مثّل الحد من الارتفاع في درجات الحرارة العالمية المتوسطة عند 1.5 درجة مئوية مقارنة بدرجات الحرارة المتوسطة قبل الثورة الصناعية المعيار الذهبي في العمل المناخي منذ إبرام اتفاقية باريس عام 2015 على أقل تقدير. مع ذلك، تشير دراسة علمية جديدة نُشرت في مجلة نيتشر كلايمت تشينج المحكّمة (Nature Climate Change) إلى أن درجات الحرارة المتوسطة تجاوزت هذا الحد في عام 2020 دون أن يكتشف العلماء ذلك. يعني ذلك أن وتيرة الاحترار تجاوزت توقعات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي بعقدين كاملين، وأن الارتفاع في درجات الحرارة العالمية الوسطية سيتجاوز درجتين مئويتين في السنوات القليلة المقبلة.
نتائج مستمدة من دراسة الإسفنجيات البحرية
قد يكون الأكثر إثارة للدهشة من هذه النتائج هو أنها مستمدة من دراسة الإسفنجيّات البحرية. حلّل فريق بحثي بقيادة الأستاذ في معهد المحيطات في جامعة غرب أستراليا، مالكوم ماكولوك الإسفنجيات الصلبة، وهي نوع بدائي من الإسفنجيات ذات اللون البرتقالي عثر العلماء عليه متشبثاً بأسقف الكهوف في أعماق المحيط.
ينمو هذا النوع من الإسفنجيات ببطء شديد؛ إذ يبلغ معدل نموه جزءاً من ملليمتر واحد سنوياً، ويمكن أن يعيش مئات السنين. يمثل طول العمر هذا أحد الأسباب التي تجعل الإسفنجيات الصلبة مصدراً ثميناً بصورة خاصة للبيانات المتعلقة بالمناخ، بالنظر إلى أن فهم العلماء لدرجات حرارة المحيط التي سادت قبل عام 1900 منقوص للغاية.
اقرأ أيضاً: ما هي الحيوانات التي تمكّنت من الصمود خلال الحقبة الجليدية؟
تمكّن فريق ماكولوك من خلال أخذ عيّنات من هذه الإسفنجيات من حساب نسب عنصر السترونشيوم إلى الكالسيوم، التي يمكن استخدامها لاستنباط درجة حرارة الماء التي سادت في القرن الثامن عشر. ربط الباحثون هذه النسب ببيانات درجة حرارة الماء العالمية المتوسطة حالياً حتى يتمكنوا من التوصل إلى المعلومات المفقودة حول بداية فترة الثورة الصناعية، عندما بدأ البشر بإطلاق كميات كبيرة من ثنائي أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
بالنظر إلى مدى التطابق الكبير بين المعلومات المستقاة من دراسة هذه الإسفنجيات وسجلات درجة حرارة المحيط التي تعود إلى العقود الأخيرة، تمكن الباحثون من استنتاج درجة حرارة المحيط المتوسطة في الماضي البعيد وبيّنوا أنها كانت أقل مما يفترض علماء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي.
عيوب في السجلات القديمة لدرجات حرارة المحيطات
لا تقع مسؤولية هذا التباين في التقديرات على علماء هذه الهيئة؛ إذ تعود سجلات درجة حرارة المحيط الحالية إلى خمسينيات القرن التاسع عشر فقط، عندما كان البحارة يرمون الدُليّ من سفنهم لقياس درجة حرارة الماء.
يمكن التشكيك بموثوقية هذه السجلات القديمة بسبب عدد من العوامل، منها غياب الإجراءات الموحّدة والعيوب في مقاييس الحرارة المستعملة في القرن التاسع عشر. بالإضافة إلى أوجه القصور هذه، تعكس القراءات القديمة درجات حرارة سطح الماء فقط، وهي درجات تتفاوت للغاية وتتأثّر بسهولة بالطقس، على عكس درجات حرارة مياه البحر الأعمق. وأيضاً، جُمعت البيانات القديمة فقط على طول طرق الشحن الرئيسية في ذلك الزمن، ما يعني أن جامعيها غطوا أجزاء معينة فقط من النصف الشمالي للكرة الأرضية عبر سنوات عديدة.
مع ذلك، لم يتوافر للعلماء حتى نشر الدراسة الجديدة سوى عدد قليل من الطرق البديلة لتحديد درجة حرارة المحيط العالمية المتوسطة قبل التحول الصناعي الواسع النطاق وتفشي التلوث الكربوني. لهذا السبب، حصر خبراء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي القيمة القاعدية لدرجة الحرارة المتوسطة في فترة ما قبل الثورة الصناعية في الفترة بين عامي 1850 و1900، بعد بداية الثورة الصناعية بزمن طويل.
