عندما نفكر في التنين، لا يزال الخيال البشري يراه بنفس الطريقة منذ قرون. سواء كان تنين لونج المعروف في علم التنجيم الصيني أو تنين فافنير في أساطير الفايكينج أو تنين سموغ الخيالي في رواية الهوبيت لمؤلفها جي آر تولكين وحتى تنانين سلسلة "صراع العروش"، بالكاد يتغير مظهر التنين المتوحش الذي ينفث النار والقادر على الطيران. ما يقودنا إلى التساؤل هل اكتشف مؤلفو هذه القصص شيئاً ما لا نعرفه؟
أتاح لنا مسلسل "آل التنين" (House of the Dragon) الجديد الذي يُبث على شبكة "إتش بي أو" مبرراً للطلب من بعض خبراء الزواحف والديناصورات مشاركتنا تفسيراتهم العلمية حول وحوش النار السحرية هذه.
تبدو التنانين في مسلس "آل التنين" مملة جداً بالنسبة لي. إنها نفس التنانين الغربية النموذجية التي ألّفناها جميعاً، وجميعها تقريباً بنفس الشكل وتبدو كأنها من نفس النوع، ولا تختلف إلا عن بعضها بعضاً إلا بقدر ما يختلف تنينا كومودو عن بعضهما. كنت آمل أن أرى في عرضٍ ضم 17 تنيناً بعضاً من الأشكال الأخرى التي اتخذتها التنانين في الأساطير والموروث الشعبي، مثل التنانين متعددة الرؤوس أو التنين الضخم الذي لا يمتلك أجنحة أو أطرافاً أو تنين شرقي على غرار التنين الصيني الذي يمتلك قروناً وزعانف تشبه زعانف السمك.
هل الديناصورات حقيقية؟
في مسلسلات "صراع العروش" و"عهد النار" و"قلب التنين"، تشتمل سمات التنين الواضحة على الحجم الهائل والأجنحة الجلدية والقدرة على نفث النار. بعض هذه السمات واقعية أكثر من غيرها. كانت الزواحف العملاقة قادرة على الطيران والسفر بين القارات، مثل كويتزالكوتلس الذي كان زاحفاً مجنحاً (تيروصور) ويبلغ طول جناحيه نحو 10 أمتار. هذا مثير للإعجاب بالفعل، خصوصاً عندما تعلم أن هذا الطائر كان بنفس طول الزرافة على الأرض. كما استخدم كويتزالكوتلس أجنحة مكونة من غشاء مرن ممتد حتى إصبع رابع طويل بشكل غريب، وبذلك فإنه يشبه كثيراً التنين التقليدي. بالطبع، كان كويتزالكوتلس خفيف الوزن كثيراً بالنسبة لحجمه- نحو 90 كيلوغراماً فقط- ما يعني أن التنانين في مسلسل "آل التنين" تبدو ضخمة قليلاً بحيث لا يمكنها الطيران في الهواء. عظام التيروصورات رقيقة جداً، ومن المرجح أنها كانت أكثر هشاشة من عظام التنانين القوية التي ظهرت على شاشاتنا في العروض التلفزيونية.
نفث النار موضوع شائك أكثر. نعلم أن بإمكان بعض الحشرات، مثل خنفساء بومباردييه، إفراز وإطلاق مواد كيميائية تتحد مع بعضها وتسبب حروقاً لمهاجميها. ربما سلكت التنانين البدائية مساراً تطورياً مكنها فيما بعد من الجمع بين مواد معينة في جسمها لإنشاء مادة حارقة حتى لو لم تكن كالنار من الناحية الفنية. في الواقع، تنتج العديد من الثعابين والسحالي السم، ما دفعني للتساؤل دائماً عما إذا كانت هناك طريقة يصبح السم من خلالها أكثر تأثيراً أو يتخذ طابعاً مختلفاً- طبعاً مع تكيفات مناسبة في الفم والحلق حتى لا تؤذي هذه الزواحف أنفسها. لذلك فإن نفث النار فعلياً هو محض خيال تماماً، وليست هناك طريقة بيولوجية لتطور هذا النوع من النفث المميت.
