لا تمثّل الثورانات البركانية تهديداً كبيراً للتضاريس المريخية، ولكن من المحتمل أن الحمم البركانية كانت تغطي منطقة بحجم ولاية ألاسكا فيه منذ فترة لا تزيد على مليون عام. هذا ما توصّلت إليه دراسة جديدة نُشرت بتاريخ 15 ديسمبر/كانون الأول 2023 في مجلة الأبحاث الجيوفيزيائية: الكواكب (Journal of Geophysical Research: Planets) تبيّن أن وجود الشقوق البركانية الكبيرة تسبب بفيضانات كبيرة. من المحتمل أن التفاعلات الناجمة عن اختلاط الحمم والماء من الفيضانات شكّلت وسطاً قد يكون ملائماً لإيواء الحياة.
هل المريخ ميت جيولوجياً فعلاً؟
يتمتّع كوكب الأرض بصفائح تكتونية نشطة للغاية، وتغيِّر هذه القطع المتحركة باستمرار من القشرة الأرضية شكل سطح كوكبنا. اعتقد العلماء منذ زمن طويل أن كوكب المريخ ميت جيولوجيا لأنه يفتقر إلى الصفائح التكتونية، ولأن النشاط البركاني لم يُرصد فيه من قبل. مع ذلك، دفع بعض الاكتشافات الحديثة العلماء للشك في الفكرة التي تنص على أن المريخ كان ميتاً جيولوجياً دائماً، ومنها الأدلة التي تبين أنه في الماضي الحديث نسبياً للكوكب، تسبب وجود عمود وشاح عملاق أسفل منطقة سهل إليسيوم المنخفض بنشاط زلزالي وبركاني شديد للغاية. تحتوي منطقة سهل إليسيوم المنخفض على التضاريس الأحدث في المريخ، ما يعني أن دراستها تساعد العلماء على فهم ماضي هذا الكوكب بعمق أكبر، والأحداث الهيدرولوجية والبركانية أيضاً.
درس فريق من جامعة أريزونا وجامعة ألاسكا فيربانكس في هذه الدراسة الجديدة الصور التي التقطتها مركبة ريكونيسينس المدارية المريخية التابعة لوكالة ناسا والقياسات التي أجراها أحد الرادارات المخترقة للأرض لإنشاء نموذج ثلاثي الأبعاد لتدفق الحمم البركانية التي تمكّن أفراد الفريق من اكتشاف أدلة عليها في سهل إليسيوم المنخفض. كشف هذا المسح عن أكثر من 40 من الأحداث البركانية في الماضي القريب للكوكب. كما تبيَّن أنه من المحتمل أن أحد أكبر التدفقات ملأ وادياً مريخياً يحمل اسم "وادي أثاباسكا" بنحو 4168 كيلومتراً مكعباً من البازلت.
اقرأ أيضاً: هل تريد السفر إلى المريخ؟ إليك كم تستغرق الرحلة
قالت عالمة جيولوجيا الكواكب والمؤلفة المشاركة للدراسة الجديدة، جوانا فويت، في بيان صحفي: "كان سهل إليسيوم المنخفض نشطاً بركانياً أكثر مما كان يُعتقد سابقاً، وربما ما يزال كذلك حتى اليوم". أجرت فويت هذا البحث ضمن رسالة درجة الدكتوراة في جامعة أريزونا، وهي الآن باحثة في مرحلة ما بعد الدكتوراة في مختبر الدفع النفاث التابع لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.
زوّدت الزلازل المريخية التي وثقتها مركبة إنسايت (InSight) الهابطة التابعة لوكالة ناسا بين عامي 2018 و2022 الفريق في هذه الدراسة بأدلة إضافية تبين أن الكوكب الأحمر ليس ميتاً تماماً تحت سطحه.
