في كتابها "أزمة اليود" (The Iodine Crisis)، تتبعت الصحفية والأستاذة الجامعية سابقاً، لين فارو (Lynne Farrow)، تاريخ استخدام اليود في العلاج إلى أكثر من 1500 عام، حيث قالت في كتابها: "انتشر طب اليود في أنحاء العالم كافة، حيث يعود تاريخه إلى 150 عاماً باعتباره "طباً عالمياً"، وأكثر من ذلك، 15000 عام في شكله السابق كأعشاب بحرية". لكنها لاحظت اختفاءه في القرن العشرين، مع تراجع في الصحة العامة وهو ما ربطته بنقص اليود. تقول فارو: "لماذا اختفى الخبز المدعم باليود في السبعينيات؟ هل يمكن لشيء ما في بيئتنا أن يطهر اليود؟ لماذا يفرز الناس الآن نصف كمية اليود في البول مقارنة بما كانوا عليه قبل 40 عاماً؟".
وفي تغريدة له على منصة إكس (X)، ذكر أستاذ وعالم أبحاث في المسرطنات، الطبيب فهد الخضيري، أن اضطرابات نقص اليود تُعدّ واحدة من أكبر مشكلات الصحة العامة في أنحاء العالم كافة اليوم، وعلى الرغم من أن تأثيرها خفي، فإنها تؤثّر بشكلٍ عميق في نوعية حياة الإنسان. فهل يعاني معظم الناس أزمة نقص اليود؟ ما أعراضه ومخاطره وكيف يمكن علاجه؟
العواقب الصحية لنقص اليود
خلاصة
تعد اضطرابات نقص اليود (IDD) واحدة من أكبر مشاكل الصحة العامة في جميع أنحاء العالم اليوم. تأثيرها مخفي ويؤثر بشكل عميق على نوعية حياة الإنسان. يحدث نقص اليود عندما تكون التربة فقيرة باليود، مما يؤدي إلى انخفاض تركيز اليود في المنتجات الغذائية وعدم…— أ.د.فهد الخضيري (@DrAlkhodairy) September 15, 2023
ما مدى انتشار نقص اليود؟
منذ عام 1983، انتشر مصطلح اضطرابات نقص اليود، إشارة إلى الآثار الضارة الناجمة عن نقص اليود، ولرفع مستوى الوعي حيال هذه المشكلة الخطيرة. وفي عام 1990، قدرت منظمة الصحة العالمية عدد المعرضين لنقص اليود بنحو 1500 مليون فرد، أي 29% من سكان العالم في 129 دولة، معظمها من البلدان النامية، حيث قد لا يتمكن الأفراد من الحصول على ما يكفي من الغذاء الصحي. وعام 1997، حددت المنظمة من بينهم 500-850 مليون فرد مصاب بتضخم الغدة الدرقية الناجم عن نقص اليود.
تركزت معظم الإصابات في 8 من أكثر دول العالم اكتظاظاً بالسكان، والتي مثّلت نحو 54% من سكان العالم، و72% من مجمل المصابين باضطرابات نقص الغدة الدرقية.
اليوم، تؤثّر اضطرابات نقص اليود في نحو 1.9 مليون شخص حول العالم، وفقاً لدراسة أجراها باحثون في المركز الوطني للطاقة والعلوم والتقنيات النووية في المغرب (CNESTEN). وأشارت منظمة "شبكة اليود العالمية" (Iodine Global Network) إلى انخفاض عدد البلدان التي تعاني نقص اليود من 113 عام 1993 إلى 21 عام 2021.
ومع ذلك، وعلى الرغم من تراجع عدد الإصابات، يظل نقص اليود مصدرَ قلقٍ للصحة العامة؛ نظراً لأهمية هذا العنصر وآثار نقصه الضارة في الصحة.
