ماذا لو اضطر البشر يوماً إلى مغادرة كوكب الأرض؟ هل هو احتمال بعيد حقاً؟ في الواقع، إن إزالة الغابات وتغيير الغلاف الجوي للأرض نتيجة إضافة الكثير من ثاني أوكسيد الكربون والميثان وغازات الدفيئة الأخرى، قد أدى إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب، وهو أمر قد يستمر بالتفاقم إلى حد يجعل هذا الوطن الجميل غير صالح للعيش مستقبلاً. ناهيك عن ذكر الأخطار الأخرى التي قد تدفع البشر يوماً لمغادرة الأرض، مثل الاصطدام بنيزك ما أو كارثة طبيعية هائلة أو غيرها.
لنعد إلى السؤال المطروح، لو اضطررنا إلى مغادرة كوكب الأرض فأين يمكن أن نذهب؟ من بين أكثر من 10 مليارات كوكب في مجرة درب التبانة فقط، ما الكوكب الذي يمكن العيش عليه بخلاف الكوكب الأزرق؟ هل هذا الكوكب موجود داخل المجموعة الشمسية أم خارجها؟
اقرأ أيضاً: ما أطول زمن قضاه الإنسان في الفضاء وما التحديات التي واجهته؟
ما الذي يجعل كوكباً ما صالحاً للحياة؟
يمكن تعريف الكوكب الصالح للسكن (للحياة) (Habitable Planet) بأنه الكوكب الذي يمكن أن يحافظ على الحياة لفترة طويلة من الزمن، وبناء على نظامنا الشمسي، يتطلب ذلك توافراً للمياه السائلة والطاقة والمغذيات. بشكل عام، تعتمد قدرة كوكب ما على استضافة الحياة على أراضيه على شبكة معقدة من التفاعلات بين هذا الكوكب والكواكب الأخرى الموجودة في النظام الشمسي من جهة، وعلى التفاعل مع النجم الذي يدور حوله من جهة أخرى. لتوضيح ما سبق، يمكن القول إن الشروط المطلوبة لأن يكون الكوكب صالحاً للسكن هي:
- أن يتواجد الكوكب في المنطقة المسماة "المنطقة الصالحة للحياة" (Habitable Zone)، وهي المنطقة المحيطة بالنجم التي تسمح بأن يتلقى الكوكب كمية مثالية من الحرارة للحفاظ على الماء الموجود على سطحه بشكله السائل؛ بحيث لا يكون قريباً جداً من نجمه، فتكون درجة حرارته مرتفعة جداً ويتبخر الماء، ولا بعيداً جداً عن نجمه، فتكون درجات حرارته منخفضة جداً ويتجمد الماء. فالماء هو العامل الأكثر أهمية للحياة، فهو جزيء قطبي فعّال للغاية، ومذيب ممتاز وميسر لكيمياء الحياة المعقدة.
- ألا يكون النجم الذي يدور حوله الكوكب كبيراً جداً، فيكون عمره قصيراً جداً بشكل لا يسمح للحياة بأن تتطور لفترات طويلة، ويصدِر الكثير من الأشعة فوق البنفسجية القاتلة، وألا يكون صغير الكتلة جداً، فينتج إشعاعاً ضعيفاً جداً لاستدامة الحياة.
- أن يكون الكوكب ذا معدل دوران معقول لتجنب ارتفاع درجة حرارة سطحه.
- أن يمتلك مداراً دائرياً تقريباً بحيث تكون الظروف ثابتة تقريباً طوال العام.
- أن يكون الكوكب ضخماً بما يكفي ليحتوي على غلاف جوي كافٍ، يسيطر عليه النيتروجين والأوكسجين، لكن بشرط ألا يكون ضخماً جداً على نحو يحتفظ بالكثير من الهيدروجين والهيليوم مثل المشتري، وألا يكون صغير جداً على نحو يحتفظ بالغازات ثقيلة النوى مثل الأرغون كما هو الحال مع كوكب المريخ.
