زحفت بيغي إيبي مرتدية الملابس الواقية من رأسها حتى أخمص قدميها على يديها وركبتيها تحت إحدى شجرات التين بحثاً عن فضلات الخفافيش وحبّات الفاكهة التي تحتوي على علامات أنياب هذه الحيوانات.
مات حصان آخر في أستراليا بسبب فيروس هيندرا المخيف في ذلك الشتاء عام 2011، وكانت بيغي تحقق في هذه الحادثة عندها. تسبب المرض المعدي الناجم عن هذا الفيروس الذي يؤدي إلى التهاب دماغي بالمشكلات في البلاد لسنوات؛ إذ إنه انتقل من الخفافيش إلى الخيول ومن الخيول إلى البشر أحياناً. كان فيروس هيندرا قاتلاً بقدر ما هو غامض، وكان يصيب ضحاياه بطريقة تبدو عشوائية. يخشى الخبراء أن يكتسب هذا الفيروس القدرة على الانتقال من شخصٍ لآخر ويتسبب بكارثة إذا طَفر.
لذلك، بينما كان الأطباء البيطريون الحكوميون يفحصون خيولاً أخرى، بدأت إيبي، وهي عالمة بيئة متخصصة في الحياة البرية وحاصلة على شهادة الدكتوراة، بالعمل في التحقيق في مكان موت الحصان. كانت إيبي من أكفأ الخبراء في مجال الثعالب الطائرة (أو خفافيش الثمار العملاقة)، وهو جنس الخفافيش الذي ينقل فيروس هيندرا.
اقرأ أيضاً: ما العامل المشترك بين الخفافيش ومغني موسيقى الميتال؟
درست إيبي هذه الثدييات الزغبية التي تشبه وجوهها وجوه الثعالب ويصل طول أجنحتها إلى نحو متر لقرابة ربع قرن من الزمن، واستنتجت أن حقل الخيول الذي حققت فيه لم يكن المكان الذي نقلت الخفافيش فيه فيروس هيندرا. ولكن أصحاب هذه الخيول كانوا يقطفون فاكهة اليوسفي من الأشجار مقابل منزلهم. وضع هؤلاء قشور الفاكهة في صناديق السماد العضوي، التي بحثت فيها الخيول عن الطعام. ظنت إيبي عندها أنها حلّت اللغز؛ إذ إن الثعالب الطائرة تحب فاكهة اليوسفي، ويفترض أن لعابها لوّث القشور، محولاً إياها إلى وجبة خفيفة قاتلة.
هل يمكن التنبؤ بالأمراض التي ستنقلها الخفافيش؟
مع ذلك، كانت إيبي تتوق لحل لغز أعمق. هل يمكنها بمساعدة زملائها العلماء أن تتنبأ بالوقت الذي تصبح فيه الظروف مواتية لانتقال فيروس هيندرا من الخفافيش قبل أن يتسبب بالمزيد من الوفيات؟ ماذا لو استطاعوا تحذير عوام الناس ليكونوا على أهبة الاستعداد، أو ربما حتى منع الفيروس من الانتقال بين الحيوانات؟ سيتطلب ذلك الكثير من الجهد، لكنه لم يكن حلماً بعيد المنال؛ إذ إن إيبي كانت تكتشف بعض الأنماط بالفعل وهي تحقق في مواقع الإصابات.
مع ذلك، جوبهت إيبي بالرفض القاطع عندما عرضت بحثها على مموّل حكومي في العام التالي. اقترحت إيبي البدء على نطاق صغير وجمع البيانات الأساسية عن الثعالب الطائرة التي يمكن استخدامها لاكتشاف متى نشرت هذه الخفافيش الفيروس وما أسباب ذلك. قيل لها إن عملها لا يعد "إسهاماً مهماً بما يكفي".
لطالما ركّزت الحكومات والمنظمات الصحية العالمية على الاستجابة لتفشي الأمراض بدلاً من التنبؤ بها والوقاية منها. تُنفَق مليارات الدولارات على تطوير العلاجات واللقاحات للأمراض المعدية، ولكن لا يُخصص سوى جزء صغير من التمويل لفهم سبب انتقال العدوى من الحيوانات إلى البشر في المقام الأول. ما يزيد الأمر سوءاً هو أن هناك خبراء يرفضون ذلك، معتبرين أن انتقال الأمراض بين الحيوانات هو ظاهرة عشوائية وغامضة ونادرة لدرجة تجعلها غير قابلة للرصد والدراسة.
