الفضاء الخارجي عبارة عن فراغ شاسع، ولكنه ليس فراغاً مثالياً. فحسب الفلكيين، فإن هذا المفهوم موجود فقط في الحسابات النظرية وأفلام هوليود. ولكن بغض النظر عن بقايا ذرة الهيدروجين العائمة فيه، فإنه فراغ.
يكتسب هذا المفهوم أهمية على الأرض هنا، لأن جزءاً كبيراً من التكنولوجيا الحديثة يعتمد على التفريغ الجزئي. في الواقع، لا يقتصر الفراغ على وصفه مكاناً يستطيع فيه الفيزيائيون إجراء تجارب مسلية، ولكن هذه البيئة التي يمكن إنشاؤها بواسطة الآلات ضرورية جداً لتصنيع العديد من المكونات الإلكترونية للهواتف وأجهزة الكمبيوتر الحديثة. ولكن لقياس مستوى التفريغ فعلياً وفهم مدى ملاءمته للتصنيع، يعتمد المهندسون على تقنية بسيطة نسبياً تعود إلى أيام تكنولوجيا أنابيب التفريغ القديمة.
اقرأ أيضاً: هل تحطم النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات؟
تعمل بعض الفرق البحثية الآن على تطوير هذه التكنولوجيا. حيث دفعت الأبحاث الجديدة تقنية جديدة، تعتمد على تكنولوجيا الفيزياء الذرية فائقة التبريد الجديدة، خطوة للأمام نحو استخدامها كطريقة معيارية.
يقول الفيزيائي بجامعة بريتش كولومبيا في فانكوفر، كيرك ماديسون: «إنها طريقة جديدة لقياس الفراغ، وأعتقد أنها ثورية حقاً».
ماذا يوجد داخل الفراغ؟
قد يكون من الصعب قياس الفراغ كمياً، ولكن ما نفعله في الواقع قياس ضغط الغاز داخل الفراغ، أو بعبارة أخرى، القوة التي تمارسها الذرات المتبقية على حجرة التفريغ. لذا فإن قياس الفراغ يتعلق بحساب الضغوط بدقةٍ أكبر بكثير مما يقيسها خبير الأرصاد الجوية المحلية.
قد يجري المهندسون اليوم هذا القياس باستخدام أداة تُسمى "مقياس الأيونات". تتكون هذه الأداة من سلك حلزوني يقذف الإلكترونات عند إدخالها في حجرة مفرّغة، حيث تصطدم الإلكترونات بأي ذرات غازية داخل السلك الحلزوني وتحولها إلى أيونات مشحونة. ثم يعرض الجهاز رقماً يمثل عدد الأيونات المتبقية في الحجرة. ولكن لفهم الرقم الناتج، يجب معرفة تركيبة الغازات المختلفة التي يقيسها، وهذا ليس بالأمر السهل دائماً.
المقاييس الأيونية هي بمثابة أبناء عمومة تكنولوجية للأنابيب المفرغة، تلك المكونات التي كانت تعمل على تشغيل أجهزة الراديو القديمة وأجهزة الكمبيوتر العملاقة التي كانت تملأ الغرف وتشيع في قصص الخيال العلمي قبل تطوير ترانزستور السيليكون. يقول الفيزيائي في المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا (NIST)، ستيفن إيكل: «لا يمكن الوثوق بهذه المقاييس إلى حد بعيد، إذ يتعين علينا إعادة معايرتها باستمرار».
على الرغم من أن هناك أدواتاً أخرى لقياس الفراغ، لكن مقاييس الأيونات هي الأفضل في قياس الضغط بدقة تصل إلى واحد من المليار من الباسكال (الوحدة المعيارية للضغط). قد يبدو أن هذا القدر من الدقة غير ضروري، لكن العديد من مصنّعي التكنولوجيا الفائقة يحتاجون إلى قياس الفراغ بأكبر دقة ممكنة. تعتمد طريقتان شائعتان لتصنيع المكونات الإلكترونية والأدوات، مثل الأدوات الليزرية والجسيمات النانوية، على معالجة طبقاتٍ رقيقة من المواد داخل الحجر المفرغة من الهواء. تحتاج هذه التقنيات إلى أماكن مفرغةٍ نقية لهذه المواد لتعمل بشكلٍ مثالي.
كلما كانت الحجرة نقية أكثر، زادت صعوبة تحديد الذرات المتبقية، ما يجعل مقاييس الأيونات أقل موثوقية، وهنا يمكن أن تؤدي الذرات فائقة التبريد دورها.
اقرأ أيضاً: كيفية صناعة ليزر أشعة سينية أكثر برودة من الفضاء
لعب السنوكر بالذرات
لعقود من الزمن، كان الفيزيائيون يأخذون الذرات ويعملون على تخفيف تهيجها بواسطة شعاع ليزر على الدقة، ويحصرونها في قفصٍ مغناطيسي، كل ذلك لإبقائها محتجزةً في درجات حرارة لا تزيد عن جزء من الدرجة فوق الصفر المطلق. تجبر درجات الحرارة شديدة الانخفاض هذه الذرات التي تميل إلى التطاير على الاستقرار جيداً كي يتمكن الفيزيائيون من مراقبة سلوكها.
