يصنف الألم كأقوى العوامل المؤثرة في الحالتين النفسية والجسدية، لأن تأثيراته لا تقتصر على الحالة النفسية للشخص فقط، بل لدوره في تثبيط وسائل الدفاع المناعية في الجسم وزيادة العوامل الالتهابية المضعفة. كما يُؤثر الألم على وظيفة الغدد الصم في الجسم، كالغدة النخامية والكظرية، ويساهم في إعاقة التنظيم العصبي اللاإرادي الودي والذي يظهر على شكل زيادة الانفعالية والعدوانية، بالإضافة إلى حدوث ضعف في الإدراك واضطرابات في النوم وتراجع القدرة على الاستمتاع بالحياة وصعوبة في التركيز.
ترتبط اضطرابات الأكل والألم المزمن بمستويات عصبية متعددة، حيث تتأثر مناطق الدماغ المسؤولة عن المتعة والتحفيز عند مرضى الألم المزمن مقارنة بالأصحاء. إن المناطق الدماغية المشتركة التي تربط بين الحالة المزاجية والشعور بالألم هي منطقة اللوزة المخيخية والحصين والمهاد والمناطق القشرية أمام الجبهية وأخيراً القشرة الجزرية، الأمر الذي يُفسر تراجع مستويات السيروتونين، وهو الناقل العصبي المُحسن للمزاج، وبالتالي يظهر هذا على شكل اضطراب مزاج وزيادة الشعور بالألم وعدم الراحة.
دفع هذا الأمر الباحثين في معهد ديل مونتي المختص بعلوم الأعصاب إلى إجراء دراسة جديدة هدفها فهم هذه الآلية العصبية النفسية بالشكل الأمثل، حيث قال الطبيب "بول جيها" الحاصل على دكتوراه في الطب ومؤلف هذه الدراسة، في بيان له: "يمكن أن تؤدي التغيرات العصبية النفسية وارتباطها بالألم المزمن لتطور حالة صريحة من السمنة عند المرضى".
علاقة الحالة النفسية بالطعام
جميعنا نشعر بالمتعة عند تناول الطعام، إنها الطريقة التي يستخدمها دماغنا في الاستجابة والتعبير عما نأكله، فقد يكون من الغريب استيعاب أن الدماغ هو العضو الأكثر أهمية في عملية الهضم، فهو الذي يستجيب لارتفاع مستويات هرمون الغريلين، الذي يفرز عند الجوع، ما يدفع الشخص للبحث عن الطعام. وعند حدوث الشبع، يتحسس الدماغ ارتفاع مستويات الليبيتين المفرزة من الخلايا الشحمية، وعندها يبدأ الشعور بالشبع بالتّكون تدريجياً حتى يصل للتخمة. ومنه نجد أن المعدة ليست إلا جزءاً منفذاً للأوامر في جهاز الهضم.
عندما نشعر بحالة من الإحباط، تنخفض مستويات النواقل العصبية المحسنة للمزاج كالسيروتونين والدوبامين، فيدفعنا الدماغ نحو مصادر أخرى بديلة ترفع لنا من مستويات هذه النواقل، وهذه البدائل ما هي إلا الطعام. وبالمقابل، إن الشعور بحالة من السعادة يحقق اكتفاءً للدماغ من السيروتونين والدوبامين، الأمر الذي يفسر الشهية المنخفضة عندما نكون سعداء!
اقرأ أيضاً: استهداف الخلايا العصبية بالموجات فوق الصوتية من أجل تثبيط الألم
محتوى الدراسة ونتائجها
كان موضوع الدراسة "مقارنة استجابة الدماغ للسكر والدسم عند مرضى الألم المزمن"، حيث عدّل الباحثون كل من سكر الطعام ودسمه وقوامه لكي تحقق هذه الدراسة معايير الموضوعية، ووجدوا أن استجابة الدماغ لم تتغير عند تناول السكريات، أي أن الباحثين لم يجدوا أي تغيرات في سلوكيات الأكل عند هؤلاء المرضى. ولكن الأمر لم يكن مماثلاً عند تناول الدسم، حيث تغيرت الاستجابة الدماغية عند مرضى آلام أسفل الظهر الحادة، الذين تماثلوا للشفاء خلال السنوات الماضية، للمادة الدسمة، وأظهر تخطيط الدماغ العصبي وجود إشارات عصبية متقطعة من الشبع والتخمة، الأمر الذي يشير لوجود تغير في استجابة الدماغ لإشارات الجهاز الهضمي بما يخص هذه المادة.
الأمر الجلي كان أن مرضى آلام أسفل الظهر الحادة الذين لم يتماثلوا للشفاء، لم يُظهروا أي تغيير في الاستجابة بل حافظوا على نفس الثباتية، وبالمقابل فقد مرضى آلام أسفل الظهر المزمنة شهيتهم تجاه الأطعمة الغنية بالدسم والكربوهيدرات، حيث ظهر ذلك على تخطيط الدماغ على شكل إشارات عصبية متقطعة من التخمة.
كان التأكيد على أن التغير لم يشمل السعرات الحرارية المتناولة مهماً في هذه الدراسة، فهو لم يتعلق بالكمية بل اقتصر على نوعية الطعام، وأضاف الطبيب جيها في بيان آخر: "ساعدت هذه الدراسة في إثبات أن السبب وراء سمنة مرضى الآلام المزمنة كان عصبياً نفسياً مُتعلقاً بنمط الأكل، أكثر من كونه ناجماً عن قلة الحركة".
لم تقتصر التغيرات على التخطيط الدماغي فقط، بل اختلف التصوير الدماغي بين مرضى الآلام المزمنة والأصحاء. أظهرت الصور أن النواة المتكئة Nucleus Accumbens، وهي منطقة صغيرة من الدماغ مسؤولة عن اتخاذ القرارات، ساعدت في كشف الأشخاص ذوي الخطورة العالية لحدوث تغيرات في السلوك الغذائي على المدى الطويل.
كانت النتائج مثيرة للاهتمام، فقد وجد أن بنية النواة المتكئة كانت طبيعية عند مرضى تغيرات السلوك الغذائي ممن لم يعانوا من آلام مزمنة، بينما كانت ذات حجم أصغر عند مرضى الآلام المزمنة ممن لم يعانوا من أي تبدلات في السلوك الغذائي. ومن هنا استنتج العلماء أن القدرة التنبؤية للنواة المتكئة في حدوث اضطرابات الأكل كانت نوعية فقط عند مرضى الآلام المزمنة، ما أشار إلى أن هذه المنطقة حاسمة في السلوك المحفز لمرضى الألم المزمن، كما أنها حاسمة في تصنيف الفئات ذات معدلات الخطورة الأعلى لتطوير آلام مزمنة.
اقرأ أيضاً: دليلك الشامل لمعرفة كل ما تريده عن مسكن الألم ديكلوفيناك
آفاق الدراسة
ليس من السهل دائماً فهم تطورات العلوم الحيوية العصبية واضطرابات الألم المزمن، فما اكتشفه العلم لحد الآن لا يعتبر سوى قطرة في محيط من الارتباطات النفسية والفيزيولوجية العصبية. بالمقابل سمحت هذه الدراسة باكتشاف أساس مشترك ونقطة يستطيع الباحثون الانطلاق منها لتقييم المرضى الذين قد يعانون من طيف هذه الاضطرابات، ما يساعد في توجيه الخيارات العلاجية للفئة الأكثر استفادة لتجنب وقوع أمراض التمثيل الغذائي، مثل مرض السكري وأمراض القلب الوعائية، عند مرضى الآلام المزمنة المُضعفين.