مع ذلك، لو أراد مصممو مسلسل "آل التنين" البحث عن مصدر للإلهام، فإن سجل الحفريات يوفر الكثير من الخيارات. على سبيل المثال، كانت الموزاصوريات أقرب ما تكون إلى "تنانين البحر". ارتبطت هذه الزواحف البحرية بسحالي الورل، حيث نما بعضها إلى طول 15 متراً أو أكثر، وتمتعت بذيل زعنفي وحراشف انسيابية. وكانت تقتات على الأسماك وحيوانات الأمونيت القشرية، وحتى كانت تأكل بعضها بعضاً خلال العصر الطباشيري (منذ أكثر من 66 مليون سنة). من الحيوانات الشبيهة بالتنين أيضاً السبينوصورس (والذي يتميز بزائدة شراعية شوكية على طول ظهره وخطم يشبه خطم التمساح وقد استخدم ذيله للتجديف) والدينوكيروس (وهي من الحيوانات العاشبة الضخمة التي تتمتع بأذرع عملاقة ذات مخالب كبيرة، ولها حدبة على ظهرها ووجهها يشبه وجه البطة).
في الحقيقة، لقد سُعدت كثيراً لأن التنانين في مسلسل "آل التنين" هي زواحف من الناحية الفنية من حيث أنها تمتلك ساقين وأذرعاً خلفية على شكل أجنحة بدلاً من امتلاكها زوجين من الأطراف بالإضافة إلى زوج إضافي من الأجنحة، لأنها بذلك ستمتلك 6 أطراف، وسيتطلب ذلك نوعاً من التطور ينطوي على تكرار الجينات- كما حدث مع أسلافنا الشبيهين بالأسماك- لتكوين زوج آخر من الزوائد التي ستتحور إلى أجنحة، الأمر الذي لم يحدث مع أي فقاريات. على الرغم من أنها خيالية، فإن تنانين تارجارين تحمل لمسة تطورية أكثر على الرغم من أنها ضخمة جداً وتنفث النار.
ربما كانت التنانين تشبه السحالي كثيراً، والعديد من السحالي يحمل اسم التنين بالفعل. لكنها كانت ستؤدي دور الزواحف والحيوانات المفترسة الأكبر حجماً مثل تنانين كومودو ووَرل النيل، وتقوم بهذه الوظائف في النظام البيئي. ويمكن أن تكون التنانين الأصغر حجماً شبيهة بالبرمائيات، وهكذا، ومع توفر الماء، يمكن لهذه التنانين السباحة واصطياد الأسماك المحلية، وعند جفاف الماء، يمكنها أن تتحول للعيش على الأرض. يمكنني تخيلها وهي تسبح في الماء وتمشي على الأرض.
اقرأ أيضاً: كيف مهد انقراض الديناصورات الطريق للعصر الذهبي للثدييات؟
تطور الزواحف
مثل التنانين، السحالي مثيرة للاهتمام إجمالاً. يعقد الناس أنها تأكل الحشرات فقط، ولكنها يمكن أن تؤدي دوراً مهماً كملقحات. على سبيل المثال، تغوص الإغوانات البحرية التي تعيش في جزر غالاباغوس في المياه لتأكل الأعشاب البحرية، وهناك الإغوانات اللاحمة التي تأكل الطيور والبيض والسحالي الأخرى.
ولدينا في جنوب غرب الولايات المتحدة سحلية يارو الشوكية، والتي تتميز بحراشفها وبنيتها الجميلة التي تشبه بنية التنين. وهناك أيضاً وحش جيلا الذي يتميز بحراشفه المنتفخة وعضته السامة، لذلك من الأفضل عدم الاقتراب منه.