- أن يكون بعيداً بما يكفي عن الكواكب الضخمة بحيث لا تقوم بتحويل مسار الكويكبات إليه فتضربه باستمرار، ولا تسبب اضطراباً قوياً في مداره. ومع ذلك، قد يكون من الضروري أن يتواجد كوكب ضخم خارج مداره مثل كوكب المشتري بالنسبة للأرض، حيث تساعد جاذبيته الكبيرة على تحويل مسار الكويكبات المدمرة المحتملة بعيداً عن الأرض. بالإضافة إلى العديد من العوامل الأخرى، مثل وجود حقل مغناطيسي للكوكب، ولب منصهر، وصفائح تكتونية تسمح حركتها بتدوير المعادن وغيرها.
اقرأ أيضاً: حجر نيزكي عمره 4.5 مليار سنة قد يحل لغز أصل الماء على الأرض
هل يوجد كوكب صالح للسكن داخل المجموعة الشمسية؟
قد تبدو تلك الشروط تعجيزية، لكنها سبق وأن ضُبطت مرة واحدة، على الأقل. لذلك، دعونا لا نبحث في مكان بعيد، فها هي الشمس التي تدعم الحياة على كوكب الأرض موجودة وهي بالحجم المناسب تماماً، فلمَ لا نبحث عن كوكب أو قمر يدور في المنطقة الصالحة للسكن حولها. في الواقع، إن الكواكب التي تقع في المنطقة الصالحة للسكن من الشمس هي الزهرة والأرض والمريخ. وإليك احتمالات النجاة على كل منها.
الزهرة
يقع كوكب الزهرة تقنياً في المنطقة الصالحة للسكن من الشمس، لكنه على الحافة الداخلية الساخنة منها. ويُسمى توأم الأرض، لأنهما متشابهان في الحجم والكتلة والتركيب والجاذبية، لكنه أصغر قليلاً، حيث تبلغ كتلته نحو 80% من كتلة الأرض.
وعلى الرغم من أنه يدور في المنطقة التي يمكن أن تتواجد فيها المياه سائلة على الكوكب، فهو غير صالح لحياة البشر أبداً. لماذا؟ لأنه أسخن بـ 100 مرة من الأرض، وذو غلاف جوي كثيف جداً يتكون بشكل أساسي من ثاني أوكسيد الكربون مع سحب من حامض الكبريتيك وكميات قليلة فقط من بخار الماء. يحبس هذا الغلاف الجوي الكثيف الحرارة في نسخة متطرفة من ظاهرة الاحتباس الحراري التي نراها على الأرض، ونتيجة لذلك تصل درجة الحرارة على كوكب الزهرة إلى نحو 471 درجة مئوية، وهي درجة لا تكفي فقط لتبخير أي ماء سائل قد يتواجد على سطحه، بل تكفي لإذابة الرصاص.
كما أنه غلافه الجوي ثقيل جداً لدرجة أن الضغط الجوي على سطحه يزيد على ضغط الأرض الجوي بنحو 90 مرة، بالإضافة إلى أنه لا يحتوي على مجال مغناطيسي يحمي من العواصف الشمسية. يمكن القول إن كوكب الزهرة غير مضياف بشكل خاص بالنسبة للبشر، بل إن حتى المركبات الفضائية لا تستطيع النجاة على سطحه، فأطول مدة قضتها مركبة فضائية على سطحه قبل أن تسحق كانت أقل من ساعتين فقط.
