يكرّس مهندسو ناسا الكثير من الوقت والجهد للتأكد من أن المركبات الفضائية متينة بما يكفي لتجاوز مخاطر الفضاء. ومع ذلك، في بعض الأحيان يتم تصميم الصواريخ أو المسابير لتتحطم عمداً!
في عام 2022، كان هناك عدد من حوادث الاصطدام في الفضاء، سواء المخطّط لها أو غير المخطّط لها. ورغم أن الحوادث غير المتوقعة يمكن أن تكون خطيرة، فإن حوادث الاصطدام المخطّط لها يمكن أن توفر معلومات مهمة عن نظامنا الشمسي، وتكشف عن جوانب متنوعة مثل الغلاف الجوي للكوكب أو المواد الكيميائية الموجودة على سطح كويكب ما. فهي تمهّد الطريق لبعثات فضائية مستقبلية من خلال اختبار تقنيات جديدة أيضاً. كما أن اصطدام جهاز ما بصخرة فضائية من شأنه أن يعطي بيانات يمكن استخدامها يوماً ما لحماية الأرض من تهديد الكويكبات.
إنّ تاريخ استكشاف الفضاء حافل بحوادث الاصطدام، فقد اعتمدت الرحلات البشرية القديمة إلى القمر على تلك الاصطدامات لدراسة سطح القمر بشكلٍ مفصّل، مثل المركبة الروسية لونا 2 (Luna 2) التي أصبحت أول مركبة فضائية تلمس سطح القمر في عام 1959، وبرنامج رينجر (Ranger) التابع لوكالة ناسا الذي أعاد أول صور مقرّبة للقمر في الستينيات. وتستمر البعثات الحديثة في هذا التقليد الذي يعود إلى عقود، بدءاً من اصطدام المسبار الفضائي ديب إمباكت (Deep Impact) بمذنب في عام 2005 وصولاً إلى اصطدام مركبة دارت (DART) بكويكب في عام 2022. ومن المحتمل جداً أن يكون هناك المزيد من حوادث الاصطدام المتعمّدة في المستقبل أيضاً.
اقرأ أيضاً: هل سيكون المستكشف راشد أول إنجاز عربي يطأ سطح القمر؟
مركبة الهبوط التابعة لوكالة ناسا مصمّمة للتحطّم
تُعد عملية الهبوط أكثر المراحل خطورةً في البعثات إلى المريخ. حيث يجب أن تعمل العديد من الأجزاء الميكانيكية والبرامج بشكلٍ صحيح لتجنّب مثل هذا الموقف، فقد تسبب خلل في الكمبيوتر في تحطم المسبار الأوروبي على المريخ بشكل كارثي في عام 2016. حتى الآن، تعاملت وكالة ناسا مع هذا من خلال مجموعة متنوعة من التقنيات، كالوسائد الهوائية الارتدادية الضخمة، والمظلات المصممة لإبطاء المركبة في الغلاف الجوي الرقيق للمريخ، وحتى نظام الرافعة السماوية المعقدة، وهي عبارة عن حزمة نفاثة تقوم بخفض سرعة المسبار على السطح، وقد استخدمتها المركبة الفضائية الجوّالة بيرزيفيرانس (Perseverance).
وعلى الرغم من نجاح هذه التقنيات، فهي مكلفة جداً. يعمل المهندسون في مختبر الدفع النفاث (JPL) التابع لوكالة ناسا على تقنية جديدة قد تقلل التكاليف، وهي عبارة عن جهاز مصمّم للاصطدام، يُعرف باسم شيلد (SHIELD). كما يُطلق عليه اسم مخفف الصدمات، وهو مصمَّم لامتصاص كل قوة الاصطدام وحماية الإلكترونيات الحسّاسة الموجودة بالداخل. فهو مصنوع من الفولاذ على شكل كعكة زفاف مقلوبة. عندما يصطدم بالأرضية، فإنه يتفتت، ويمتص تأثير الاصطدام تماماً مثل منطقة امتصاص الاصطدام للسيارات الحديثة.
ورغم أن المهام الأكبر والأكثر طموحاً ستحتاج دائماً إلى معدّات هبوط تقليدية، فإنها تستغرق أيضاً وقتاً طويلاً للتحضير. تتيح تقنية شيلد (SHIELD) تنفيذ مهام أصغر وأكثر تواتراً بالإضافة إلى تلك المهام. يقول مهندس الميكانيك في مختبر الدفع النفاث، لو جيرش، المسؤول عن مشروع شيلد (SHIELD): إن هذا الجهاز يمكن أن يزيد من معدل الاكتشافات العلمية عن طريق جعل البعثات إلى المريخ أسرع وأقل تكلفةً، كما أنه مكمّل للهبوط التقليدي على المريخ.
