يُعتبر تكريم الموتى من أهم تقاليد البشر؛ إذ أحرَق الفايكنغ أمواتهم في القوارب لإيصالهم إلى الحياة الآخرة بأمان، ومارس التيبيتيون القدماء ما يُدعى بمراسم الدفن في السماء التي التهمت فيها النسور جثث الموتى لتطهيرهم من الخطايا وإيصالهم إلى الجنة بسلام؛ لكن يُعتبر التحنيط أحد أكثر مراسم الدفن شهرة في التاريخ. بدأ المصريون القدماء بتحنيط الأموات منذ عام 3,500 قبل الميلاد للحفاظ على سلامة الأجسام مع تحول الأرواح من كينونات أرضية إلى كائنات سماوية.
المومياوات كبوابة إلى ماضي الجنس البشري
وتمثّل المومياوات بوابة يمكننا النظر من خلالها إلى ماضي الجنس البشري، وهي توفر معلومات عن المجتمعات البشرية القديمة. لكن على الرغم من أن علماء الآثار يجرون عمليات التشريح والتصوير بالأشعة السينية لدراسة هذه المومياوات، فإنهم يجهلون الكثير عن الطرق التي طبقها المصريون لتحنيط أمواتهم. توفّر دراسة جديدة نُشرت بتاريخ 1 فبراير/شباط 2023 في مجلة نيتشر (Nature) تفسيراً لكيفية إتقان المصريين القدماء هذه العملية المعقدة.
ومن خلال دراسة البقايا الموجودة على مجموعة من الأواني التي استُخدمت في عمليات التحنيط، تمكّن فريق من علماء الآثار من تحديد مجموعة من الخلائط الكيميائية التي تم استخدامها لحفظ أجسام الموتى.
اقرأ أيضاً: كيف أثرت الروائح بالمصريين القدماء وشعوب شبه الجزيرة العربية؟
الكثير من الكيمياء
الحفظ الاصطناعي هو عملية معقدة، فقد واجه المُحنِّطون القدماء تحديات تتمثل في إزالة الأعضاء الجسدية مثل الدماغ الذي استخدموا أدوات معقوفة لإزالة أجزاء من نسيجه عبر الأنف دون التسبب في أي أذىً جسدي أو في تغيير في شكل الجسم؛ كما فرضت عليهم مشكلة التحلل الطبيعي للأجسام تعلّم الكثير عن الكيمياء.
ابتكر المحنطون المصريون بعض التدابير التي من شأنها أن تقي الأجسام من التحلل، وحاول علماء الآثار الذين يدرسون المومياوات تحديد الوصفات الكيميائية الفريدة التي استخدما المصريون القدماء لكنهم لم يتمكنوا من فهم بعض التسميات المنقوشة على الأواني التي استُخدمت في عمليات التحنيط.
في الدراسة الجديدة، درس المؤلفون محتويات الأواني الخزفية التي وُجدت في ورشة للتحنيط في قرية سقارة المصرية. وتقول خبيرة المومياوات وأستاذة الأشعة في جامعة القاهرة، سحر سليم (Sahar Saleem) التي لم تشارك في الدراسة الجديدة: "يُعتبر هذا الموقع الأثري في قرية سقارة ورشة التحنيط الوحيدة التي تم اكتشافها في مصر". وكذلك تضيف سليم قائلة إن اكتشاف هذه الورشة يمثّل فرصة نادرة لدراسة المواد المستخدمة في التحنيط والطرق التي تعمّد المصريون التكتّم عنها على الأرجح.
اقرأ أيضاً: هل حان الوقت لإعادة المومياوات المصرية إلى توابيتها؟
تعليمات على أواني التحنيط
تعود الورشة تحت الأرضية التي وُجدت على بعد بضع أمتار جنوب هرم الملك أوناس إلى الفترة ما بين 664 و525 قبل الميلاد. وقد وجد فريق المؤلفين 121 كوباً وإناءً تحتوي على تعليمات لعملية التحنيط مثل تلك المتعلقة بتحضير ضمادات الكتان أو الخاصة بأجزاء معينة من الجسم. وتقول سليم: "توفر هذه المكتشفات فهماً فريداً للخطوات التقنية التي اتخذها المحنطون بناءً على التعليمات الموجودة على الأواني؛ مثل طرق التعامل مع رؤوس الموتى وترتيب استخدام بعض الخلائط".
