انتشر هواء القطب الشمالي الشديد البرودة والطقس الشتوي القاسي تجاه الجنوب في أوائل شهر يناير/كانون الثاني 2024 مغطياً أغلبية أنحاء الولايات المتحدة ومحطماً الأرقام القياسية اليومية لدرجات الحرارة المنخفضة من ولاية مونتانا إلى ولاية تكساس. تأثرت عشرات الملايين من الأشخاص بدرجات الحرارة المنخفضة لحد الخطورة، وأوقع تساقط الثلوج الغزيرة نتيجة لما يسمى "تأثير البحيرات" (lake-effect) والعواصف الثلجية المفاجئة آثاراً شديدة على مناطق البحيرات العظمى والشمال الشرقي للبلاد.
تقع هذه الأحداث الشديدة البرودة بسبب التيار النفاث القطبي، وهو تيار فصل الشتاء النفاث النموذجي الذي يتمتع بدرجات حرارة متوسطة بين درجات حرارة هواء القطب الشمالي والهواء الأكثر اعتدالاً، إذ يتحرك تجاه الجنوب ويحمل هواء القطب الشمالي البارد إلى مناطق لا تتعرض له غالباً.
أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في هذه الأحداث هو أنها تقع غالباً بالتزامن مع تغيرات في تيار هوائي آخر أعلى من التيار النفاث، وهو منخفض الدوامة القطبية الستراتوسفيريّة: تيار هوائي كبير يتحرك حول القطب الشمالي في المنطقة الوسطى من طبقات الجو العليا (الستراتوسفير).
اقرأ أيضاً: ما هو تغير المناخ الجوفي وكيف يؤثر في حياتنا؟
تتسبب هذه الدوامة الستراتوسفيرية بتشوه التيار النفاث عندما تتمدد أو يحدث اضطراب ما فيها، ما يوجّه هذا التيار تجاه الجنوب في بعض المناطق فيجتاحها الهواء البارد.
يتوافق الاندفاع البارد الحالي في القطب الشمالي مع هذا النمط؛ إذ امتدت الدوامة القطبية عبر الولايات المتحدة في الطبقة السفلى من الستراتوسفير لدرجة أنها انقسمت تقريباً إلى قسمين. هناك العديد من الأسباب المحتملة لهذا التمدد، ولكن من المرجح أنه يرتبط بالطقس السائد في مناطق خطوط العرض العليا خلال النصف الأول من شهر يناير/كانون الثاني 2024.
البرد لا يتناقض مع الاحتباس الحراري
قد يبدو من المفاجئ توثيق هذا العدد الكبير من الأرقام القياسية لدرجات الحرارة المنخفضة علماً أن عام 2023 سجل ارتفاعاً قياسياً في درجات الحرارة. لكن هل يتناقض هذا الانخفاض الكبير في درجات الحرارة مع الفكرة التي تنص على أن النشاطات البشرية تسببت بالاحتباس الحراري؟ بصفتي عالماً متخصصاً في الغلاف الجوي والمناخ، يمكنني أن أؤكّد دون مجال للشك أن هذا التناقض لا أساس له من الصحة.
لا يمكن إثبات وجود ظاهرة الاحتباس الحراري أو دحضه استناداً إلى حدث جوي واحد. بيّنت دراسات كثيرة أن عدد الأحداث الشديدة البرودة يتناقص بوضوح بالترافق مع ظاهرة الاحتباس الحراري، وهذا يتوافق مع فهمنا للظواهر الفيزيائية وتنبؤاتنا المعتمدة عليها.
ما زلنا لا نعلم إن كان الاحتباس الحراري يؤثر في شدّة هذه الأحداث الجوية أم لا، لكن ثمة أبحاث تشير إلى أنه يؤثر فيها بالفعل.
اقرأ أيضاً: تغير المناخ يجرد المحيطات من الأوكسجين ويعرض الحياة البحرية للخطر
ارتبطت أيضاً موجة البرد التي حدثت في شهر فبراير/شباط 2021، التي تسببت باضطراب شديد في شبكة الكهرباء في ولاية تكساس الأميركية، بامتداد الدوامة القطبية الستراتوسفيرية، وقدّمت أنا وزملائي أدلة تشير إلى أن التغيرات في القطب الشمالي المرتبطة بالاحتباس الحراري زادت احتمال حدوث مثل هذه الاضطرابات في الدوامات القطبية.
قد تؤدي تأثيرات الاحترار المتزايد في خطوط العرض العليا، المعروف باسم التضخيم القطبي، في الغطاء الثلجي الإقليمي والجليد البحري إلى تعزيز شدة أنماط الطقس التي تؤدي بدورها إلى تمدد الدوامة القطبية.
بينّا مؤخراً أنه في حين أن عدد هذه الأحداث الشديدة البرودة يتناقص على نحو واضح في مناطق واسعة من الولايات المتحدة وأوروبا وشمال شرق آسيا، وهذا متوقع في ضوء ظاهرة الاحتباس الحراري، لا يبدو أن شدّتها تنخفض في الوقت نفسه، وذلك على الرغم من الاحترار السريع في مناطق القطب الشمالي التي تنشأ فيها هذه الأحداث.
اقرأ أيضاً: ما تأثير التغير المناخي في المحيطات؟
لذلك، في حين أن العالم سيشهد على الأرجح عدداً أقل من هذه الأحداث الشديدة البرودة في المستقبل، يجب أن يتحضّر العديد من المناطق لموجات البرد الاستثنائية. وبالتعمق في فهم كل من التأثيرات المتبادلة بين الظروف الجوية في سطح القطب الشمالي والدوامة القطبية الستراتوسفيرية والطقس الشتوي في مناطق خطوط العرض الوسطى، ستزداد دقة تنبئنا بهذه الأحداث وشدتها.