزيد من أسيتيل الإنزيم المساعد أيه.

تشير أبحاث أخرى أجراها فريق تو إلى أن الهستونات قد تؤدي دوراً أهم في المسارات الاستقلابية التي تتضمن مجموعات الميثيل. درس العلماء مادة كيميائية في الخميرة تحمل مجموعات الميثيل واسمها "إس-أدينوسيل المثيونين" أو "إس أيه إم" اختصاراً. عندما تفقد هذه المادة مجموعة ميثيل، فهي تتحول إلى مادة كيميائية ضرورية لتركيب الحمض الأميني السيستين. لكن عندما لا تحتوي الخلية على حيّز كافٍ لتخزين مجموعات الميثيل، تنخفض كمية السيستين التي تركّبها، ما يؤثّر في قدرتها على النمو. تؤدي الهستونات دور مستقبلات لمجموعات الميثيل هذه.

اقرأ أيضاً: ما العادات الحياتية والأطعمة والمشروبات التي يمكننا رفع معدل الاستقلاب من خلالها؟

استدامة عملية الاستقلاب

كشفت دراسة أجراها عالم الكيمياء الحيوية في جامعة أوكسفورد، بيتر ساركيز، وزميله ماركوس فرانسيسكو بيريز عام 2023 عن المزيد من الأدلة على الدور الاستقلابي للهستونات؛ إذ فحص العالمان مجموعة كاملة من الإنزيمات المختلفة التي تربط مجموعات الميثيل بالهستونات.

يربط كل إنزيم مجموعة الميثيل بموقع فريد على الهستون، وهو جزء مرن يحمل اسم "ذيل الهستون". يمكن أن يترافق ارتباط مجموعة الميثيل بالهستون بتفعيل نشاط الجين أو تثبيط هذا النشاط أو عدم حدوث أي تغيير، ويعتمد ذلك على موقع ارتباط الميثيل. جادل ساركيز بأنه إذا كان الهدف هو التخلص من مجموعات الميثيل حتى تستمر عملية الاستقلاب، فالعامل الأهم هو النشاط الإجمالي لهذه الإنزيمات، وليس أي إنزيم فردي أو تأثير معين في جين قريب.

هذا ما لاحظه فريقه بالضبط عندما فحص عدداً من خطوط الخلايا السرطانية. ارتفع نشاط تركيبات مختلفة من تلك الإنزيمات المُمَثيِلة في خطوط خلوية معينة وانخفض في خطوط أخرى، وذلك حتى يصبح تخزين مجموعات الميثيل في الهستونات ممكناً بهدف إزالة هذه المجموعات واستدامة عملية الاستقلاب بوتيرة مرتفعة.

اكتشف العلماء أيضاً أن العديد من الإنزيمات المُمَثيِلة كان تحت تأثير جين يحمل اسم "آر بي" معروف بأنه يؤدي دوراً في كبح الخلايا السرطانية (إذ إنه يطفر غالباً في الخلايا السرطانية). يشير ذلك إلى أن هذا الجين يؤدي دوراً بالغ الأهمية في رفع معدل تخزين مجموعات الميثيل في الهستونات أو خفضه، ما يعني أنه يؤدي دوراً مهماً في تنظيم المسارات الكيميائية الحيوية والنمو.

يقول ساركيز: "ما اكتشفناه هو أن الخلية تطبّق عملية مَثيَلة الهستون لتنظيم نشاط الجينات وعملية الاستقلاب أيضاً".

إمكانات إضافية

اكتشف الباحثون مؤخراً أيضاً أن الهستونات يمكن أن تشارك أحياناً في عمليات كيميائية حيوية خلويّة أخرى. بيّن فريق عالم بيولوجيا الكروماتين في معهد جوزيب كاريراس لأبحاث سرطان الدم في برشلونة، ماركوس بوشبيك، في دراسة من عام 2017 أن نوعاً من الهستونات يحمل اسم "ماكرو آتش 2 أيه 1.1 (macroH2A1.1) قد يسهم في حفظ مادة كيميائية تحمل اسم "إن أيه دي+" (+NAD) تؤدي دوراً مهماً في العديد من التفاعلات الكيميائية الحيوية. يؤدي ذلك إلى ضمان توفر المزيد من مادة إن أيه دي+ التي تستخدمها الجسيمات الكوندرية لتوليد الطاقة.

