بطريقة أو بأخرى، عندما نتحدث عن استكشاف الفضاء، يبدو أن المشاريع جميعها التي أجراها البشر تحمل أسماء مذهلة وملهمة، من مهمة بيرسيفيرنس (المثابرة) وفوياجر (الرحّالة) إلى تشالنجر (المتحدية) وكيوريوسيتي (حب الاستطلاع). مع ذلك، هذه ليست صدفة. ناقش الخبراء في وكالة ناسا سياسات تتعلق بكيفية تحديد الأسماء الرسمية للمركبات الفضائية على نحو مدروس منذ بدايات المؤسسة في ستينيات القرن الماضي، ونفّذوا هذه السياسات.
اقرأ أيضاً: وكالة الفضاء الأوروبية تخطط لإطلاق ثلاثة أقمار اصطناعية لدراسة الموجات الثقاليّة التي توقعها آينشتاين
ما يزال الإنجاز المتمثّل في تسمية مهمة أو مركبة فضائية يقابَل بضجة كبيرة حتى اليوم؛ إذ إنه يمثل شكلاً ما من إضفاء طابع رسمي على المشروع لأنه يجعله يبدو أكثر واقعية ويمنح الجمهور فرصة للحديث عن المشاريع العلمية المتطورة. على سبيل المثال، أعلنت الإدارة الصينية الوطنية للفضاء (CNSA) مؤخراً عن أسماء مشروعاتها القمرية القادمة التي تهدف إلى إيصال البشر إلى القمر بحلول عام 2030، وهي تشمل سفينة طاقم تحمل اسم "مَنغجو" (Mengzhuo)؛ أي سفينة الأحلام ومركبة هابطة تحمل اسم "لانيويه" (Lanyue)، أي احتضان القمر.
ما منشأ هذه الأسماء إذاً؟ ومن قرر تسمية مشروع عودة ناسا الحديث إلى القمر باسم "أرتميس"، ولماذا سمّت الإدارة الصينية الوطنية للفضاء المركبة الهابطة لانيويه؟
منشأ أسماء البعثات الفضائية
تختلف الإجابة بحسب الوكالة الفضائية التي تطلق الاسم؛ إذ لا توجد سلطة مركزية لإطلاق التسميات كما يحدث في عملية تسمية رموز المطارات التي يجريها الاتحاد الدولي للنقل الجوي. وفقاً لما ورد في وثيقة وكالة ناسا التاريخية بعنوان "أصول أسماء وكالة ناسا" (Origins of NASA Names) التي نُشرت عام 1976، "لم تنشأ الأسماء التي أُطلقت على مشاريع الرحلات الفضائية والبرامج من مصدر واحد أو بطريقة واحدة؛ إذ إن بعضها له أسس في الأساطير والتنجيم، وبعضها الآخر نشأ من القصص الخيالية والفولكلور. لبعض الأسماء دلالات تاريخية، في حين يستند بعضها إلى وصف مباشر للمهمة".
على سبيل المثال، كلمة "لانيويه" مأخوذة من قصيدة لماو تسي تونغ تعود إلى عام 1965، واقترحها مواطنون صينيون لتجسيد تطلّع المجتمع لدراسة القمر. وأيضاً، يحمل مشروعا "تشاندرايان 2" و"تشاندرايان 3" الهنديان الحديثان اسمين لهما معنى بالغ الحرفية بالنسبة لمشروع يهدف إلى السفر إلى القمر؛ إذ تعني كلمة تشاندرايان "مركبة القمر" حرفياً في اللغة السنسكريتية. تستمد أجزاء أخرى من المهمة أسماءها من نواحٍ أخرى من الثقافة والتاريخ الهنديين؛ إذ سُمّيت مركبة فيكرام (Vikram) الهابطة في مهمة تشاندرايان-3 تكريماً لأحد رواد منظّمة أبحاث الفضاء الهندية (ISRO)، وتستمد مركبة براغيان (Pragyan) الجوالة اسمها من كلمة سنسكريتية تعني "الحكمة".
يعود هذا التقليد في إطلاق أسماء على المركبات الفضائية نسبة لأهدافها بلغة أخرى غير الإنجليزية إلى بداية سباق الفضاء، عندما طبّق الاتحاد السوفييتي السابق نظام التسمية الخاصة به. يعني اسم سبوتنيك (Sputnik)، وهو أول قمر اصطناعي يُطلقه البشر، "الرفيق" أو "التابع" بالمعنى الفلكي. ويعني اسم مهمة فينيرا (Venera)، وهي المهمة السوفيتية إلى كوكب الزهرة، "الزهرة" حرفياً بالروسية. سُميت المحطات الفضائية الروسية بطريقة مشابهة؛ إذ يعني اسم محطة فضاء الأصلية "ساليوت"، التي ركّزت على الأغراض العسكرية إلى حد ما، "التحية" بالروسية، أما المحطتان اللاحقتان، مير (Mir) وسويوز (Soyuz)، "السلام" و"الاتحاد" على الترتيب، فشهدتا فترة الانتقال إلى التعاون الدولي في مدار الأرض.