البحث في أساليب الوقاية قبل العلاج
الأبحاث التي تجريها إيبي هي عكس المشاريع البحثية الأساسية المتعلقة بالأمراض الفتاكة التي تحصل عادة على المنح العلمية. تُفضّل الجهات الممولة الحكومية وغير الربحية تمويل الدراسات التي تتضمن أحدث التكنولوجيات مثل الذكاء الاصطناعي، وهي تطالب بالحصول على النتائج في غضون بضع سنوات. أمضت إيبي عقوداً من الزمن في إجراء رحلات في الأدغال الأسترالية، غالباً على حسابها الشخصي، لمراقبة الثعالب الطائرة لساعات مع دفتر ملاحظات ومنظار فقط. عملت إيبي في وظائف الاستشارة لدعم أبحاثها، مثل تقديم المشورة لإدارات البلدات التي ينظر مواطنوها إلى الخفافيش على أنه حيوانات أليفة. مع ذلك، فهي علمت أن الأعمال الجانبية لن تكفي أبداً لدعم الفريق المتعدد الاختصاصات من العلماء المطلوب لحل لغز فيروس هيندرا.
اقرأ أيضاً: حتى الخفافيش تلتزم بالتباعد الاجتماعي عندما تشعر بالمرض
تعرّفت إيبي في السنوات التي تلت ذلك على علماء يفكّرون بطريقة مشابهة لها، ولا يزال الفريق البحثي هذا الذي تقوده النساء نشيطاً. جمع هؤلاء منحة تلو الأخرى، وقاوموا الاحتراق الوظيفي وتجنّبوا الممولين عديمي الصبر. بعد مرور عقد من الزمن على رفض اقتراح المنحة الحكومية الذي قدّمته إيبي، نشرت هي وفريقها ورقة بحثية رائدة في مجلة نيتشر (Nature) بيّنت أنه ليس من الممكن التنبؤ بانتقال فيروس هيندرا بين الحيوانات فقط، بل من الممكن الوقاية منه أيضاً. اتضحت في ذلك الوقت الأهمية الحقيقية للعمل الميداني الذي أجرته إيبي وحدها.
قال طبيب السل والمسؤول السابق في مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، نيل فورا، إنه شعر بسعادة غامرة عندما قرأ الورقة. قال فورا، الذي يعمل الآن في المؤسسة الدولية للحفاظ على البيئة غير الربحية (Conservation International): "وفّرت الدراسة أدلة واضحة تُبيّن أنه يمكننا اتخاذ إجراءات لمنع انتقال الفيروسات بين الحيوانات. آمل أن تساعد هذه الدراسة على إقناع الممولين وصانعي السياسات بأن الإجراءات غير المباشرة لمنع انتقال الأمراض بين الحيوانات تستحق التنفيذ عاجلاً".
ضرورة تمويل المشاريع طويلة الأمد
يكشف النجاح العنيد لإيبي عن إهمال المجتمع العلمي العالمي لمجال بحثي مهم، في الوقت الذي لا يزال العالم يعاني فيه من آثار جائحة كوفيد-19. ليس القصد أن البحث في المجالات العلمية الرائجة التي تتضمن أحدث عجائب الذكاء الاصطناعي لا يستحق التمويل. لكن يقول فورا وخبراء آخرون في الصحة العامة إنه يجب ألا تموَّل هذه الأبحاث على حساب الأبحاث الطويلة الأمد التي تتطلب الكثير من الجهد التي أتاحت لإيبي وزملائها حل لغز أحد الأمراض المعدية القاتلة. قال فورا: "كل هذه الإجراءات مهمة إذا أردنا إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح من الأمراض المعدية".
تحذّر إيبي قائلة إن البشر سيواجهون الأمراض المعدية في المستقبل دائماً. وقالت إن الاستثمار في الأبحاث العلمية مثل أبحاثها "يبدو نهجاً ضعيفاً الآن، ولكننا سنتذكّر الماضي بعد 20 عاماً ونتساءل لماذا لم نفعل ذلك".
اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن عالم الخفافيش؟ هذه الرحلة الموجزة ستخبرك
استكشفت إيبي بعد تخرجها في الكلية في سبعينيات القرن الماضي براري أستراليا في برنامج زمالة بحثية، متّبعتة المسار الذي وثّقه عالم طبيعة ألماني قبل اختفائه عام 1848. كان بعض الأجزاء في هذا المسار نائياً لدرجة أن إيبي اضطرت إلى ركوب الطائرة الصغيرة التي كانت توصل رسائل البريد إلى حراس المتنزهات للوصول إليه. ذُهلت إيبي التي نشأت في ولاية كانساس الأميركية بالتضاريس الطبيعية في أستراليا، وأُعجبت بانفتاح الناس هناك. وقررت الإقامة في أستراليا عندما انتهى برنامج الزمالة.
كانت إيبي تبلغ من العمر 30 عاماً عندما أصبحت مهتمة بالثعالب الطائرة. وطلب منها مديرها في خدمة الحياة البرية والمتنزهات الوطنية في ولاية نيو ساوث ويلز الأسترالية (National Parks and Wildlife Service) أن تكتشف كيف تنشر الخفافيش بذور الفاكهة في الغابات المطيرة. تتبعت إيبي الإشارات التي أصدرتها الأطواق الراديوية المثبتة على الثعالب الطائرة، وطرقت على أبواب أصحاب الأراضي لتطلب ما إذا كان بإمكانها مراقبة الخفافيش وهي تتغذى على الأشجار في أراضيهم وجمع فضلاتها. حتى إنها تعقبت الخفافيش باستخدام طائرة وحيدة المحرّك من شركة سيسنا (Cessna)، مقاومةً الغثيان عندما اكتشفت أن الخفافيش يمكن أن تهاجر قاطعة مئات الكيلومترات، وهي حقيقة لم يعرفها أحد في ذلك الوقت.
تشعر إيبي بالاسترخاء عندما تشاهد الثعالب الطائرة وهي معلقة رأساً على عقب لترتاح. ويبدو لها هذا النشاط كالتأمل؛ إذ تقول: "يغيّر ذلك وجهة نظري ويجعلني أشهر أني أقل أهمية. وأعتقد أنه يجب علينا جميعاً أن نشعر بأننا أقل أهمية في العالم".
تجربة فيروس هيندرا وانتشاره بين الخيول والبشر
كانت إيبي تعمل على أطروحتها حول الخفافيش في عام 1994 عندما أصاب فيروس جديد إحدى ضواحي مدينة برزبين الأسترالية التي تحمل اسم هيندرا. بدأت المشكلات عندما بدأت فرس سباق حامل تحمل اسم دراما سيريز (Drama Series) تعاني من الاحتباس والحمى. أعطاها طبيب بيطري المسكنات والمضادات الحيوية، لكنها توفيت في اليوم التالي. بدأت الخيول تمرض واحدة تلو الأخرى، وتخبَّط بعضها في الحجيرات بسبب العجز عن التنفس. يتذكر الطبيب البيطري، الدكتور بيتر ريد، قائلاً: "إنه لأمر فظيع أن نرى هذه الخيول تشوّه نفسها".
بعد ذلك، توفي مدرّب الخيول، وانتقل عندها المرض إلى البشر.
ظهر فيروس هيندرا عشوائياً لأكثر من عقد من الزمن، وتسبب في وفاة مدرب خيول آخر وطبيبين بيطريين. عانت ممرضة بيطرية من حالة مرضية شديدة لدرجة أنها اضطرت إلى إعادة تعلّم المشي والتحدث ولم تستعد جزءاً من قدرتها على السمع أبداً.
اكتشف العلماء أن فيروس هيندرا انتقل من الثعالب الطائرة، وأنه مرّ عبر الخيول قبل أن ينتقل إلى البشر. كانت إيبي على دراية بهذه الاكتشافات لكنها لم تنخرط في هذه المسألة حتى وفاة عدد غير مسبوق من الخيول في عام 2011. لم يعلم أحد ما سبب إصابة هذا العدد الكبير من الخيول بالمرض بالنظر إلى أن هذا الفيروس كان نادراً في الماضي. حلّقت الطائرات المروحية الإعلامية فوق المواقع التي ماتت فيها الخيول، وأصيب الناس الذين يعيشون ويعملون بالقرب من هذه المناطق بالذعر بسبب التفشي. ضغطت مجموعة من علماء البيئة على الحكومة لإضافة خبير في الخفافيش إلى الفريق الذي أُرسل إلى مواقع الإصابات، وهي ممارسة لم تكن شائعة في ذلك الوقت وما زالت غير شائعة حالياً. وانتقى علماء البيئة إيبي لتكون خبيرة الخفافيش في الفريق.