أهمية عنصر اليود
اليود معدن أساسي لصحة الجسم، لكن لا يستطيع الجسم إنتاجه. وعوضاً عن ذلك، ينبغي الحصول عليه من مصادر غذائية مثل المأكولات البحرية (الأعشاب البحرية والتونة والجمبري وغيرها)، والملح المدعم باليود، ومنتجات الألبان والبيض، وفاكهة الخوخ (البرقوق)، وفاصولياء ليما.
يحتاج الإنسان إلى اليود على نحو أساسي لصُنع هرمونات الغدة الدرقية؛ حيث تنتج الغدة الدرقية هرمونين أساسيين ينظّمان العديد من وظائف الجسم الحيوية وهما:
- الثيروكسين (T4): وهو الهرمون الرئيسي الذي تفرزه الغدة الدرقية.
- ثلاثي يودوثيرونين (T3): وهو نسخة معدّلة من الثيروكسين.
يتكون كلا الهرمونين من اليود والحمض الأميني تيروزين؛ حيث يتحول الثيروكسين (T4) بعد نزع ذرة يود منه إلى (T3).
تتحكم هذه الهرمونات في وظائف حيوية في الجسم بما فيها عملية التمثيل الغذائي في الجسم، والعديد من الوظائف المهمة الأخرى مثل تنظيم درجة حرارته، وتنظيم الوزن، والتحكم في انقباض العضلات ونمو العظام وتطورها، وعمل أعضاء الجسم على نحو صحيح.
بالإضافة إلى ذلك، لليود فوائد أخرى للجسم، ومنها:
- النمو السليم لدماغ الأطفال خلال الحمل.
- تحسّن الوظيفة الإدراكية لدى الأطفال.
- الولادة بوزن صحي للطفل.
نقص اليود وأسبابه
تحدث اضطرابات نقص اليود عندما لا يحصل الشخص على كمية كافية من اليود في النظام الغذائي.
يحتاج البالغ الطبيعي عادة إلى نحو 150 ميكروغراماً من اليود يومياً، بينما تزيد الكمية بالنسبة إلى النساء الحوامل إلى 220 ميكروغراماً يومياً، وللمرضعات إلى 290 ميكروغراماً يومياً. أمّا الأطفال فإن الجرعة الموصى بها نحو 90-120 ميكروغراماً يومياً.
من الأسباب الرئيسية لنقص اليود:
- نقص اليود في النظام الغذائي: قد يحدث نقص اليود بسبب اتباع نظام غذائي قليل المحتوى باليود، مثل منتجات الألبان والمأكولات البحرية والبيض، أو في حال تجنبها تماماً كما في حالة اتباع نظام غذائي نباتي، أو بسبب تناول أغذية نباتية زُرِعت في تربة فقيرة باليود.
- العوامل الجغرافية: قد يكون الأشخاص الذين يعيشون في مناطق بعيدة عن البحر وعلى ارتفاعات أعلى معرضين لخطر نقص اليود، حيث تحتوي بيئاتهم الطبيعية على القليل من مصادر اليود.
- الحمل والرضاعة: النساء الحوامل والمرضعات لديهن احتياجات أعلى من اليود، وإذا لم يلبين هذه الاحتياجات، فقد يعانين من نقص اليود.
- عدم توفر الملح المعالج باليود: أكثر من 10% من سكان العالم لا يستطيعون الحصول على الملح المُعالَج باليود.
اقرأ ايضاً: دليلك للتعرف على مرض الكواشيوركور: من أهم أمراض سوء التغذية
ما أعراض نقص اليود في الجسم؟
في حال لم يحصل الجسم على ما يكفي من اليود، تنشأ مجموعة من المشكلات الصحية، والتي تُعرف باضطرابات نقص اليود (Iodine Deficiency Disorders) أو (IDD)، وتشمل:
قصور الغدة الدرقية
يؤدي نقص اليود إلى انخفاض قدرة الغدة الدرقية على إنتاج هرموناتها، وهو ما يُعرف بقصور الغدة الدرقية، ويسبب أعراضاً مثل:
- التعب الشديد وضعف العضلات.