المريخ
يقع المريخ داخل المنطقة الصالحة للسكن حول الشمس، لكنه يقع على الحافة الباردة البعيدة منها. وهو مكان بارد جداً، يبلغ متوسط درجات الحرارة فيه نحو -60 درجة مئوية، كما أن غلافه الجوي رقيق جد ولا يمثل ضغطه سوى 1% من ضغط الغلاف الجوي للأرض، ويكاد لا يحتوي على أوكسجين، كما لا يحتوي على ماء سائل، وجاذبيته أقل بكثير من جاذبية الأرض. ومع ذلك، حتى نكون قادرين على العيش في المريخ لدينا خياران هما:
اقرأ أيضاً: كم من الوقت يستغرق الوصول إلى المريخ؟ وهل يمكن لكل البشر السفر إليه؟
إعادة تأهيل كوكب المريخ
الخيار الأول هو أن نمتلك القدرة على تغيير جو الكوكب عن طريق إنشاء بيئة شبيهة بالأرض أو بيئة صالحة للسكن، وتسمى هندسة الكواكب هذه بـ "الاستصلاح" أو "إعادة تأهيل كوكب ما" (Terraforming)، فهل هذا ممكن؟
في الواقع، يعد المريخ بشكل عام أحد أكثر الكواكب الواعدة بالاستصلاح. ومع ذلك، وبالإضافة إلى أن غلافه الجوي مصنوع في الغالب من ثاني أوكسيد الكربون، فهو رقيق جداً كما ذكرنا، بالتالي فهو لا يضغط على الكوكب بالوزن نفسه الذي يضغطه الغلاف الجوي الأرضي على الأرض، وهذا الضغط من الغلاف الجوي هو ما يبقي الماء على الأرض بشكله السائل.
ومن أجل صنع جو يمكننا أن نتنفس فيه وصنع ضغط جوي كافٍ للحفاظ على الماء السائل بحالة مستقرة، لا بُدّ من إطلاق غاز ثاني أوكسيد الكربون وغيره من الغازات إلى الغلاف الجوي لزيادة كثافته على نحو يحبس الحرارة ويدفئ المناخ. لكن وعلى الرغم من أن هذه الأفكار قد تبدو واعدة، فإن نتائج العلماء تشير إلى أنه لا يمكن إجراء إعادة تأهيل المريخ باستخدام التكنولوجيا المتاحة حالياً، وأيّ جهد من هذا القبيل لا بُدّ وأن يكون بعيداً جداً في المستقبل.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن الاستفادة من الرياح المريخية لتأمين الطاقة للبعثات المستقبلية؟
بناء مستعمرة فضائية مريخية
الخيار الثاني والذي قد يكون أسهل هو بناء مستعمرة فضائية اصطناعية كبيرة بما يكفي لاحتواء نظام بيئي كامل يتكون من النباتات والحيوانات وأشكال الحيوانات الأخرى. فهل هذا ممكن؟ في الواقع، يمكن للبشر الحياة على المريخ في حال وجود التكنولوجيا الصحيحة، مثل أسطول المركبات الذي يستطيع نقل المسافرين إلى المريخ مع حمايتهم من الرياح الشمسية والأشعة الكونية، ومع وجود خطط جيدة للتزود بالوقود اللازم للرحلة، وغيرها من التكنولوجيا المعقدة.
مثل توافر أماكن المعيشة والعمل التي قد تكون في البداية عبارة عن ملاجئ مضغوطة خفيفة الوزن قابلة للنفخ يمكن نشرها وتغطيتها بتربة المريخ لتعزيز الحماية من الإشعاع، بحيث يستطيع الناس التنفس والحياة داخلها مثلما هو الحال في محطة الفضاء الدولية، ومع الوقت، يمكن إضافة العديد من الوحدات الأخرى لإعطاء البشر مساحة أكبر للتنقل والاختلاط.
لكن وقبل أن يتمكن البشر من قضاء سنوات على الكوكب الأحمر يجب أن يخترعوا مجموعة من الآلات الجديدة اللازمة لنقلهم إلى هناك، بالإضافة الى العديد من الاختراعات التكنولوجية الأكثر جدية التي تسمح لمستوطني المريخ بأن يصبحوا مكتفين ذاتياً، مثل معدات استخراج الماء من الجليد تحت السطحي، واستخراج الأوكسجين من ثاني أوكسيد الكربون الموجود الغلاف الجوي الرقيق للمريخ، ونشر حقول كبيرة من الألواح الشمسية اللازمة لالتقاط ما يكفي من أشعة الشمس لتوليد الكهرباء من أجل الطاقة والتدفئة.