بدأت إيبي بُعيد عيد ميلادها الستين بارتداء معدات الوقاية الشخصية والتوجه إلى مواقع الحدث في كل مرة تسفر نتائج الاختبار فيها عن نتيجة إيجابية لإصابة خيل ما بفيروس هيندرا. وسرعان ما لاحظت أن مجاثم الخفافيش القريبة من هذه المواقع كانت صغيرة وحديثة. شيء ما غريب كان يحدث.
اقترحت أستاذة علم بيئة الأمراض في جامعة كورنيل، الدكتورة رينا بلاورايت، العمل مع إيبي في نفس الوقت تقريباً. بلاورايت هي عالمة أسترالية هاجرت إلى الولايات المتحدة لكنها لم تفقد أبداً الاهتمام بالأمراض المعدية في وطنها الأم.
اقرأ أيضاً: كيف توجّه الحيوانات مثل الدلافين والخفافيش نفسها باستخدام الصوت؟
اتفقت الباحثتان على حل لغز فيروس هيندرا معاً. تقدمت إيبي وبلاورايت بطلبات عدة للحصول على المنح، ورُفضت هذه الطلبات لأن أهدافهما لم تتطابق مع أهداف الجهات الممولة. لا تهتم الوكالات التي تدعم صحة الإنسان عادةً بصحة الحيوان، كما أن تلك التي تموّل الدراسات حول البيئة لا تهتم غالباً بكيفية تأثير صحة الحيوانات في الصحة العامة. أوضحت إحدى المؤسسات الحيوانية لتبرير رفضها أن تفويضها لا يشمل الأمراض التي انتقلت إلى البشر.
أساليب مختلفة لجمع البيانات
تلقّت بلاورايت عام 2012 منحة صغيرة من الحكومة الأسترالية، ولكنها كانت مخصصة فقط لإجراء عمليات النمذجة الرياضية، ولم تدعم العمل الميداني مثل الذي تجريه إيبي. بحلول عام 2017، حصلت الباحثتان على منحة من المؤسسة الوطنية للعلوم، لكنها لم تكن كافية لتغطية جميع تكاليف التقاط الخفافيش واختبارها. عمل الفريق على إنجاز العديد من المهام في الوقت نفسه. وتقول بلاورايت: "كان الفريق متوجهاً نحو الاحتراق الوظيفي".
من ناحية أخرى، سعت إيبي للاستفادة من مصادر غير اعتيادية للحصول على البيانات؛ إذ إنها صادقت مربي النحل الذين يمكنهم إخبارها متى تُزهر الأنواع الرئيسية من الأشجار وأين يحدث ذلك. ساعد ذلك الفريق على تتبّع النقص في الغذاء الذي تفضّله الخفافيش، وهو رحيق أزهار أشجار الأوكالبتوس. طلبت إيبي أيضاً من العاملين في مراكز إعادة تأهيل أشكال الحياة البرية الاحتفاظ بسجلات عن الخفافيش المريضة والمصابة التي يعتنون بها.
درس الفريق أنماط الطقس وكيف تغيّر الغطاء الحرجي أيضاً. ووفّرت إيبي سجلات ميدانية عن مواقع مجاثم الخفافيش وأعدادها وحالتها الصحية. استمرت عملية جمع البيانات 25 عاماً بالمجمل.
وأثمرت سعة الحيلة التي تمتع بها الفريق في النهاية؛ إذ إنه بحلول عام 2017، اكتشف الباحثون آلية انتقال فيروس هيندرا من الخفافيش وسبب انتقاله.
اكتشف هؤلاء في أوائل عام 2017 أن الظروف كانت مواتية لانتقال فيروس هيندرا من الخفافيش إلى الخيول وربما إلى البشر أيضاً. أدّى الجفاف الذي تلاه هطول أمطار غزيرة إلى انخفاض حاد في معدل إزهار الأوكالبتوس، وبدأت الخفافيش المصابة بسوء التغذية بالظهور في منظمات إنقاذ أشكال الحياة البرية. بحلول ذلك الوقت، طوّر العلماء لقاحاً لفيروس هيندرا مخصصاً للخيول، ولكن لم يستخدمه سوى عدد قليل من مالكي الخيول. وكانت مسألة وقت فقط قبل أن يتناول أحد الأحصنة طعاماً ملوثاً بلعاب الخفافيش أو فضلاتها.
