طرح رائد الفضاء الإماراتي سلطان نيادي سؤالاً للأذكياء فقط عبر فيديو في تغريدة على تويتر، حيث أظهر دوران جهاز لوحي في محطة الفضاء الدولية في ظروف الجاذبية الصغرى على 3 محاور مختلفة، لكن في إحدى تلك المحاور كان الدوران غريباً، إذ كان الجهاز اللوحي يدور ويعود لوضعية مختلفة ويكمل الدوران، وكان السؤال عن سبب حدوث هذه الظاهرة.
رد العديد من محبي العلم الهواة والمختصين على فيديو التغريدة، وعلّقوا بعدة إجابات، لكن قد يكون الجواب الأدق هو وجود تأثير جانيبيكوف (Dzhanibekov Effect)، وهو تأثير فيزيائي يعد من أكثر المفاهيم الفيزيائية الكلاسيكية صعوبة في التفسير الرياضي.
للأذكياء فقط.. بانتظار اجاباتكم! pic.twitter.com/55thWhY8YV
— Sultan AlNeyadi (@Astro_Alneyadi) March 13, 2023
ويذكر الدكتور ديريك مولر مؤسس منصة فيريتاسيوم (veritasium) أن الفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان سئل في إحدى محاضراته في السبعينيات من قبل طالب عن وجود طريقة بسيطة لشرح هذا التأثير، وبعد تفكير رد فاينمان: لا يوجد.
إذاً فالظاهرة تبدو معقدة بعض الشيء في التوصيف الرياضي لها، لكن في عام 2011 قام العالم الرياضي تيري تاو بمحاولة وضع توصيف رياضي مبسط لهذه الظاهرة، ويرى الدكتور ديريك مولر أن توصيفه يبدو صحيحاً.
هذه الظاهرة معروفة منذ زمن طويل نسبياً، إذ تم وصفها لأول مرة منذ 150 عاماً في كتاب العالم الفرنسي لويس بوانسو بعنوان "النظرية الجديدة للأجسام الدوارة"، لكن لم يتم تسليط الضوء على عمله، ودعى هذا التأثير باسم رائد الفضاء السوفييتي فلاديمير جانيبيكوف الذي وصفه عام 1985 بظروف الجاذبية الصغرى في محطة ساليوت 7، إذ قام بتدوير مفتاح عزقة تثبيت ذو نهاية T، وعندما قام بفكه بتدويره وتركه في الهواء لاحظ أنه يدور بجهة معينة ثم ينقلب بزاوية 180 درجة ويتابع الدوران ومن ثم يعود لوضعيته السابقة وهكذا دواليك.
اقرأ ايضاً: تعرّف إلى سلطان النيادي في أول مهمة فضائية طويلة الأمد لرائد فضاء عربي
ظلت هذه الظاهرة سرية ولم يتم الكشف عنها، والسبب هو قيام جانيبيكوف بتغطية مفتاح العزقة بمعجون بشكل كروي، وملاحظته نفس الانقلاب عند تدويره، ما جعله يعتقد أن هذا الأمر قد يصيب كوكب الأرض في وقت معين، فلم يتم نشر المعلومات عن الظاهرة، لكن بعد نحو 6 سنوات وفي عام 1991 تم نشر بحث في دورية ديناميكس أند ديفرينشال إكوايجنز (Dynamics and Differential Equations) بعنوان "مضرب التنس الملتوي"، شرح به مارك أشبوغ الالتفاف الملتوي لمضرب التنس على أحد محاوره.
أما بالنسبة للجهاز اللوحي الذي استخدمه المهندس النيادي، فهو متوازي سطوح مستطيل له ثلاثة أبعاد غير متكافئة، ما يعني وجود ثلاثة عزوم مختلفة من القصور الذاتي، وهي:
- عزم المحور الأول (X)، ويمكن تخليه بأنه محور يمر من منفذ الشحن في أسفل الجهاز وصولاً للنقطة المقابلة منه في الجهاز اللوحي.