اقرأ أيضاً: هل أتت الحياة إلى الأرض من الفضاء؟ وكيف يمكن أن يحدث ذلك؟
توجيه المهام 7620
انخرط خبراء وكالة ناسا على وجه الخصوص في جدل طويل حول أسماء المهام والمركبات منذ تأسيس الوكالة. في مذكرة صدرت عام 1963، كتب المدير المساعد لوكالة ناسا آنذاك، روبرت سي سيمنز الابن: "أصبحت المصطلحات المستخدمة للمركبات الفضائية المتعددة داخل المشروع، قبل الإطلاق وبعده، مربكة إلى حد ما. التوصل إلى طريقة موحدة نوعاً ما لتسمية المركبات الفضائية أمر مهم". أصبح توجيه المهام الأول هذا، الذي يحمل رقم 7620، أساس سياسة الوكالة حول تسمية المهام خلال عقود من الزمن.
وتنص المبادئ التوجيهية لهذا التوجيه على انتقاء كلمات بسيطة ولكن فريدة من نوعها لن يُخلط بينها وبين أسماء مشاريع ناسا الأخرى (أو المشاريع الدولية الأخرى)، وإضافة الأرقام في حالة وجود عدّة مركبات فضائية في سلسلة (مثل فوياجر 1 وفوياجر 2). يجب أيضاً تجنّب كل من الاختصارات وكتابة الأسماء بأحرف كبيرة. وفقاً لمسودة توجيهات أصدرتها وكالة ناسا في عام 1960، يجب أن تحمل الأسماء أيضاً "معنى يتوافق مع مهمة الوكالة المتمثلة في الاستكشاف والتحقيق العلمي واستكشاف الفضاء للأغراض السلمية".
جعلت هذه القواعد البسيطة إلى حد ما عملية وصول الأسماء إلى مرحلة المقترح مرنة للغاية. يبتكر فريق العلماء والمهندسين العاملين في المشروع الأفكار بأنفسهم في بعض المهام. نشأ العديد من الأسماء الشهيرة أيضاً من مسابقات المقالات الطلابية، مثل مركبة المريخ سوجورنر (Sojourner) التي سميت نسبة للناشطة في مجال إلغاء العبودية، سوجورنر تروث، ومحطات الترحيل الأرضية في ولاية نيو مكسيكو التي سميت بكلمات من اللغات الأميركية الأصلية مثل "كاسيك" (القائد) و"دانزانتيه" (الراقص)، ومركبة بيرسيفيرنس الأحدث في مهمة المريخ لعام 2020.
سُمي العديد من أقمار ناسا الاصطناعية، مثل تلسكوب هابل الفضائي (Hubble Space Telescope) وتلسكوب نانسي غريس رومان الفضائي (Nancy Grace Roman Space Telescope) ومسبار باركر الشمسي (Parker Solar Probe)، نسبة لأشخاص، ولا سيما العلماء والرواد في علم الفلك. مع ذلك، قُدّم في السنوات القليلة الماضية أول تغيير كبير في السياسة رقم 7620 منذ عقود بسبب الجدل حول تسمية تلسكوب جيمس ويب الفضائي (James Webb Space Telescope). انتقد البعض استخدام اسم مدير كان في منصبه خلال فترة أُقصي فيها الموظفون من الأقليات على نحو متطرف (المعروفة باسم "رعب الخزامى")، وعلى الرغم من أن وكالة ناسا قررت الاحتفاظ بالاسم، فإنها اقترحت في آخر مراجعة للسياسة رقم 7620 تجنّب تسمية المشاريع القادمة نسبة للأفراد.
اقرأ أيضاً: تجارب سلطان النيادي في الفضاء: كيف يمكن أن تفيد البشرية؟
تعكس الأسماء ثقافة المجتمع وبرنامج استكشاف الفضاء الخاص به وقيمهما وأبطالهما وأولوياتهما. يجسّد مشروع مثل لانيويه مشاعر الحماس المرتبطة بالعودة إلى القمر، ويذكّرنا مشروع مثل مهمة مركبة بيرسيفيرنس الجوالة بأن العلم يتطلّب العزيمة والإصرار. تحيي هذه الأسماء أهداف المهمة وأحلام القائمين عليها، وتتمتع بدلالات لتضع بصمة في تاريخ استكشاف الفضاء.
نتقدم بالشكر إلى نانيت سميث وستيفن غاربر من قسم التاريخ في وكالة ناسا على إرشاداتهما المفيدة في العثور على مذكرات السياسات التاريخية ووثائقها.