تغلبت إيبي على خوفها من أن تنبؤات فريقها قد تكون خاطئة، ونشرت هي وزملاؤها بياناً في شتاء عام 2017 حذّرت فيه الأطباء البيطريين من انتشار وشيك لفيروس هيندرا، مؤكدة ضرورة ارتداء معدات الواقية الكاملة عند الاقتراب من الخيول.
تبيّن أن تنبؤات الفريق كانت صحيحة. أصيبت 4 خيول في مواقع منفصلة بفيروس هيندرا في ذلك الموسم، ولكن لم ينتقل الفيروس لأي إنسان.
اقرأ أيضاً: 5 أمثلة من الطبيعة لأغرب آليات الدفاع لدى الكائنات
دور أنماط الطقس ونقص الغذاء في انتشار فيروس هيندرا
عندما تكررت أنماط الطقس ونقص الغذاء نفسها في عام 2020، كان الفريق واثقاً بأن هذا العام سيكون عاماً مفجعاً. وأصدر الباحثون تحذيراً آخر في شهر مايو/ أيار 2020 في بداية فصل الشتاء في أستراليا، وهو ينص على ما يلي: "تُبين الظروف أن خطر انتقال فيروس هيندرا إلى الخيول ازداد هذا الشتاء، ويمكن أن تغير الإجراءات المتّخذة اليوم النتائج".
أصيب حصان بالعدوى في وقت لاحق من ذلك الشهر، وقُتل قتلاً رحيماً. وحضّر فريق الباحثين نفسه للتعامل مع موجة جديدة من وفيات الأحصنة. ولكن المرض لم ينتشر في ذلك الموسم. لم تُكتشف أي إصابة أخرى بفيروس هيندرا، ولم يحدث التفشي الذي كان من المفترض حدوثه. لسببٍ ما، كان تنبؤ الفريق خاطئاً.
تقول إيبي: "كنا نثق بفهمنا لهذه الظاهرة على الرغم من ذلك، ولكننا لم نكن قد توصلنا إلى فهم كامل بعد". درست إيبي كل شيء تعرفه عن الخفافيش وفيروس هيندرا مجدداً بحثاً عن معلومات فوّتها الفريق. مرت المنطقة المدروسة عندها بنقص في الغذاء بالفعل. ولكن أين كانت تلك الخفافيش؟
كانت إيبي في مرحلة الحجر الصحي بسبب جائحة كوفيد-19 في منتصف يوليو/ تموز 2020 عندما تلقت أخباراً مذهلة. كانت بلدة غيمبي، وهي بلدة بالقرب من الساحل الشرقي في أستراليا احتوت سابقاً على مناجم لتعدين الذهب، أقل تأثراً بالطقس القاسي مما كان متوقعاً، وأزهرت بقع من نوع من الأوكالبتوس يحمل اسم الكينا بمعدل عالٍ فيها. عجّت أغصان هذا النبات النحيلة بأزهار بيضاء ناعمة. لا تزهر أشجار الأوكالبتوس كل عام؛ إذ تظهر أزهارها بشكل متقطع. اجتمع نحو 240 ألف ثعلب طائر للتغذّي على رحيق الأزهار النادرة في تلك المنطقة. قالت إيبي: "علمت مباشرة أن هذا هو العامل المختلف في تلك الحالة".
سارع المتعاونون مع إيبي، وهم فريق ميداني من جامعة غريفيث، إلى فحص مجاثم الخفافيش في المناطق التي انتشرت فيها حالات الإصابة بفيروس هيندرا سابقاً. ولاحظ هؤلاء أن العديد من المجاثم كان فارغاً، وأن الخفافيش توجّهت للتغذّي في بلدة غيمبي.
عملت إيبي وبلاورايت في هذا المجال لمدة عقد من الزمن، وجمعتا 4 أو 5 منح في وقت واحد لمواصلة البحث. طالب الممولون بالنتائج،
ولكن احتاج الباحثون إلى المزيد من البيانات؛ إذ إنهم احتاجوا إلى فهم الطريقة التي أثّر فيها هذا الإزهار غير المتوقع للكينا في بلدة غيمبي خلال الشتاء في سلوك الخفافيش عبر شرق أستراليا. بدأت إيبي بجمع معلومات عن حالات الإزهار الشتوية الجماعية التاريخية مثل هذه في أثناء الحجر الصحي الذي منعها من فحص المجاثم بنفسها.