اقرأ أيضاً: في كوكب يحترّ: كيف تتكيف الحيوانات مع تغيّر درجات الحرارة؟
لماذا تمثل الإسفنجيات مصدرا أكثر موثوقية من السجلات لدراسة حرارة المحيط؟
يمكن أن تكون درجات حرارة المحيط المستقاة من دراسة الإسفنجيات الصلبة في الدراسة الجديدة أكثر موثوقية من السجلات الوثائقية لعدد من الأسباب. فمن إحدى النواحي، تعيش هذه الإسفنجيات في مناطق أعمق بكثير من سطح البحر، فيما يسمى طبقة المحيط المختلطة التي يسودها الاضطراب المستمر الناجم عن الماء والغلاف الجوي. ذكر ماكولوك لموقع غريست أنه يمكن تسجيل درجات حرارة أكثر استقراراً وموثوقية في هذا الجزء من المحيط. وقال: "لا توجد مصادر طبيعية أخرى تتسبب بتفاوت في درجات الحرارة في هذه الطبقة، بخلاف تلك المتعلقة بالغلاف الجوي".
يمكن عزو الفروق المرصودة في درجة الحرارة بسهولة أكبر إلى أنماط الاحترار العالمية لأن الإسفنجيات التي أُخذت عيناتها تعيش في منطقة البحر الكاريبي، حيث لا تؤثر تيارات المحيط الرئيسية مثل دوران انقلاب خط الزوال الأطلسي وتردد إل-نينيو الجنوبي في درجات حرارة المياه. قال ماكولوك عن عينات الدراسة الجديدة: "تعكس هذه العينات علامات الاحترار المحيطي بكفاءة عالية".
لكن ما سبب دراسة الإسفنجيات؟ أجري الكثير من الأبحاث على المرجان؛ إذ أمضى ماكولوك نفسه معظم حياته المهنية في دراسته، لكن المرجان لا يفيد الباحثين في الدراسات حول درجة الحرارة. يقول ماكولوك: "دراسة المرجان معقدة للغاية لأنه يتمتّع بقدرة بيولوجية كبيرة على التحكم بآلية تسجيله لدرجات الحرارة".
لكن من ناحية أخرى، دراسة الإسفنجيات الصلبة أبسط؛ إذ إنها تبني هياكلها من خلال ضخ مياه البحر إلى داخلها ثم خارجها. يقول ماكولوك: "لا يبدو أن هذه الإسفنجيات تعدل كثيراً في التركيب الكيميائي للسائل المُكلِّس". بالإضافة إلى ذلك، أثبت العلماء موثوقية هذه الحيوانات في تحليلات نظائر الكربون (المستخدمة لتتبع عمليات احتراق الوقود الأحفوري)، كما أنهم عثروا عليها في طبقة المحيط المختلطة، وهي الطبقة الأنسب لإجراء تحليلات درجة الحرارة.
بدأت الدراسة جدياً في عام 2013، وجمع الباحثون العينات الأكثر شمولاً في عام 2017، عندما أُرسل الغواصون لاستخراج الإسفنجيات الصلبة من جدران الكهوف تحت سطح البحر. (لا تفضل هذه الإسفنجيات تغيير موقعها). قُطعت هذه العينات إلى نصفين وأعاد ماكولوك المجموعة الخاصة به إلى أستراليا في أمتعته. أُخذت عينات من كل نصف ملليمتر من الإسفنجيات في المختبر من الطبقة الخارجية إلى اللب، وهي كمية تقابل نمو الإسفنجيات مدة سنتين تقريباً. حدد الباحثون بعد ذلك عمر العينات باستخدام تقنية تأريخ سلسلة اليورانيوم، كما حسبوا نسبة السترونشيوم إلى الكالسيوم ونظائر الكربون والبورون فيها. (يُستخدم البورون لتحديد درجة شوارد الهيدروجين).
الحاجة للمزيد من الدراسات لتقدير الوضع الدقيق للتغير المناخي
على الرغم من أن نتائج الدراسة كانت مقنعة بالنسبة للمشككين في أثناء عملية مراجعة الأقران، فمن غير المرجح أنها ستغير التقديرات حول الاحتباس الحراري التي يُجمع عليها العلماء حالياً، والتي تبين أن الارتفاع في درجات الحرارة الوسطية وفقاً للعديد من التقديرات الحالية يبلغ نحو 1.2 درجة مئوية، في المقابل يبلغ هذا الارتفاع وفقاً للدراسة الجديدة 1.7 درجة مئوية، وهو أول توثيق عمليّ لدرجة حرارة المحيط خلال الفترة قبل الثورة الصناعية.
اقرأ أيضاً: ما دور الأسماك في مكافحة تغيّر المناخ؟
قالت المتخصصة في علم المحيطات الجيولوجي في مركز العلوم البيئية في جامعة ميريلاند، الدكتورة هالي كيلبورن، لصحيفة نيويورك تايمز: "يجب جمع المزيد من السجلات قبل المطالبة بإعادة تقدير شاملة لدرجة الحرارة العالمية". يمكن أن يحصل العلماء على هذه السجلات قريباً؛ إذ إنهم يجرون المزيد من الأبحاث، مثل فريق بحثي في اليابان يدرس الإسفنجيات في أوكيناوا.