- زيادة الوزن.
- تورم الوجه، وجفاف الجلد.
- زيادة الحساسية للبرد.
- الألم أو تصلب في العضلات والمفاصل.
- بطء معدل ضربات القلب.
- ترقق الشعر.
- الاكتئاب، وضعف الذاكرة.
تضخم الغدة الدرقية المتوطن
تضخم الغدة الدرقية المتوطن، هو التضخم المرتبط بالنقص التغذوي باليود في المناطق التي تعاني نقص اليود في تربتها ومائها؛ حيث يؤدي نقص اليود إلى عمل الغدة الدرقية بإجهاد لمواكبة احتياجات الجسم من هرموناتها، ما ينتج عنه تضخم الغدة وانتفاخها، وقد تسبب أعراضاً مثل:
- الاختناق.
- صعوبة البلع.
- صعوبة التنفس.
نقص اليود الخلقي
يؤدي نقص اليود في أثناء الحمل إلى إصابة الطفل بنقص اليود الخلقي؛ وهي حالة تتميز بتلف شديد في الدماغ يحدث في وقت مبكر جداً من الحياة، ويسبب ضعف الوظيفة العصبية، وتوقف النمو، والتشوهات الجسدية. ومن المشكلات الصحية التي يمكن أن يسببها نقص اليود في أثناء الحمل ما يلي:
- ولادة جنين ميت.
- عيوب خلقية.
- توقف النمو.
- الإعاقات الذهنية.
- تأخيرات في التطور ذهنياً وجسدياً مقارنة بالأقران أو الخلل الذهني الأقل وضوحاً، الذي يؤدي إلى تراجع القدرات الذهنية في المنزل والمدرسة والعمل.
- الصمم وعدم القدرة على الكلام.
اقرأ أيضاً: ما الأمور الواجب تجنبها في الأشهر الأولى من الحمل؟
مضاعفات مرتبطة بنقص اليود
في حال لم يُعالج نقص اليود، قد يؤدي إلى قصور الغدة الشديد والإصابة بمضاعفات مثل:
- أمراض القلب، مثل تضخم القلب وفشله.
- مشكلات الصحة العقلية، مثل الاكتئاب والضعف الإدراكي.
- تلف الأعصاب الطرفية في الجسم، ما يُعرف بـ "الاعتلال العصبي المحيطي".
- ضعف الإباضة لدى الإناث، ما قد يسبب العقم.
تقييم نقص اليود: مؤشر تركيز اليود في البول
تخزن الغدة الدرقية نحو 70-80% من اليود، حيث يمكن أن يبقى اليود المخزن في جسم الإنسان متاحاً لإنتاج هرمونات الغدة الدرقية مدة ثلاثة أشهر على الأكثر، بينما يخرج اليود الذي لا يدخل إلى الغدة الدرقية مع البول خلال بضعة أسابيع إلى أشهر.
حددت منظمة الصحة العالمية مؤشر تركيز اليود في البول (ميكروغرام/لتر) لتقييم نقص اليود على مستوى السكان؛ أي لمراقبة مستويات اليود في مجتمعات بأكملها وليس في الأفراد فقط.
يعتبر تركيز اليود في البول علامة حساسة على كمية اليود المتناوَلة، ويعكس التغييرات في مستويات اليود، لأن معظم اليود الذي يمتصه الجسم يُعاد طرحه مع البول، ويحتفظ بما يكفي للقيام بالوظائف الأساسية.
يُستخدم هذا المؤشر للفئات العمرية كافة، ويُعدُّ الأكثر شيوعاً لفئة أطفال المدارس (6-12 سنة)، لسهولة الوصول إليهم.
وتبلغ قيم المؤشر الصحية لبعض الفئات السكانية:
- أطفال المدارس أقل من 6 سنوات، 100-199 ميكروغراماً/لتر.
- النساء الحوامل، 150-249 ميكروغراماً/لتر.