- عزم المحور الثاني أو الوسيط (Y)، وهو المحور الذي يحدث عليه تأثير جانيبيكوف، وذلك بتدوير وجه الجهاز نحو الأمام أو الخلف.
- عزم المحور الثالث (Z)، وهو المحور الذي يتم لف الجهاز اللوحي حوله من حوافه كأنك قمت بثقبه من وسط الشاشة بشكل يعامدها ووضعت خيطاً في الثقب وقمت بتدويره على محور هذا الخيط المشدود، ويمكنك محاولة تجربة هذا الدوران عن طريق ثقب ورقة لعب من وسطها بإبرة وخيط كأنك تقوم بعمل طوق عنق منها ومن ثم تقوم بتدويرها حول هذا الخيط.
ونرى أن النيادي قد أظهر استمرار الدوران بالمحورين الأول والثالث يشكل طبيعي، لكن يظهر التأثير بشكل واضح في عزم المحور الثاني للقصور الذاتي.
على الرغم من رؤية هذا التأثير على الأرض، فإنه يظهر بشكل أوضح ولفترة أطول بسبب الجاذبية الصغرى بالفضاء، ويمكن تفسير السبب في حدوثه بأن هناك قوة طرد مركزي تؤثر على المحور ما يجعل الجهاز اللوحي يغير اتجاهه كل بضع ثواني.
إقرأ أيضاً: كيف يستحم رواد الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية؟
وللتوضيح، يمكننا تخيل وجود كرتين ثقيلتين مثبتتين على الحواف العمودية للجهاز اللوحي بشكل متقابل، وبالوقت ذاته نفترض وجود كرتين أصغر وأقل ثقلاً من الكرتين السابقتين، وموجودتين على الحواف العرضية للجهاز اللوحي، يتم توزيع الكتلة بشكل متساوِ تقريباً في المحور الأول والثالث ما يفسر الدوران المستمر على نفس المحور فالأول يمتلك أصغر عزم من القصور الذاتي بينما الثالث يمتلك أكبر عزم.
يكون عزم القصور الذاتي للدوران حول المحور الثاني متوسطاً، فالمحور يدور بحيث تتوازن الكرتين الثقيلتين، لكن يوجد اختلال بسيط في الدوران بسبب وجود ثقل الكرتين الصغيرتين ما يسمح لهما بحرف محور الدوران قليلاً عن المحور الثاني، فيزداد هذا الانحراف بسبب فعل قوى الطرد المركزي التي تؤثر عن طريق دفع الكرتين الصغيرتين بعيداً عن محور الدوران بشكل معاكس للقوى الجاذبة التي تدفع الثقل نحو الداخل باتجاه المحور، ومع كل دورة يتراكم تأثير قوة الطرد المركزي إلى أن تصل لنقطة تسمح لها تغيير جهة دوران الجهاز اللوحي، فيقوم الجهاز اللوحي بالانقلاب لحظياً ويرجع لنفس المحور الذي بدأ منه لكن باتجاه معاكس لإعادة إحلال التوازن والحفاظ على الطاقة، وتتكرر العملية مراراً باستمرار دوران الجهاز اللوحي.
إقرأ أيضاً: ما هو تأثير العيش في الفضاء على عظام رواد الفضاء؟
تعد هذه النظرية الأساسية التي تحاول تفسير هذه الظاهرة، لكن يجب إدراك أن النظرية تحاول تفسير سلوك طبيعي وليس بالضرورة أن هذه النظرية هي المرجع المثالي لتوصيف الحدث الطبيعي رياضياً. وعلى الرغم من تفاوت الآراء حول هذه النظرية، فهي تبقى الاكثر أرجحية لتفسير هذه الظاهرة حالياً، ويمكننا عرضها كإجابة منطقية عن سؤال النيادي صاحب أطول مهمة لرائد فضاء عربي حتى الآن.