تقطع جسيمات الرمل رحلة عظيمة في كوكب الأرض؛ تبدأ هذه الرحلة على البر وتصعد إلى الهواء حين تحمل الرياح جسيمات الغبار عالياً وتنقلها عبر مسافات كبيرة، وقد تنتهي هذه الرحلة، على الأقل بالنسبة لبعض جسيمات الغبار، في مياه البحر التي تبعد عشرات الآلاف من الكيلومترات عن نقطة بدايتها.
يربط الغبار بطبيعته رمال الأرض وسماءها وبحارها. يمكن أن تنقل الجسيمات التي تسقط في المياه المواد الغذائية التي تستهلكها أشكال الحياة في البحر، ما يتسبب في ازدهار الطحالب بدرجة كبيرة. ما زال العلماء يستكشفون هذه العملية، ولكن هناك الكثير من الأسئلة المتعلقة بكيفية حدوثها وفعاليتها في ازدهار الطحالب بالفعل، والتي لم يتوصلوا بعد إلى إجاباتها.
العوالق النباتية تزدهر مع ازدياد كمية الغبار
تمكّن العلماء في دراسة نُشرت بتاريخ 4 مايو/ أيار 2023 في مجلة ساينس (Science) من الإجابة عن أحد الأسئلة وحل أحد الألغاز؛ إذ بينوا أن ازدياد كمية الغبار في المياه يؤدي بالفعل إلى تشكّل المزيد من العوالق النباتية.
يقول عالم النبات في جامعة ولاية أوريغون والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة، توبي ويستبيري (Toby Westberry): "إن فهم المحيط هو ما يدفعنا لإجراء هذه الدراسة، فالمحيط واسع وما يزال غير مفهوم من نواحٍ عديدة".
اقرأ أيضاً: ما هي المواد الكيميائية التي تمنح الورود رائحتها المميزة؟
تبدأ أغلبية جسيمات الغبار التي تتحرك في الأرض رحلتها من الصحاري؛ قد تحمل الريح التي تضرب الرمال بعض الجسيمات الدقيقة بعيداً، وكلما طالت فترة بقاء الرمال في مكان واحد تزداد كمية الغبار المتولّدة عن هذه المكان. تعتبر الصحراء الكبرى الشاسعة في شمال قارة إفريقيا المصدر الأساسي للغبار في العالم.
وتنتقل جسيمات الغبار من هذه الصحراء تبعاً لأنماط الرياح العالمية. على سبيل المثال، يمكن أن ينتقل غبار شمال إفريقيا مع الرياح الغربية (الغربيّات) إلى أوروبا، أو مع الرياح التجارية عبر المحيط الأطلسي.
العناصر الغذائية التي تحملها جسيمات الغبار
لا شك أن بعض جسيمات الغبار يتساقط في محيطات العالم على طول الطريق، ويطلق العناصر التي حملها من الصحراء، مثل الفوسفور والحديد. الغلاف الجوي ليس خاملاً في هذه العملية أيضاً، إذ يضيف مواد كيميائية جديدة إلى الجسيمات المنقولة في الهواء؛ مع ارتفاع جسيمات الغبار لتصل إلى طبقة التروبوسفير من هذا الغلاف؛ تجمع غاز النيتروجين من الهواء المحيط بها، وعندما تنقل هذه الجسيمات النيتروجين والمغذّيات الأخرى إلى الماء؛ تحفز ازدهار العوالق النباتية، ما يؤدي بدوره إلى تغيير لون المحيطات إلى الأخضر.
غبار الغلاف الجوي ليس المصدر الأساسي للمغذيات بالنسبة للنباتات البحرية، ويعتقد العلماء أن هذه النباتات تعتمد بصورة رئيسية على المواد التي ترتفع مع صعود المياه من أعماق المحيط. مع ذلك، للغبار تأثير مهم؛ لأنه يوصل الحديد على وجه الخصوص إلى مناطق تفتقر إلى هذا المعدن من المحيط.
يهتم العلماء كثيراً بجسيمات الغبار لأنها تؤدي دور حاملات الحديد. يقول العالم المختص بعلم الأرض في جامعة ولاية كارولاينا الشمالية، دوغلاس هاملتون (Douglas Hamilton)، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة: "عندما نفكّر عادة في الغبار نربطه بالحديد مباشرة".
هناك أسئلة عديدة حول هذه العملية لم يتوصل العلماء إلى إجابات عنها بعدُ، على سبيل المثال، ما الدور الذي يؤديه الغبار في تحفيز ازدهار العوالق النباتية بالضبط؟ هل هناك أنواع مختلفة من الغبار تؤثر في العوالق النباتية بطرق مختلفة؟
اقرأ أيضاً: فطريات تقتات على حرائق الغابات تثير فضول العلماء
الغبار لا يسقط بكميات متساوية عبر محيطات العالم
الأهم من ذلك هو أن العلماء لم يثبتوا بعد أن هذه العملية تحدث على نطاق عالمي، فقد بيّنت الأبحاث السابقة أن عواصف الغبار يمكن أن تؤدي إلى ازدهار العوالق النباتية محلياً، وبيّنت التجارب أيضاً أن إضافة الحديد مباشرة إلى مياه البحر تعزز نمو العوالق النباتية. يقول هاملتون: "وصلنا إلى هذه النتائج، ولكن هل هي مهمة فعلاً؟ نعتقد أن الجواب هو نعم، إذ تمكّنا من إثبات أن الحديد يعزز نمو العوالق النباتية في التجارب المعزولة، ولكن لم يثبت أحد من قبل أن هذا يصح على نطاق عالمي".
