ملخص: لطالما اعتقدنا أن القمر لا يحتوي على غلاف جوي بسبب جاذبيته الضعيفة التي لا تمكنه من الاحتفاظ به، لكن رواد رحلة أبولو اكتشفوا وجود هالة تحيط به تتجدد باستمرار. ومؤخراً، تناولت دراسة حديثة مجموعة من العناصر القلوية، كالليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم والروبيديوم والسيزيوم، التي كان وجودها مفاجئاً في الغلاف الجوي القمري، بسبب تفاعليتها الشديدة على الأرض، لكن لا يحتوي القمر على الماء السائل، وهو وسط جيد لتفاعلها، ما يتيح لهذه المعادن البقاء في شكلها العنصري، كما أنها تستطيع الانتقال مسافات طويلة بحرية دون الاصطدام ببعضها لأن عدد الذرات في الغلاف الجوي القمري منخفض للغاية. يطلقها سطح القمر -الذي تكوّن فيه هذه العناصر روابط مستقرة مع الأوكسجين- بشكلها العنصري غير المشحون لتصل غلافه، وتعتمد الآلية التي تصل فيها هذه العناصر إلى الغلاف الجوي القمري على ثلاث عمليات تسمى مجتمعة "التجوية الفضائية" وهي اصطدام النيازك المجهرية، والرش بالأيونات، والانتزاز المحفَز بالفوتونات.
تعلمنا عن القمر في المدرسة أن جاذبيته غير كافية لتشكيل غلاف جوي ملحوظ والحفاظ عليه. مع ذلك، تحيط بالقمر هالة رقيقة قصيرة الأجل من الغازات، وهي غلافه الخارجي.
اكتشف العلماء هذه الحقيقة المذهلة أول مرة من خلال الأدوات التي استخدمها رواد الفضاء الذين سافروا إلى القمر في برنامج أبولو الفضائي. يطرح القمر الذرات المكونة لغلافه الخارجي في الفضاء باستمرار بسبب جاذبيته الضعيفة، أي أن الوجود المستمر لهذا الغلاف يعني أن إمدادات هذه الذرات تتجدد باستمرار.
تتناول دراسة جديدة نشرتها مجلة ساينس أدفانسز (Science Advances) بتاريخ 2 أغسطس/آب 2024 آليات التجدّد هذه. نظر مؤلفو الدراسة في مجموعة من العناصر التي قد يفاجئ وجودها في الغلاف الجوي القمري أي شخص درس الكيمياء، وهي المعادن القلوية.
اقرأ أيضاً: هل يمكن للبشر العيش في أنفاق القمر يوماً ما؟
وجود مفاجئ للمعادن القلوية في الغلاف الجوي القمري
المعادن القلوية هي المجموعة الأولى من الجدول الدوري، وهي تشمل الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم والروبيديوم والسيزيوم (إلى جانب الفرانسيوم الذي لا يوجد بكميات كبيرة لأنه مشع للغاية). لماذا وجود هذه العناصر مفاجئ؟ تشتهر هذه العناصر بتفاعليتها في الأرض، كما تبين التجارب التقليدية التي يجريها طلاب المدارس الثانوية، التي توضح ما يحدث عند صب الماء على قطعة من الصوديوم. لكن في القمر، سلوك هذه العناصر مختلف تماماً.
قالت المؤلفة الرئيسية للدراسة، البروفيسورة نيكول ني لبوبيولار ساينس: "ترتبط المعادن القلوية بالمعادن في تربة القمر وصخوره، وتشكل روابط كيميائية مستقرة مع الأوكسجين وبعض العناصر الأخرى. لكن تتحول هذه العناصر إلى ذرات غير مشحونة عندما يطلقها السطح. لا يحتوي [القمر] على الماء السائل ولا يتمتع بغلاف جوي ملحوظ، ما يتيح لهذه المعادن البقاء في شكلها العنصري، كما أنها تستطيع الانتقال مسافات طويلة بحرية دون الاصطدام ببعضها لأن عدد الذرات في الغلاف الجوي القمري منخفض للغاية".