اختبر الفريق جهاز شيلد (SHIELD) بأقصى سرعة هبوط على المريخ، وهي 177 كم في الساعة، لأول مرة في أغسطس/ آب 2022، حيث تم ربط هاتف ذكي بالجهاز. لم يتأثر الهاتف الذكي بالاصطدام وظل يعمل بكامل طاقته، رغم اصطدامه بلوح فولاذي بسمك 2 بوصة، وهو ما يعتبر أكثر صلابة من تربة المريخ الحقيقية.
وتأمل وكالة ناسا أن يسمح هذا النوع من التكنولوجيا بإرسال المزيد من البعثات الصغيرة إلى المريخ، وربما حتى إنشاء شبكة من المسابير في جميع أنحاء الكوكب الأحمر. وقد تكون هذه الشبكة مشابهة لمحطات الأرصاد الجوية المحلية التي نستخدمها على الأرض. فقد يخبرك علماء الغلاف الجوي يوماً ما بالتنبؤات اليومية المحلية لجبل أوليمبوس مونس البركاني (Olympus Mons) أو فوهة شياباريلي (Schiaparelli Crater). إن القدرة على مراقبة الكرة الأرضية بأكملها في وقت واحد يمكن أن تكشف المزيد عن تربة المريخ، وغلافه الجوي، وحتى الزلازل المريخيّة، وقد يحدث كل هذا بعد عمليات الهبوط المتكررة الناجحة.
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة: اصطدامات النيازك ربما جعلت المريخ غير صالح للحياة
صاروخ غامض على سطح القمر
تحيّر علماء الفلك بشأن حادث مفاجئ هذا العام، عندما اصطدمت قطعة من حطام صاروخ بالقمر في 4 مارس. اكتشفت المركبة المدارية الاستطلاعية القمرية (LRO) التابعة لناسا حفرة مزدوجة غريبة ناتجة عن الاصطدام. وعلى الرغم من أن بعض علماء الفلك كانوا يأملون في أن يكون هذا الاصطدام قادراً على تزويدهم بمعلومات جديدة حول سطح القمر، إلا أن ذلك لم يحدث، واقتصر الأمر على البحث عن الصاروخ الذي تسبّب بذلك الاصطدام.
وقد كشف عالم الفلك بيل جراي لأول مرة أن الصاروخ هو جزء من مشروع سبيس إكس (SpaceX)، لكنه أدرك لاحقاً أنه جزء من مهمّة اختبار صينية عام 2014، تسمى تشانغ إي 5-تي1 (Chang’e 5-T1). ولكن المسؤولين الصينيين نفوا ذلك، لذا فإن أصله لا يزال غامضاً إلى حدٍّ ما. وما يثير القلق في ذلك هو عدم التأكد من ماهيّة تلك القطعة و مصدرها، بالإضافة إلى وجود العديد من الكتل الأخرى المفقودة من الحطام الفضائي مثلها تماماً.
اقرأ أيضاً: 10 مهمات قمرية تاريخية مهّدت الطريق أمام مهمات أرتميس
على الرغم من أن هذه الحادثة كانت خسارة لعلماء القمر، فإنه كانت هناك حوادث اصطدام متعمّدة على القمر من قبل، ولا سيما حادثة اصطدام مركبة لكروس (LCROSS)، وهي بعثة لضرب فوهة مظللة بشكل دائم على القطب الجنوبي للقمر في عام 2009. حيث أرسل علماء الفلك في ناسا مركبة فضائية لضرب السطح، وتبع ذلك بعد فترة وجيزة إطلاق مسبار يحتوي على أدوات علمية لقياس المواد الناتجة عن الاصطدام. وقد ساعدت هذه المهمة في تأكيد حقيقة نعتبرها الآن أمراً مسلّماً به، وهي وجود الجليد المائي على سطح القمر.
تشير عالمة الكواكب في جامعة هاواي، كيارا فيراري وونغ إلى أن بيانات المركبة الفضائية لكروس (LCROSS) لا تزال تُشغل العلماء، فالمواد التي كشفت عنها على القمر تختلف بشكلٍ لافت للنظر عن تلك الموجودة على عطارد، الذي توجد على سطحه حفر مشابهة. وتقول: "نحن نعمل على فهم ما حدث في تاريخ كل كوكب وما جعل هذه الكواكب متشابهة ومختلفة في آنٍ معاً".
