كشفت دراسة جديدة نُشِرت في دورية كارنت بيولوجي (Current Biology) في 2 يوليو/تموز 2024 عن سلوك مثير للإعجاب يستخدمه النمل لإنقاذ زملائه المصابين؛ إذ يلجأ إلى إجراء عمليات بتر لأطراف النمل المصاب من أجل تعزيز فرص بقائه على قيد الحياة، ليس هذا فقط، بل إن النمل يحدد قرار البتر من عدمه بناءً على موقع الإصابة، أي أنه يستطيع تمييز أنواع الجروح وتكيّف علاجه وفقاً لذلك. تمثّل هذه الدراسة أول حالة موثّقة لكائنات غير بشرية تلجأ إلى البتر عمداً لمنع العدوى وضمان البقاء. وإليك التفاصيل.
اقرأ أيضاً: الدكتورة نملة: دراسة جديدة تظهر أن النمل قادر على اكتشاف السرطان
دراسة إجراء النمل لعمليات بتر الأطراف
من المعروف أن الجروح المفتوحة تشكّل خطراً كبيراً عند الحيوانات؛ إذ قد تسبب حدوث العدوى والموت، لذلك فإن أنواعاً عديدة من الحيوانات تضع بطريقة أو بأخرى مُركّبات مضادة للميكروبات على هذه الجروح للوقاية من هذه المخاطر.
وفي النمل أيضاً، تشكّل المركبات المضادة للميكروبات التي تُفرز من الغدد الجانبية الخلفية دفاعاً أساسياً ضد مسببات الأمراض، إلّا أن بعض أجناس النمل قد فقَدَ هذه الغدد، مثل جنس النمل الحفار أو النمل النجار (Camponotus)، ما دفع العلماء إلى التساؤل: كيف يدير هذا النوع من النمل مخاطر العدوى دون القدرة على إنتاج إفرازات مضادة للميكروبات؟
في محاولة للإجابة، أجرى الباحثون بقيادة عالم الأحياء، إريك فرانك (Erik Frank) من جامعة لوزان السويسرية (University of Lausanne)، سلسلة من التجارب السلوكية والميكروبيولوجية على نمل النجار الفلوريدي (Camponotus floridanus)، حيث أحدثوا إصابات في أماكن مختلفة من أرجل النمل وراقبوا السلوكيات اللاحقة لرفاق العش، فما الذي لاحظوه؟
النتائج التي توصل إليها الباحثون
وجد الباحثون أن استجابة رفاق العش للنملة المصابة يعتمد على مكان الإصابة؛ فعندما أصيبت نملة عاملة في عظم الفخذ، عمد رفاق إلى بتر الطرف على الفور عن طريق سلسلة من العضات على المفصل الذي يربط عظم الفخذ بالورك، ما حسّن معدل بقاء النملة المصابة على نحو كبير. في المقابل، عندما كانت الإصابة في مكان أبعد عن الفخذ نحو الأسفل، مثل قصبة الساق، لم يبتر رفاق العش الساق، وإنما لجؤوا إلى لعق الجروح فقط.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تكشف قدرة النمل على تمييز الجروح الملوثة وعلاجها
لماذا بتر النمل الرِجل المصابة في الفخذ في حين لم يبترها عند إصابة الساق؟
في الواقع، تبين أن بتر الطرف في حال إصابة عظم الفخذ يؤدي إلى تقليل انتشار العدوى وتحسين فرص البقاء على قيد الحياة، في حين لم يكن الحال هكذا بالنسبة للنمل المصاب في عظم الساق.
ويُعزا ذلك إلى الاختلافات المورفولوجية بين عظم الفخذ والساق؛ حيث أظهرت فحوصات التصوير المقطعي المحوسب الدقيق أن عظم الفخذ يحتوي على كتلة عضلية أكبر وقناة دم ليمفاوية أصغر مقارنة بعظم الساق. لذا، فإن إصابات عظم الفخذ تعطِّل تدفق الدم أكثر من إصابات عظم الساق، ما يمنح النمل العامل وقتاً كافياً لإجراء عمليات البتر قبل انتشار مسببات الأمراض.
بكلمات أخرى، تنتشر مسببات الأمراض على نحو أبطأ في إصابات عظم الفخذ، ما يسمح للبتر بإعطاء نتيجة أفضل، في حين تنتشر مسببات الأمراض بسرعة كبيرة في حال إصابة عظم الساق، بحيث لا يكون البتر فعّالاً ما لم يتم مباشرةً بعد حدوث الإصابة. لكن ينبغي الإشارة إلى أن العلاجات التي يقدّمها رفاق العش للنمل المجروح في عظم الساق تحسّن معدلات بقائه على قيد الحياة إلى حد ما أيضاً.
تثبت هذه الدراسة أن النمل يستطيع التمييز بين أنواع الجروح وتغيير علاجه وفقاً لموقع الإصابة، فالأطراف المصابة لا تُبتر إلّا في حال زاد البتر فرصة بقاء النملة المصابة على قيد الحياة (جرح عظم الفخذ)، وإلّا فإن رفاق العش يلجؤون إلى تقديم جلسات علاج مطوّلة للجروح (جرح قصبة الساق).
اقرأ أيضاً: هل يمكن الاستفادة من سلوك النمل في تصميم روبوتات قادرة على العمل الجماعي؟
يلقي هذا البحث الضوء على السلوكيات الاجتماعية المعقدة وآليات البقاء داخل مستعمرات النمل، حيث يتعاون الأفراد للحفاظ على سلامة المستعمرة وضمان البقاء الجماعي لها. وقد علّق أستاذ جامعة ساسكس (University of Sussex)، فرانسيس راتنيكس (Francis Ratnieks)، على هذه النتائج قائلاً: "إنها مثال آخر على التكيُّف في حياة العمال من الحشرات الاجتماعية، حيث يتعاونون معاً في خدمة مستعمراتهم ومساعدتها".