درس المؤلفون التركيب الكيميائي لهذه الخلائط بالاستعانة بالبقايا الموجودة على 9 أكواب و22 إناء أحمر اللون. وحدد الباحثون مجموعة كبيرة ومتنوعة من المواد الطبيعية من زيوت النباتات والقير (النفط الطبيعي) إلى أنواع الراتنج ودهون الحيوانات. احتوت نسبة 60% من الأواني المكتشفة على بقايا من نبات العرعر أو السرو، وكانت ثاني أكثر المواد الموجودة وفرة هي زيت الأرْز أو القطران التي تم إيجادها في أكثر من نصف الأواني المكتشفة.
مواد لحفظ الأنسجة البشرية
احتوى بعض الأواني الخزفية أيضاً على مزيج من المواد الكيميائية المختلفة. على سبيل المثال؛ احتوى أحد الأواني على مزيج من حمض الخروع (حمض الريسينوليك وهو نوع من الأحماض الدهنية يُستخدم في صنع الصابون) وحمض الأوليك (وهو حمض دهني يوجد في الدهون والزيوت الحيوانية والنباتية) وزيت الخروع.
يشير مؤلفو الدراسة إلى أنه تم استخدام هذا المزيج من المكونات كعامل مضاد للعفونة والفطريات لحفظ الأنسجة البشرية والتخفيف من الروائح الكريهة. وتتميز المواد مثل القير والقطران والراتنجات والشمع الطبيعي (شمع العسل) بخواص لاصقة وصادة للماء؛ كما يمكن وضعها على الضمادات بعد تحويلها إلى بلاسم لإغلاق مسام الجلد وتجفيفه.
ويقول أستاذ علم آثار عصور ما قبل التاريخ في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في ألمانيا وكبير مؤلفي الدراسة الجديدة، فيليب شتوكهامر (Phillip Stockhammer): "ذُهلت بمدى المعارف المتعلقة بالكيمياء التي امتلكها المصريون القدماء". وفقاً لشتوكهامر؛ إذا حرّك المصريون القدماء أجسام الموتى من مكان لآخر فقد تتلوث بالميكروبات التي تتغذّى على الجلد، ويوضح: "أدرك المصريون القدماء أنهم بحاجة استخدام المواد المضادة للبكتيريا والفطريات لحفظ الجلد دون امتلاك معرفة أساسية بعلم الأحياء الدقيقة".
اقرأ أيضاً: هل استخدم الكنعانيون الأمشاط للتخلص من القمل؟
احتوت الأواني المكتشَفة على تعليمات منقوشة عليها تتعلق بالخطوات الدقيقة في عملية التحنيط. وتم تخصيص 8 من الأواني لمعالجة الرأس، وعلى حد علم المؤلفين فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الكشف عن استخدام زيت شجر الإليمي أو قطران العرعر لتحنيط الرأس.
احتوى بعض الأواني على علامات تبين استخدام زيوت الصنوبريات أو قطران الصنوبريات لغسل الأجسام، بينما احتوى إناء آخر كُتبت عليه عبارة "لجعل رائحته لطيفة" على علامات تدل إلى وجود الدهون الحيوانية والراتنج المتحلل. لحفظ الجلد؛ استخدم المصريون القدماء مزيجاً من الدهون الحيوانية والشمع الطبيعي المسخّن كنوع من المراهم الترطيبية.
التحنيط كدافع لعولمة مبكرة
وجد الباحثون أيضاً أنه تم استيراد معظم المكونات المستخدمة في التحنيط من مناطق أخرى؛ ما يشير إلى أن المصريين القدماء مارسوا النشاطات الاقتصادية الدولية بكثافة، ومن المحتمل أن المصريين قاموا بشراء القير من المجتمعات التي عاشت في محيط البحر الميت. تبين الأدلة أيضاً أن المصريين القدماء قطعوا مسافات طويلة متوجهين إلى البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا الاستوائية وجنوب شرق آسيا للحصول على الراتنج ونبات الإليمي إذ يقول شتوكهامر: "دفع التحنيط عجلة العولمة المبكرة لأن المصريين القدماء نقلوا هذه المواد عبر مسافات كبيرة من جنوب شرق آسيا إلى مصر".
اقرأ أيضاً: مَن اخترع الموسيقى؟ قد تحمل المزامير والصفارات الأثرية بعض الأدلة
ويمنحنا كل من وجود شبكة التجارة الواسعة هذه وعمليات التحنيط المضبوطة بشكل مذهل لمحة جديدة عن الطريقة التي مكّنت المصريين القدماء من أن يصبحوا متخصصين بارعين في مهنتهم.