اصطدام الكويكبات
ومن أبرز أحداث الاصطدامات الفضائية هذا العام هي حادثة اصطدام المركبة دارت (DART)، وهي تجربة وكالة ناسا لإعادة توجيه الكويكب المزدوج، بعد الاصطدام به لدفع مداره. كان هذا أول اختبار لتقنية الدفاع الكوكبي التي تهدف إلى حماية الأرض في حال وجود كويكب يندفع نحوها.
اقرأ أيضاً: في خطوة جديدة لحرف مسار الكويكبات التي تشكل تهديداً للأرض: نجاح اصطدام المركبة دارت بكويكب
تقول عالمة الكواكب في مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز، أنجيلا ستيكل، وعضو فريق المركبة الفضائية دارت (DART): "لحسن الحظ، لا يوجد كويكب كبير بما يكفي لاختراق غلافنا الجوي وتهديد الأرض في أي وقت في القرن المقبل، ولكن إذا كان هناك كويكب في مسارٍ تصادمي مع الأرض ولم يتم اكتشافه بعد، فيجب أن نكون مستعدّين".
استهدفت المركبة الفضائية دارت (DART) كويكباً يعرف باسم ديمورفوس (Dimorphos)، الذي يدور حول كويكب آخر أكبر يسمى ديديموس (Didymos). من خلال قياس التغيير في الوقت الذي يستغرقه ديمورفوس (Dimorphos) للدوران حول ديديموس (Didymos)، قبل وبعد الاصطدام، يمكن لعلماء الفلك تحديد حجم الضربة التي سبّبها اصطدام المركبة. غيّرت المركبة الفضائية الفترة المدارية للكويكب بمقدار 32 دقيقة، أي أكثر من 25 ضعف من الوقت الذي حددته ناسا لمَهمّة ناجحة. تقول ستيكيل: "كان هذا مثيراً بشكل لا يصدّق، ولا يزال الفريق يعمل على التفاصيل المتعلقة بسبب ذلك وكيفية حدوثه".
زوّدت هذه المَهمّة العلماء بمعلومات عن كويكب ديديموس، وهو في الواقع مجموعة غير مترابطة من الصخور تُعرف باسم كومة الحطام، التي تُظهر مدى تنوع الكويكبات حقاً. ولكي تنجح عمليات تحويل مسار الكويكبات في المستقبل، يحتاج علماء الفلك إلى معرفة مكوّنات كل كويكب، حتى يعرفوا حجم الدفعة التي يحتاجها.
اقرأ أيضاً: ناسا تنجح باختبار حرف كويكب عن مساره بما يتجاوز جميع التوقعات
ليست هذه هي المرة الأولى التي يضرب فيها العلماء كويكباً، على الرغم من أن مهمة هايابوسا 2 (Hayabusa2) اليابانية أطلقت قذيفة صدمية صغيرة على كويكب ريوجو (Ryugu) في عام 2019، ما أدى إلى تفجير السطح، وأدى إلى كشف الطبقات السفلية من التربة وقذف الحطام نحو الجزء الرئيسي من مركبة الفضاء المصمّمة لجمع العيّنات. لكن هذا الاصطدام كان على نطاقٍ أصغر بكثير من مركبة دارت (DART)، وكان مخصصاً لغرضٍ مختلف تماماً.
الآن، تبدأ مركبة هايابوسا 2 (Hayabusa2) مَهمّة جديدة، ستساهم في تحقيق أهداف مركبة دارت (DART) لحماية الكواكب. وستنطلق المركبة نحو كويكب صغير يدعى 2001 سي سي 21 (2001 CC21). لكنها لن تصطدم به، وإنّما ستقوم المركبة الفضائية بتجربة التنقل الدقيق حول هدف غير معروف إلى حدٍّ ما، وهي مهارة حاسمة لمهمة الدفاع الكوكبي التي تستهدف الكويكبات.
تقول ستيكيل عن اصطدام مركبة دارت (DART): "ستكون المَهمّة التالية المثالية هي اصطدام مركبة فضائية بكويكب بوجود مركبة فضائية أخرى تراقب كل شيء يحدث، فكلما تمكّنا من اختبار هذه التكنولوجيا أكثر، حصلنا على نتائجٍ أفضل".