اقرأ أيضاً: سلوك مذهل تظهره ببغاوات الكوكاتو يدل على ذكائها الشديد
سلوك الخفافيش له دور أيضاً
يتمثل أحد الأسباب التي جعلت الإزهار الجماعي في بلدة غيمبي يبدو غير مهم في البداية في أن الخفافيش التي أتت إلى البلدة كانت من الثعالب الطائرة الرمادية الرؤوس، وليست الثعالب الطائرة السوداء التي تنقل فيروس هيندرا. استنتجت إيبي أن التسلسل الهرمي لأنواع الخفافيش يحدد الجماعات التي ستحصل على الغذاء العالي الجودة، وأن سلوك كل جماعة يؤثّر في الجماعات الأخرى.
تحصل جماعات الثعالب الطائرة الرمادية على الغذاء الأعلى جودة. عندما تكون نسب رحيق الأوكالبتوس منخفضة، تستهلك هذه الخفافيش الرمادية الكمية المتوفرة، ما يدفع الثعالب الطائرة السوداء للبحث عن الفاكهة في حقول الخيول، وهي غذاء يؤدي دور وجبات سريعة بالنسبة للخفافيش. ولكن عندما يكون الرحيق وفيراً، كما حدث في بلدة غيمبي في ذلك العام، تنتقل الخفافيش الرمادية إلى المناطق الوفيرة لتستغل فرصة تناول الطعام الفاخر، ما يتيح للخفافيش السوداء التخلّي عن حقول الخيول والتغذّي على الطعام الأعلى جودة الذي تخلّت عنه الخفافيش الرمادية. يؤدي ذلك إلى ابتعاد الخفافيش التي تحمل فيروس هيندرا عن الخيول والبشر.
ما استنتجته إيبي في النهاية كان مذهلاً، وهو أنه لم تحدث أي حالة انتقال لفيروس هيندرا بين الحيوانات في الفترات التي أزهرت فيها أشجار الأوكالبتوس بمعدل عالٍ في الشتاء. قالت بلاورايت: "اعتقدنا أن هذا التفسير لن يكون صحيحاً لأنه مثالي للغاية؛ إذ كانت بقع الإزهار الباقية هذه تحمي المنطقة بأكملها".
يمكن أن تحمي بقع من الأوكالبتوس توجد حول بلدة واحدة منطقة شرق أستراليا بأكملها من فيروس هيندرا. ولفهم ذلك، يمكنك تخيل أن بضع مجموعات من الأشجار في ولاية نيوجيرسي تحمي الساحل الشرقي للولايات الأميركية بأكمله.
لاحظ الباحثون كيف وقعت أحداث الإزهار الشتوية باتساق بين عامي 1994 و2006 في جميع أنحاء البلاد. ولكن مع تزايد معدل الأشجار التي يقطعها البشر وتدمير المواطن المتاحة، أصبحت أحداث الإزهار الشتوي غير متسقة وعرَضيّة، ما دفع الخفافيش إلى البحث عن مصادر أخرى للغذاء في حقول الخيول.
تأثير تدمير المواطن وإزالة الغابات على تفشي المُمْرضات
يرتبط كلٌّ من تدمير المواطن وإزالة الغابات بتفشي العديد من الفيروسات والطفيليات التي تشتهر بأنها ضارة، مثل الإيبولا والمتصورة النولسية (التي تتسبب بمرض ملاريا القرود) وفيروس نيباه الذي يصيب الدماغ. تُبيّن اكتشافات إيبي وزملائها أنه يمكننا تحديد جميع العوامل التي تؤدي إلى انتقال الفيروسات بين الحيوانات، من تلك البيئية إلى الحيوانية والبشرية، بدقّة كافية تُتيح لنا التوصل إلى طرق للتنبؤ بحالات التفشي التالية والوقاية منها.
ترافقت هذه الاكتشافات مع ازدياد التهديد الذي يمثّله فيروس هيندرا. أدّت إزالة الغابات إلى تدمير المواطن التي تبحث الخفافيش فيها عن الطعام في الشتاء، ولا يبدو أن معدل هذه الممارسة ينخفض. من المرجح أن يتسبب التغيّر المناخي في نشوء الظروف المناخية الأكثر تطرفاً، ما سيعطّل عملية برعمة الأوكالبتوس الشتوية أكثر ويؤدي إلى ازدياد حالات نقص الغذاء.