كانت الزواحف البحرية بالتأكيد بمثابة تنانين بحرية تطورت بسرعة في المحيطات في حقبة الحياة الوسيطة (بين 256 و61 مليون سنة مضت). على سبيل المثال، كانت الاكتيوصورات والبلصورات طويلة وقصيرة العنق والموزاصوريات من الحيوانات المفترسة العليا المتنوعة التي امتلكت العديد من التكيفات المورفولوجية للتنقل والتغذية. كانت تنانين البحر هذه سباحاتٍ ماهرة ذات أسنان حادة وأحجام متنوعة وعاشت في بيئات مختلفة، وترواحت أطوالها بين 13 إلى 18 متراً. امتلك بعضها أعضاء عالية التخصص في القطع والسحق والثقب والتحطيم، لذلك كانت جزءاً من شبكات غذائية معقدة لم نرَ لها مثيلاً في النظم البيئية البحرية الحديثة. استخدمت بعض الأنواع ذيولاً متموجة (مفلطحة أو مع نهايات زعنفية) أو زعانف شبيهة بالمجاديف، كان للبعض الآخر أجسام تشبه أجسام الأسماك وزعانف صدرية متخصصة للسباحة والصيد. أما بالنسبة للتكاثر، كانت تنانين البحر تتكاثر بالولادة ولا تضع بيضها على اليابسة.
اقرأ أيضاً: هل كانت الديناصورات أنواعاً اجتماعية؟
لو كانت التنانين حقيقية، فسأتخيل أنها كانت تعيش في نظام بيئي بحري مذهل مثل محيطات العصر الطباشيري القديمة، حيث ستسبح عبر المحيطات القارية التي تعج بمخلوقات ما قبل التاريخ. ولن تكون بحاجة لتنفث النار تحت الماء للدفاع عن نفسها؛ فقد كانت البليوصوريات، على سبيل المثال، تتمتع بأقوى عضة بين الحيوانات، وكان بوسعها أن تبتلع شخصاً بقضمة واحدة فقط.
ستكون التنانين الأسطورية عبارة عن مجموعة متنوعة جداً من الكائنات الحية. وفقاً لمواطنها ونطاق انتشارها، ستكون هناك أنواع متميزة متخصصة في بيئات مختلفة، وسيكون لها تكيفات مورفولوجية مختلفة. على سبيل المثال، ستتمتع الأنواع الأرضية التي تتكيف مع ظروف الصحراء بأجسام مسطحة متلائمة مع الجحور الصخرية. قد تكون الأنواع التي عاشت في الأماكن المرتفعة ذات حجم أصغر وأطراف وذيل أقصر بشكل غير متناسب للتكيف مع الارتفاعات العالية، وقد تكون للأنواع الاستوائية الشجرية مخالب قوية وأطراف وذيول أطول بكثير، بينما سيكون شكل الجسم للأنواع الطائرة منها نحيفاً.
اقرأ أيضاً: تنانين حكمت الأرض والبحار: أشهر الخرافات والحقائق عن الديناصورات
يعتمد ذلك على ما تتصور أنه تنين. لقد عاشت العديد من الحيوانات الشبيهة بالتنين عبر تاريخ الأرض. كان بعضها من الزواحف الضخمة جداً مثل السحالي الكبيرة التي تعيش في نصف الكرة الشرقي اليوم. ومن الواضح أن بعضها الآخر لم يكن من السحالي على الرغم من أننا لا نملك بقايا مادية لإثبات ذلك. ربما استوحى الناس الأفاعي العملاقة الشقيقة- تيرن تيرن وكاي كاي- في أساطير مابوتشي من بقايا عظام الديناصورات الحقيقية في تشيلي والأرجنتين. ولكن من الواضح أن مخلوق "موكيلي مبيمبي" الأسطوري في الكونغو ليس سحلية، ويُفترض أنه أحد أنواع الصربوديات. ولكن ليست لدينا أدلة تتجاوز الموروث الشفوي المتناقل حتى الآن.
لنتذكر أن التنين ترسخ في الأساطير مع تطور البشر. وقد تخيلها الناس كسحالٍ متشابهة السمات والعادات. ولكن ربما لم يكن هناك تنانين كبيرة تطير وتنفث النار من فمها.