كيف تنطلق الذرات من سطح القمر إلى غلافه الجوي؟
لكن يثير ذلك تساؤلاً حول آلية إطلاق الذرات من السطح في المقام الأول. هدف مؤلفو الدراسة الجديدة إلى الإجابة عن هذا السؤال، وتحديد الإسهامات النسبية لثلاث عمليات تحمل مجتمعة اسم "التجوية الفضائية" على وجه الخصوص. العامل المشترك بين هذه العمليات هو أنها تتضمن اصطدام جسم ما بسطح القمر وطرد العناصر المعدنية القلوية من المركبات المعدنية التي ترتبط بها. (تطرد هذه العمليات أيضاً عناصر أخرى، ولكن طرد المعادن القلوية سهل بصورة خاصة لأنها تطايرية).
أولى هذه العمليات هي اصطدامات النيازك المجهرية، التي تتساقط وفقها قطع صغيرة من الحطام الفضائي بقوة شديدة بما يكفي لتبخير جزء صغير من السطح وإطلاق ذراته إلى مدار حول القمر. الطريقة الثانية هي الرش بالأيونات، التي تضرب وفقها الجسيمات المشحونة التي تحركها الرياح الشمسية سطح القمر. أخيراً، الطريقة الثالثة هي الانتزاز المحفّز بالفوتونات، التي تطرد وفقها الفوتونات المرتفعة الطاقة التي تصدرها الشمس المعادن القلوية من المواد المرتبطة بها.
تشير الورقة البحثية الجديدة إلى أنه على الرغم من أن العلماء وصفوا العمليات الثلاث بالتفصيل من قبل، فإن الأبحاث السابقة "لم تتمكن من تحديد الإسهام [النسبي] لكل طريقة على نحو قطعي" في تشكيل الغلاف الجوي القمري. عادت ني وزملاؤها إلى المصدر الأولي للسؤال لتحديد هذه الإسهامات، وهو برنامج أبولو. أعادت المهمات المأهولة المختلفة إلى القمر في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات ما مجموعه 382 كيلوغراماً من عينات التربة القمرية إلى الأرض، وما يزال الباحثون يكتشفون أسراراً جديدة في هذه العينات بعد عقود من الزمن. تضمنت الدراسة الجديدة فحص 10 عينات من 5 مهمات مختلفة في برنامج أبولو، من ضمنها عدة عينات أعادتها مهمة أبولو 8، التي هبط فيها البشر على القمر أول مرة.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تبيّن أن القمر أقدم بنحو 40 مليون سنة مما اعتقد العلماء
استخدم الفريق هذه العينات لفحص نسب النظائر المختلفة للبوتاسيوم والروبيديوم في التربة ومقارنتها. (يمتلك كل من الصوديوم والسيزيوم نظيراً مستقراً واحداً فقط، بينما الليثيوم أقل تطايراً من العناصر الأخرى الأثقل). قالت ني لبوبيولار ساينس: "تتسبب هذه العمليات بإطلاق النظائر الأخف وزناً للعناصر غالباً، ما يمنح التربة القمرية تركيبة كيميائية ذات نظائر أثقل نسبياً. أما بالنسبة لعملية التجوية الفضائية، فنحن نتوقع أنها تمنح التربة القمرية تركيبات ذات نظائر ثقيلة، وذلك مقارنة بالصخور العميقة التي لا تتأثر بهذه العملية".
تنتج عمليات التجوية الفضائية المختلفة نسباً مختلفة من النظائر، وتشير النتائج التي توصل إليها فريق الدراسة إلى أن اصطدامات النيازك المجهرية تتمتع بالإسهام الأكبر في تشكيل الغلاف الجوي القمري؛ "إذ من المرجح أنها تسهم بأكثر من 65% من ذرات [البوتاسيوم] الجوية، بينما تسهم عملية الرش بالأيونات بالنسبة المتبقية".
تقدّم هذه النتائج رؤى مفيدة حول آلية تطور الغلاف الجوي القمري على مدى مليارات السنين؛ إذ إنها تشير إلى أن اصطدامات النيازك المجهرية تؤدي الدور الأكبر في التجدّد المستمر للغلاف الجوي على المدى الطويل على الرغم من أن التركيب الكيميائي لهذا الأخير قد يختلف للغاية على مدى فترات أقصر. تشير الدراسة أيضاً إلى إمكانية إجراء أبحاث مشابهة على أجسام أخرى تشبه للقمر، مثل فوبوس، أحد قمريّ كوكب المريخ.