لكن إيبي وفريقها يعتقدون أنه يمكن حل هذه المشكلة. إذا بُذلت جهود للحفاظ على البقع المتبقية من الأشجار التي تُزهر في فصل الشتاء وزَرع المزيد من هذه الأشجار، يمكن إبعاد الخفافيش بشكلٍ موثوق مجدداً عن مناطق تجمّع البشر وحماية البلاد بأكملها من فيروس هيندرا لسنوات.
مع ذلك، لم يبدِ إلا عدد قليل من الوكالات الحكومية وسلطات الصحة العالمية استعداداً للاستثمار في الإجراءات المستمدة من اكتشافات إيبي وفريقها التي حُقّقت بشق الأنفس.
تمكّن هذا الفريق عام 2018 من الحصول على منحة من برنامج تابع للوكالة الأميركية لمشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة يتمتّع بالتميز من ناحية النطاق البحثي والرؤية. يحمل هذا البرنامج اسم برنامج الوقاية من التهديدات الناشئة المسببة للأمراض (Preventing Emerging Pathogenic Threats)، وسعى الخبراء القائمون عليه إلى فهم آليات انتقال الأمراض بين الحيوانات بهدف تطوير تكنولوجيات لحماية القوات العسكرية الأميركية المنشورة في المواقع المعرضة لانتشار الأمراض. لكن هذا البرنامج مُصمم ليجرى مرة واحدة، كما أنه سينتهي بعد 5 سنوات. يقول المسؤولون في وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة الأميركية (داربا) إن تمويل جهود تطبيق الحل الذي اكتشفته إيبي وزملاؤها ليس من مسؤوليات الوكالة.
قالت نائبة مدير مكتب داربا للتكنولوجيات الحيوية، كريستن جوردان: "نحن مستعدون لحل المشكلة الصعبة التالية، وهناك الكثير من المشكلات التي يجب علينا معالجتها". سأل مسؤولو وزارة الدفاع الأميركية بلاورايت عما إذا كان النموذج الذي اسُتخدم للتنبؤ بانتقال فيروس هيندرا يمكن أن يتنبأ أيضاً بالانتقال التالي لأحد فيروسات كورونا في جنوب شرق آسيا.
اقرأ أيضاً: توثيق سلوك غريب يتبعه بعض أنواع الأسماك للتخلص من الطفيليات
وتتذكر بلاورايت أنها أجابت قائلة: "نحتاج إلى البيانات لفعل ذلك، وليس لدينا أي منها". سيكون من المستحيل تقدير خطر هذا الانتقال من دون تطبيق عملية دراسة أشكال الحياة البرية وجمع البيانات البيئية وإجراء الحسابات التي أجراها فريق إيبي في حالة فيروس هيندرا. وتقول بلاورايت: "الناس لا يدركون ذلك ببساطة".
دخلت إيبي في ظهيرة جميلة في شهر سبتمبر/ أيلول 2022 إلى مصف سيارات تابع لمطعم هنغري جاكس برغر (Hungry Jack’s burger) في مدينة تاموورث في ولاية نيو ساوث ويلز. سمعت من قبل تقارير عن وجود مجثم هائل الحجم للثعالب الطائرة في المدينة، وسارعت للوصول إلى هناك. لم تتمكن إيبي من رؤية أي خفاش من المكان الذي وقفت فيه، لكنها لم تكن بحاجة إلى ذلك؛ إذ إنها شعرت بالحماس والسعادة عندها وابتسمت. وقالت: "هل تستطيعون شم رائحتها؟".
كانت هناك رائحة حادة وحلوة تبين وجود الخفافيش، إلى جانب رائحة شحوم الطهي المنبعثة من المطعم. مع اقتراب إيبي من النهر، تمكّنت أيضاً من سماع أصوات الخفافيش الصاخبة. ثم وجدت الخفافيش وهي معلقة رأساً على عقب من كل فرع على كل شجرة على جانبي النهر، آخذة في تنظيف نفسها والاستراحة قبل البحث عن الطعام في المساء. بدت الخفافيش وكأنها حبات من الفاكهة على شكل دموع مع طي أجنحتها. قبل ذلك بأسبوع، قاد باحث آخر طائرة دون طيار تستشعر الحرارة فوق المجثم، وقدّر أن منطقة النهر في مدينة تاموورث تحتوي على نحو 300 ألف خفاش، أي أكثر من نصف عدد الثعالب الطائرة الرمادية الرؤوس في أستراليا بأكملها.