في الواقع، قد يستغرق الأمر عدة عقود لإنشاء مستعمرة عاملة على سطح المريخ، وحتى ولو أصبحت مكتفية ذاتياً، فستظل هذه المستعمرات تعتمد على الإمدادات والمعدات من الأرض، وهذا يعني أنها لن تستطيع فعل الكثير بمفردها. بالإضافة إلى ذلك، لا بًدّ من وجود نظام ما داخل المستوطنة يساعد في التغلب على جاذبية المريخ الضعيفة، فالمريخ كوكب صغير، تبلغ جاذبيته ثُلث جاذبية الأرض، وهذا ما سيؤثر في عمل العضلات والعظام والقلب وغيرها.
يُذكر أن الملياردير إيلون ماسك مؤسس شركة سبيس إكس (Space X)، يخطط لإنشاء مستوطنة بشرية على سطح المريخ تحتوي على مليون شخص بحلول الستينيات من هذا القرن، ولكن متوسط تكلفة الرحلة إلى هناك تُقدر بنحو 200 ألف دولار. لذلك، ما علينا نحن سوى الانتظار والمشاهدة.
اقرأ أيضاً: هل احتوى المريخ على أشكال الحياة الميكروبية قديماً؟
هل من كوكب صالح للحياة خارج المجموعة الشمسية؟
ليس من الضرورة أن يكون الأقرب هو الأفضل، فقد اكتشف العلماء أكثر من 4000 كوكب خارجي (Exoplanet) حتى الآن، وهي كواكب تدور حول نجوم خارج النظام الشمسي، حيث رصد تلسكوب كيبلر الفضائي التابع لناسا أكثر من نصف هذه الكواكب، وهو تلسكوب أُطلق عام 2009 في مهمة لتحديد مدى انتشار الكواكب الشبيهة بالأرض في جميع أنحاء مجرة درب التبانة.
لكن وعلى الرغم من أن معظم هذه الكواكب لا تفضي بشكل خاص إلى الحياة، فمنها ما هو ساخن جداً ومنها ما هو بارد جداً، فإن منها ما يقع ضمن المنطقة الصالحة للسكن بالنسبة لنجومها. من بين آلاف الكواكب هذه، استطاع بعض الباحثين تحديد 24 كوكباً، وذكروها في دراسة منشورة في دورية البيولوجيا الفلكية (Astrobiology) عام 2020، وهي كواكب لا يُرجَّح فقط أن تكون في المنطقة الصالحة للسكن من نجومها، بل إنها قد تتمتع بميزات أخرى تجعلها مكاناً مزدهراً للحياة، وقد وصفوها بأنها صالحة جداً للسكن (Superhabitable).
اقرأ أيضاً: اكتشاف كوكب خارجي عملاق ساخن جداً قد يجيب عن الأسئلة المتعلقة بموت النجوم
من بين الـ 24 كوكباً، فإن 9 منها تدور حول النوع المناسب من النجوم، و16 كوكباً منها تقع ضمن النطاق العمري الصحيح، و5 منها تقع في نطاق درجة الحرارة المناسبة، وكوكب واحد فقط (KOI 5715.01) وقع في النطاق الصحيح لجميع الفئات الثلاث.
لكن، جميع الكواكب الـ 24 المحتملة تقع على مسافة أبعد من 100 سنة ضوئية من كوكب الأرض (1 سنة ضوئية = 9,4 تريليون كيلومتر) وهذا ما يجعلها بعيدة جداً من أن يستطيع علماء الفلك فحصها عن كثب بحثاً عن إمكانية الحياة عليها في أي وقت قريب، وبعيدة جداً من أن يستطيع البشر الوصول إليها باستخدام تكنولوجيا السفر المستخدمة حالياً.
ختاماً، يمكن القول إن الكوكب الصالح للسكن الذي يستطيع البشر الحياة عليه بخلاف الأرض ما زال بعيداً عن متناول أيدي البشر، وإلى أن يحين الوقت الذي نستطيع فيه أن نعيش على المريخ أو أن نسافر إلى مكان آخر خارج المجموعة الشمسية، فربما نكون قد توصلنا إلى الطرق الصحيحة لتقليل أضرارنا وآثارنا السلبية على كوكب الأرض، الكوكب الوحيد الذي يتحملنا حالياً.