- النساء المرضعات والأطفال الذين تقل أعمارهم عن عامين، أكثر من 100 ميكروغرام/لتر. وعلى الرغم من أن النساء المرضعات لديهن الاحتياجات ذاتها للنساء الحوامل من اليود، فإن متوسط تركيز اليود في البول أقل لأن اليود يفرز مع حليب الثدي.
إذا كان المؤشر أقل من هذه القيم، فإن ذلك يدل على نقص في التغذية باليود، أمّا القيم الأعلى فتزيد من خطر مضاعفات تناول كميات زائدة من اليود؛ مثل فرط نشاط الغدة الدرقية أو مرض الغدة الدرقية المناعي الذاتي.
اقرأ أيضاً: لهذه الأسباب تعد وجبات غداء الأطفال هامة للغاية
تشخيص الإصابة بنقص اليود
على الرغم من أن اختبار مؤشر تركيز اليود في البول فوري ويمكن الحصول عليه خلال دقائق، فإنه يُستخدم عادة لمراقبة المجتمعات بأكملها، ولا يُعدُّ مقياساً دقيقاً بالنسبة للأفراد.
لتشخيص الإصابة بنقص اليود، يلجأ الأطباء للاختبارات التالية:
- اختبارات وظائف الغدة الدرقية: هو اختبار دم يقيس مستوى هرمون TSH (الهرمون المنشط للغدة الدرقية).
- الفحص البدني: يمكن للطبيب جس الغدة الدرقية للكشف عن تضخم الغدة الدرقية.
- اختبارات التصوير: يمكن لهذه الاختبارات تحديد التشوهات في وظيفة الغدة الدرقية وبنيتها؛ مثل الموجات فوق الصوتية للغدة الدرقية أو التصوير الومضي.
- فحص حديثي الولادة: ينبغي فحص الأطفال حديثي الولادة للتأكد من عدم وجود قصور في الغدة الدرقية عن طريق قياس مستوى هرمون TSH.
- اختبار الدم: هو اختبار دم دقيق لقياس مستويات اليود في الجسم.
- اختبار تحميل اليود: قد يكون أكثر دقة من الاختبارات الأخرى، لكنه يتطلب جمع عينات للبول على مدار 24، لمراقبة كمية اليود التي يفرزها الجسم خلال تلك المدة.
اقرأ أيضاً: ما النسبة الطبيعية للهرمون الموجه للغدة الدرقية TSH عند الحامل؟
علاج نقص اليود؟
بالنسبة للأطفال الرضع المصابين بنقص اليود الخلقي، يمكن علاجهم خلال الأسابيع الأربعة الأولى من حياة الطفل، وإلا تصبح الإعاقة الذهنية دائمة. كلما بدأ العلاج بوقت مبكر، كانت النتائج أفضل.
يمكن الكشف عن نقص اليود لدى الطفل بفحص مستويات هرمون الغدة الدرقية (T4) والهرمون المحفز للغدة الدرقية (TSH) في عينة دم صغيرة من كعبه.
عامة، يمكن علاج نقص اليود من خلال:
- دمج بعض الأطعمة الغنية باليود في النظام الغذائي، خاصة بالنسبة للنباتيين والحوامل والمرضعات والمصابين بالضغط، ممن لا يمكنهم تناول كميات كافية من الملح، أو الأفراد الذين لا يستخدمون الملح المعالج باليود.
- تناول مكملات اليود؛ حيث يُنصح بمكملات اليود التي تحتوي على البوتاسيوم، لأن الجسم يمتصها بسهولة أكبر.
من المهم ملاحظة أنه على الرغم من أن اليود ضروري لصحتك، فإن استهلاك الكثير منه يمكن أن يؤدي أيضاً إلى اضطرابات في الغدة الدرقية. لذلك، إذا كنت تشك أنك تعاني نقص اليود، فمن المهم استشارة الطبيب المختص قبل البدء بأي مكمل غذائي.