حاول مؤلفو الدراسة الجديدة الإجابة عن هذا السؤال، إذ صمم علماء وكالة ناسا نماذج تحاكي تدفق الغبار في الغلاف الجوي بين عامي 2003 و2016 استناداً إلى ملاحظات تتعلق بتغير درجة حرارة سطح الأرض بمرور الوقت. وما لا يثير الدهشة هو أن هذه النماذج بيّنت أن كمية الغبار التي سقطت في المناطق المحيطة بالصحراء الكبرى، مثل البحر الأبيض المتوسط وشمال المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، كانت أكبر من الكمية التي سقطت في مناطق أخرى.
لجأ مؤلفو الدراسة الجديدة، مع أخذ هذه البيانات في الاعتبار، إلى القياسات المتعلقة بالبحار والتي أجرتها الأقمار الاصطناعية في الفترة الزمنية السابقة الذكر نفسها، واطلعوا تحديداً على الملاحظات المتعلقة بلون المحيط الذي يمكن أن يشير إلى حالة العوالق النباتية. وبالفعل، لاحظوا أن العوالق النباتية نمت في الأيام التي تلت فترة تساقط الغبار من الرياح على أجزاء معينة من مياه البحر، وهذا يتوافق مع توقعات نموذج المحاكاة.
اقرأ أيضاً: هل تدخل الفيروسات السلسلة الغذائية كمغذيات لأحياء أخرى؟
لاحظ العلماء هذه الظاهرة في مناطق مختلفة من العالم، ولكن لم تكن شدة ازدهار العوالق النباتية متساوية، أدت الزيادة في كمية الغبار في بعض المناطق إلى زيادة في كمية العوالق النباتية، وفي حالات أخرى أدت إلى تحسّن صحة العوالق النباتية التي تمتّعت بيخضور أشد سطوعاً، في حين لم يلاحظوا أي تأثير للغبار في بعض المناطق الأخرى.
يتساءل ويستبيري قائلاً: "ما سبب ذلك؟ قد نتمكن من الإجابة عن هذا السؤال بالحصول على المزيد من المعلومات المتعلقة بمعادن الغبار، مثل المواد التي يتألف منها والمواد الغذائية التي يحملها".
مصادر أخرى لتغذية العوالق النباتية
الغبار ليس المصدر الوحيد للمواد الغذائية التي تسقط من الهواء وتستفيد منها العوالق النباتية؛ إذ يتسبب ثوران البراكين واحتراق الغابات بإطلاق مواد غذائية تصل إلى المحيط. يقول ويستبيري: "يختلف الرماد البركاني عن الغبار، ولكنه ينقل المواد الغذائية بالطريقة نفسها تقريباً". وأيضاً، وجد العلماء ارتباطاً بين الحرائق الهائلة التي وقعت في أستراليا ونمو العوالق النباتية في مناطق جنوب المحيط الهادئ بنفس اتجاه الرياح. وعلى الجانب الآخر من العالم، وجد العلماء أن حرائق الغابات الشمالية ترتبط بازدهار العوالق النباتية في المناطق حول القطب الشمالي.
اقرأ أيضاً: كيف تشتري لنا النباتات الوقت في مواجهة تغيّر المناخ؟
يقول هاملتون: "نتائج هذه الدراسة رائعة للغاية. والسؤال التالي الذي يجب أن نجيب عنه هو 'ماذا عن العوامل الأخرى التي تؤثر في العوالق النباتية حالياً، وما هو تأثيرها؟'". تمثّل النشاطات البشرية أحد مجالات البحث المستقبلية؛ إذ إنها تتسبب بالتغير المناخي وحرائق الغابات. من المحتمل أن يكون البشر أيضاً مسؤولين عن التصحّر الذي يؤدي إلى تشكّل المزيد من الرمال التي تحملها الرياح، كما يمكن أن يتسبب نشاط البشر الصناعي وما ينتج عنه من مواد ملوثة ووقود أحفوري بإطلاق الجسيمات الدقيقة أيضاً. يعتقد العلماء أن هذه المواد قد تغذي العوالق النباتية، لكنهم لا يعرفون تماماً كيف يحدث ذلك وما إذا كان يحدث في جميع أنحاء العالم.
لحسن حظ العلماء، قد يزدهر هذا المجال البحثي في المستقبل القريب؛ إذ تخطط وكالة ناسا لإطلاق قمر اصطناعي يحمل اسم بايس (PACE) في عام 2024 مخصص لرصد العوالق النباتية في المحيط.