قال عالم جيولوجيا الكواكب في جامعة أريزونا والمؤلف المشارك للدراسة، كريستوفر هاملتون، في بيان صحفي: "تمثّل دراستنا الوصف الأشمل للنشاط البركاني الحديث جيولوجياً على كوكب آخر غير الأرض. وهي تتضمن أفضل تقدير للنشاط البركاني الحديث العهد على كوكب المريخ يمتد عبر الـ 120 مليون سنة الماضية، وهي فترة تقابل تلك الممتدة منذ أن كانت الديناصورات تجوب الأرض في ذروة هيمنتها على الكوكب حتى الوقت الحاضر".
اقرأ أيضاً: كم من الوقت يستغرق الوصول إلى المريخ؟ وهل يمكن لكل البشر السفر إليه؟
ما علاقة البخار باكتشاف الأدلة على الحياة؟
نتائج هذه الدراسة لها تبعات على الأبحاث المستقبلية المتعلقة بتحديد إن احتوى المريخ على الحياة في مرحلة ما من تاريخه. يحتوي سهل إليسيوم المنخفض على آثار للعديد من الفيضانات الكبيرة، ومن المحتمل أن التفاعل بين الحمم البركانية المتدفقة ومياه الفيضانات أو الجليد غيّر شكل التضاريس على نحو بليغ. اكتشف الفريق أدلة تبين حدوث انفجارات البخار عبر سهل إليسيوم المنخفض. هذا النوع من التفاعلات مثير للاهتمام بالنسبة لعلماء البيولوجيا الفلكية، وذلك لأنها ربما شكّلت بيئات حرارية مائية ملائمة لتشكّل الحياة الميكروبية.
استخدم الفريق الصور التي التقطتها كاميرا السياق (Context camera) في مركبة ريكونيسينس المريخية وصوراً أخرى من كاميرا التجارب العلمية للتصوير العالي الدقة (HiRISE) في المركبة نفسها لمناطق محددة، وذلك لإلقاء نظرة أكثر تفصيلاً على سهل إليسيوم المنخفض. كما استخدموا سجلات البيانات التي جمعها مقياس الارتفاع الليزري المداري المريخي على متن مسبار ماسح المريخ العالمي (Mars Global Surveyor) التابع لوكالة ناسا. بعد ذلك، درس الباحثون هذه الصور وبيانات المسح التي جمعها مسبار الرادار الضحل (Shallow Radar) التابع لوكالة ناسا.
اقرأ أيضاً: بيرسيفيرنس تجمع أول عينة من صخور المريخ تمهيداً لإرسالها إلى الأرض
قالت فويت: "تمكنا باستخدام مسبار الرادار الضحل من رصد مناطق يبلغ عمقها 140 متراً تحت سطح المريخ. وأتاح لنا الجمع بين مجموعات البيانات إعادة إنشاء نموذج ثلاثي الأبعاد للمنطقة المدروسة ولشكل تضاريسها الطبيعية كما كان قبل أن تندلع الحمم البركانية من الشقوق العديدة وتملأ الأحواض والقنوات التي شكّلتها المياه الجارية سابقاً".
تساعد إعادة الإنشاء التفصيلية لهذه الخصائص الجيولوجية المريخية العلماء على التوصل إلى فهم أولي للعمليات التي حدثت في ماضي الكوكب وأثرت فيه. فهم العلاقة بين براكين الكوكب وقشرته بالغ الأهمية في إعادة إنشاء الظروف البيئية القديمة للكوكب. يمكن أن تتسبب الثورانات البركانية بإطلاق كميات كبيرة من المياه الجوفية إلى السطح، بالإضافة إلى أنها تتسبب بقذف الماء من الحمم تجاه الغلاف الجوي وتجمُّده على سطح الكوكب.
يخطط الفريق لمواصلة دراسة مجموعات البيانات المعقدة التي جمعتها أدوات التصوير المختلفة للتوصل إلى نماذج أكثر تفصيلاً عن سطح المريخ وما تحته.
وفقاً لفويت، أسطح تدفق الحمم البركانية هي "تضاريس تحتوي على كم هائل من المعلومات المتعلقة بتشكّلها، وما علينا سوى دراستها. أعتقد أن هذه المناطق التي كانت تعد عديمة الملامح ومملة، مثل سهل إليسيوم المنخفض، تحتوي على الكثير من الأسرار التي يمكننا اكتشافها".