بيّن فريق عالم الكيمياء الحيوية في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، سيافاش كردستاني، في عام 2020 أن الهستونات تؤدي دور إنزيمات تحوّل أيونات النحاس المؤكسدة إلى أيونات النحاس المختزلة. أيونات النحاس المختزلة هي نوع أيونات النحاس الذي تحتاج إليه الجسيمات الكوندرية لتوليد الطاقة. كان تشكُّل هذه الأيونات نادراً في أوائل الفترة التي تطورت فيها الخلايا الحقيقية النوى المعقدة، مثل خلايا البشر، لأن النحاس كان يتأكسد مع ارتفاع نسب الأوكسجين في الغلاف الجوي.

مع اكتشاف الباحثين للعلاقة بين الهستونات والاستقلاب، فإنهم يضعون الفرضيات حول نشوء هذه العلاقة.

يشير هؤلاء إلى أن الميكروبات التي تحمل اسم "العتائق"، التي يعتقد العلماء أن الخلايا الحقيقية النوى تطورت منها، تحتوي على العديد من أنواع الهستونات. لكن لا يتمتع سوى عدد قليل للغاية من هذه الهستونات بذيول مرنة مثل تلك التي تتمتع بها هستونات البشر، وهي الأجزاء التي تضيف الإنزيمات إليها مجموعات الميثيل والأسيتيل. لهذا السبب، العلماء مهتمون باكتشاف الوظائف التي أدتها الهستونات في أسلافنا من العتائق.

يطرح العلماء العديد من الفرضيات. على سبيل المثال، يقترح كردستاني أنه من المحتمل أن الوظيفة المبكّرة لهستونات العتائق تمثلت في تركيب أيونات النحاس المختزلة البالغة الأهمية. يقترح عالم بيولوجيا الكروماتين في جامعة إمبريال كولدج في لندن، توبياس فارنيكه، الذي يدرس تطور هستونات العتائق، أن هذه الهستونات قد تساعد على وقاية الحمض النووي من التفكك في البيئات القاسية التي تعيش فيها العتائق، مثل تلك التي تسودها درجات الحرارة المرتفعة. يقول فارنيكه إن الهستونات ربما حمت أيضاً الحمض النووي القديم من الفيروسات التي حاولت إدخال نفسها فيه.

بعد ظهور سلف حقيقيات النوى المنتشرة حالياً منذ نحو 1.5 مليار سنة، اكتسبت الهستونات ذيولاً أطول معدّلة كيميائياً بعدة طرق، منها إضافة مجموعات الأسيتيل والميثيل. يقول تو إنه من المحتمل أن هذه التعديلات نشأت لتنظيم المستقلَبات التي تركبها الجسيمات الكوندرية في حقيقيات النوى المبكّرة. بعض المواد الكيميائية التي تركبها الجسيمات الكوندرية شديد التفاعل ويمكن أن يلتصق تلقائياً بجزيئات مهمة مثل الحمض النووي ويتسبب بإتلافها. ربما اكتسبت الخلية إنزيمات لإزالة جزيئات الكربون الصغيرة هذه من الأماكن التي قد تتسبب فيها بضرر ووضعها في أماكن مثل ذيول الهستونات حيث تكون غير ضارة.

اقرأ أيضاً: ما هو الفاجيوم؟ الكائنات الخفية داخل أمعائك وما هي وظائفه؟

ربما أصبحت الخلية لاحقاً معتمدة على هذه التعديلات التي تطرأ على الهستونات في تنظيم عملية الاستقلاب.

لكن ما الذي حدث بعد ذلك؟ يبدو أن تطور الهستونات يعتمد على مبدأ إعادة الاستخدام. يقول ساركيز إنه إذا توصلت الخلايا في البداية إلى طريقة لتنظيم عملية الاستقلاب فيها باستخدام الهستونات، فربما أدّت عملية مشابهة إلى استخدام هذه الهستونات للتحكم في نشاط الجينات. يُضيف ساركيز قائلاً إنه بالنسبة للهستونات، "تنظيم الاستقلاب أكثر أساسية من تنظيم نشاط الجينات".