في عام 2009، كان ماديسون وغيره من الفيزيائيين في العديد من المؤسسات في جامعة بريتيش كولومبيا يراقبون ذرات الروبيديوم- وهو عنصر محبّ للبرودة- المحاصرة والمبردة بشدة عندما خطرت لهم فكرة جديدة.
لنفترض أنك وضعت مصيدة مليئة بالذرات فائقة التبريد في حجرة مفرغة في درجة حرارة الغرفة. ستكون عرضة لوابل مستمر من الذرات الأكثر سخونة وطاقة والمتبقية في الفراغ. سوف تندفع معظم الجسيمات المتهيجة بشدة عبر المصيدة المغناطيسية بلمح البصر، لكن بعضها قد يصطدم بالذرات المحاصرة، ما يؤدي إلى دفعها خارج المصيدة.
القياس ليس مثالياً، إذ لن ينجح كل اصطدام بإخراج ذرة من المصيدة. ولكن إذا كنت تعرف "عمق" المصيدة (أو درجة حرارتها) ورقماً يُدعى المقطع العرضي الذري (يقيس احتمالية حدوث التصادم في الأساس)، يمكنك معرفة عدد الذرات التي تدخل المصيدة بسرعة نسبياً. اعتماداً على هذا القياس، يمكنك معرفة الضغط وكمية المادة المتبقية في الفراغ كما يشرح ماديسون.
يمكن أن يكون لمثل هذه الطريقة بعض المزايا مقارنة بمقاييس الأيونات. يمكن أن تعمل هذه الطريقة مع جميع أنواع الغازات الموجودة في الفراغ نظراً لعدم إمكانية حدوث تفاعلات كيميائية معها. والأهم من ذلك، ونظراً لأن القياسات تتم اعتماداً على سلوك الذرات، فلا حاجة إلى معايرة أي شيء.
في البداية، لم يهتم إلا القليل من مجتمع الفيزياء بالاختراق الذي حققه ماديسون ومعاونيه. يقول ماديسون: «لم يكن هناك أحد يعتقد أن لعملنا هذه الأهمية الكبيرة. ولكن، وبعد 13 عاماً منذ ذلك الحين، تبنت مجموعات أخرى هذه التكنولوجيا. في الصين، بدأ معهد لانتشو للفيزياء في بناء نسخته الخاصة من هذه التكنولوجيا. كما تبنت إحدى الوكالات العلمية في الحكومة الألمانية هذه التكنولوجيا أيضاً.
كان المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا آخر من دخل على خط هذه الاختبارات. يُعتبر هذا المعهد الوكالة الأميركية المسؤولة عن تحديد الأوزان والمقاييس الرسمية في البلاد، مثل الكيلو غرام الرسمي (نعم، حتى الولايات المتحدة تستخدم النظام الدولي للوحدات). لقد كانت إحدى مهام المعهد القومي للمعايير والتكنولوجيا لعقود من الزمن متمثلةً في معايرة مقاييس الأيونات الدقيقة التي استمر المصنعون في إرسالها لهم لفحصها. ألهمت طريقة باحثي جامعة بريتيش كولومبيا الجديدة المعهد لابتكار طريقة سهلة الاستخدام أكثر.
معيار جديد لقياس الفراغ
لا يشبه نظام المعهد القومي للمعايير والتكنولوجيا تماماً النظام الذي ابتكرته مجموعة ماديسون. أولاً، يستخدم نظام الوكالة ذرات الليثيوم، وهي أصغر وأخف وزناً بكثير من ذرات الروبيديوم. يقول إيكيرت، وهو أحد المشاركين في مشروع المعهد، إن هذه الذرات أقل عرضةً للبقاء في المصيدة بعد الاصطدام، لكن النظام يعتمد على نفس المبادئ الأساسية للتجربة الأصلية، ما يقلل من حجم العمل لأنك لست مضطراً إلى معايرته مراراً وتكراراً.
يقول إيكل: «إذا صنعت مثل هذا الشيء، يجب أن يقيس الضغط بشكل صحيح، وإلا لا يمكن اعتباره معياراً».
وضع المعهد القومي للمعايير والتكنولوجيا نظامه تحت الاختبار خلال العامين الماضيين. لضمان عمله بشكلٍ صحيح، قام المعهد ببناء جهازي ذرات مبردة متطابقين وقاموا بتشغيلهما في نفس حجرة التفريغ. عندما شغلوا الجهازين معاً، أصيبوا بالصدمة لدى اكتشافهم أن كل جهازٍ أعطى قراءةً مختلفة عن الآخر. اتضح فيما بعد حدوث تسريب في حجرة التفريغ، ما سمح للغازات الجوية بالتدفق إلى داخلها. يقول إيكل: «بعد إصلاح التسرب، تطابقت قراءتا الجهازين».
اقرأ أيضاً: دليلك للتعرف على المجاهر الإلكترونية التي ساعدت حتى على رؤية الذرة
يبدو أن النظام الذي ابتكره المعهد يعمل الآن ضد نفسه، إذ يريد الباحثون في المعهد مقارنة الذرات فائقة التبريد بمقاييس الأيونات وغيرها من الطرق القديمة. إذا كانت القياسات متطابقة، ربما يتقدم المهندسون قريباً خطوة إلى الأمام نحو قياس الفراغ بدقة وسهولة أكبر من ذي قبل