تحرّكت إيبي بحذر لكي لا تُفزع الخفافيش الجاثمة، ثم استخدمت منظارها لإحصاء عدد الذكور والإناث، وبحثت عن الإناث الحوامل وصغار الخفافيش المولودة خارج الموسم. بدا لها أن المجثم في حالة صحية، وكانت مبتهجة. أكد وجود الخفافيش في تاموورث أن حدث إزهار واحد وفير بشكل غير عادي لأشجار الأوكالبتوس يمكن أن يسهم في حماية النظام بأكمله. وبالفعل، لم تُوثَّق أي حالات إصابة بفيروس هيندرا في شتاء عام 2022.
قررت إيبي قبل بضع سنوات بأن وقت التقاعد حان. كانت تبلغ من العمر 70 عاماً حينها، وكانت على استعداد للتوقّف عن العمل الميداني المتطلِّب جسدياً. ولكنها حصلت على فرصة تمويل غير تقليدية لم تستطع تفويتها.
تأثير زراعة الأوكالبتوس في الثعالب الطائر
بدأت مختلف الجهات تضخ الكثير من الأموال في مجال ترميم مواطن دببة الكوالا الأسترالية الشهيرة بعد أن أحرقت الآلاف من حرائق الأحراش مساحة يقدّر أنها بلغت نحو 239 ألف كيلومتر مربّع في موسم واحد أصبح يُعرف باسم الصيف الأسود. أدركت إيبي على الفور أن لديها فرصة لاستكشاف كيفية تأثير زراعة الأوكالبتوس في الثعالب الطائرة التي صدف أنها تتغذى على رحيق العديد من الأشجار نفسها التي تفضّلها دببة الكوالا. قالت إيبي بابتسامة ساخرة: "تمكنّا من مساعدة الخفافيش من خلال مساعدة دببة الكوالا".
لم تكن هناك مجموعة بيانات عالمية لتتبع مشاريع إعادة التشجير، لذلك بدأت إيبي بإنشاء واحدة. واليوم، تقود إيبي سيارتها عبر شرق أستراليا لتدريب دعاة الحفاظ على دببة الكوالا على تحميل سجلات مشاريع غرس الأشجار الخاصة بهم إلى قاعدة بيانات مشتركة، بدعم مالي من مختلف المشاريع التي تركّز على دببة الكوالا. وهي تأمل أن تؤدي جهود إعادة التشجير إلى زيادة معدل الإزهار في الشتاء مجدداً وإثبات أن ترميم المواطن يساعد على الوقاية من انتقال الأمراض بين الحيوانات.
اقرأ أيضاً: جينات حيوان الكوالا قد تكشف عن سبب بقائه اعتماداً على نظامه الغذائي السام
تقول إيبي إنها تعتقد أن منع تفشي الفيروسات ممكن، وأن الطرق التي توصّلت إليها هي وزملاؤها قابلة للتطبيق على أنظمة أمراض أخرى. قالت إيبي: "لم يكن هناك أي جانب استثنائي في الأبحاث التي أجريتها؛ إذ يمكن تطبيقها مجدداً في ظروف أخرى، ولا يتطلب ذلك الكثير سوى الإرادة وإدراك أن هذا المسعى طويل الأمد".
حتى بينما تشرّع في مهمتها الجديدة الهادفة لإثبات التأثير البليغ لإعادة التشجير، فإنها تخصص وقتاً للاحتفال عندما تُزهر بقع الغابات المتبقية.
مع غياب الشمس فوق مدينة تاموورث، وقفت إيبي فوق ضفة النهر، وكان شعرها يتلألأ باللون الفضي تحت ضوء أحد مصابيح الشارع. راقبت عندها الخفافيش وهي تحلق في السماء المظلمة، بينما كانت أجنحتها الطويلة تضرب الهواء وهي تحلق فوق الأشجار وتذهب للبحث عن الطعام. لم تتمكن إيبي من إدراك وجهة الخفافيش، لكنها علمت أن أشجار الأوكالبتوس المجاورة كانت تُزهر وتنتج رحيقاً حلواً يساعد على حماية أستراليا من انتقال فيروس هيندرا. وتمتمت مبتسمة: "أليس هذا أمر رائع؟"