يعكف علماء من جامعة الشارقة ومعهد واربرغ (Warburg Institute) على دراسة مؤلفات عالم موسوعي عربي مسلم من القرن الحادي عشر الميلادي لإبراز أثرها في تطور العلوم البصرية، وكيف أحدثت تحولاً جذرياً في تاريخ الفيزياء منذ العصور الوسطى وحتى العصر الحديث في أوروبا.
يركّز البحث الذي أجراه العلماء على تراث العالم الموسوعي الحسن بن الهيثم، المعروف باللاتينية باسم "Alhazen"، وخاصة كتابه الأهم حول علم البصريات المعروف باسم "كتاب المناظر" (Book of Optics)، الذي انتشر أول مرة في أوروبا بعد صدور ترجمته إلى اللغة اللاتينية بعنوان (Perspectiva). ولد ابن الهيثم في مدينة البصرة جنوب العراق عام 965 في عهد الخلافة العباسية.
ترجمة كتاب المناظر إلى اللغة الإنجليزية
ترجم الخبراء في معهد واربرغ مؤخراً الجزأين الرابع والخامس من كتاب المناظر المرجعي من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية، ونُشرت النسختان تحت عنوان "علم البصريات لابن الهيثم، الكتابان الرابع والخامس: حول الانعكاس ورؤية الصور عبر الانعكاس" (The Optics of Ibn al-Haytham, Books IV–V: On Reflection and Images Seen by Reflection). ترجم خبراء هذا المعهد الأجزاء من الأول إلى الثالث إلى اللغة الإنجليزية من قبل، ويؤسس المعهد حالياً شبكة واسعة من العلماء لإجراء بحث تعاوني يشمل العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية حول ابن الهيثم والأسئلة التي تثيرها أعماله. فدور ابن الهيثم في هذين المجالين معروف ولكنه محدود في الوقت نفسه؛ إذ لم يترجم سوى نصف أعماله العلمية إلى الإنجليزية ولم يُحرَّر بعد سوى ربعها.
يقول خبراء معهد واربرغ في مقدمة الترجمة الجديدة عن ابن الهيثم: "لعله أعظم علماء الرياضيات والفيزياء في العالم العربي والإسلامي في العصور الوسطى؛ إذ لا تستند سمعته إلى الكم الهائل من الموضوعات التي درسها فحسب؛ بل إلى منهجيته العلمية الصارمة أيضاً. يتناول ابن الهيثم رياضيات الأشعة الضوئية والجوانب المادية للعين في 7 كتب شاملة. وقد مهّدت إعادة تأسيسه لعلم البصريات بأكمله الطريق للتقدم الذي أُحرز لاحقاً في هذا المجال بمجمله، وأثّر في شخصيات مثل ويليام الأوكامي وكيبلر وديكارت وكريستيان هوغنس".
ابن الهيثم: مؤسس علم البصريات
نشر الأستاذ الدكتور في كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الشارقة، نادر البزري، دراسة مراجعة أكاديمية لترجمة معهد واربرغ لكتاب ابن الهيثم، ويسلط مقاله المنشور في "المجلة الدولية للتقاليد الكلاسيكية" (International Journal of the Classical Tradition) الضوء على التأثير الكبير لعالم البصريات العربي الإسلامي هذا على مر العصور وحتى يومنا هذا.
يقول البزري إن كتاب المناظر لابن الهيثم هو مؤلّف تأسيسي بارز في تاريخ العلوم والفنون البصرية من العصور الوسطى إلى أوائل العصر الحديث في الثقافتين الأوروبية والإسلامية. انتشر كتاب المناظر في الأوساط الأوروبية خلال العصور الوسطى العليا من خلال جهود مجموعة العلماء والمترجمين الذين عملوا مع جيراردو الكريموني في طليطلة على ترجمته إلى اللاتينية، فأثر نتيجة لذلك في علماء البصريات الفرنسيسكانيين والدومينيكانيين واليسوعيين في مختلف أنحاء أوروبا.
اقرأ أيضاً: ابن الهيثم في ذكرى رحيله: من دراسة العين إلى تطوير الكاميرا
يقول البزري في هذا المقال: "كان لهذا الكتاب أثر في كتاب فرانسوا دي أغيلون بعنوان '6 كتب للبصريات' (Opticorum libri sex) من مدرسة الرياضيات اليسوعية في مدينة أنتفيرب، وكان له تأثير مباشر في كتاب 'سيلينوغرافيا' (Selenographia) ليوهانيس هيفليوس. بالإضافة إلى ذلك، اعتمد كل من جيرار ديزارغ ورينيه ديكارت ويوهانس كيبلر وكريستيان هوغنس كتاب المناظر مرجعاً في دراستهم".
يعمل البزري على نحو وثيق مع معهد واربرغ ويساعد الخبراء هناك على إعادة تقديم ابن الهيثم إلى الغرب. يستثمر معهد واربرغ في ترجمة مؤلفات ابن الهيثم في علم البصريات إلى اللغة الإنجليزية، ويصف البزري هذه المؤلفات بأنها "ضخمة"؛ ويصف كتاب المناظر بأنه: "يبيّن بالأدلة تأثير العلوم والفلسفة العربية في تاريخ العلوم والفنون المعمارية والبصرية في أوروبا؛ كما أنه يبيّن كيف أثرت العلوم والفنون بعضها في بعض كما ألهمت دراسات البصريات في ضوء الفيزياء الرياضية العلماء لاختراع الإنشاءات الهندسية الإسقاطية للمنظور بصفتها طريقة جديدة للرسم والتصميم المعماري في عصر النهضة".
اقرأ أيضاً: اليراعات الوامضة تحل لغزاً بحث عنه علماء الرياضيات منذ زمن طويل
تأثير كتاب المناظر على العمارة والفنون البصرية
وفقاً للبزري فإن تأثير هذا الكتاب أساسي ليس فقط في تاريخ العلوم في أوروبا منذ العصور الوسطى العليا حتى أوائل العصر الحديث؛ بل كان أساسياً أيضاً في العمارة والفنون البصرية في عصر النهضة الإيطالية وحتى أواخر عصر الباروك. بالإضافة إلى ذلك، كان لهذا الكتاب أثر كبير في التصورات الحديثة لدراسة الفيزياء رياضياً والاعتماد على التجربة في العلوم والتحليل الفلسفي للإدراك".
ورداً على سؤال حول أهمية ترجمة أعمال ابن الهيثم إلى اللغة الإنجليزية على الرغم من مرور نحو 1,000 عام على ترجمتها آخر مرة، يقول البزري إن نظريات هذا العالِم العربي المسلم ومنهجياته، وتحديداً التي تتناول علم البصريات، ما تزال "أساسية" في الأدبيات العلمية حتى الآن، وإن ابن الهيثم له "أثر بالغ الأهمية في تاريخ العلوم والفنون في أوروبا، كما أنه لا يمكن إغفال تأثير مؤلفات ابن الهيثم في الوسط الأوروبي؛ إذ كان له تأثير ملحوظ في كتاب بياجيو بيلاكاني البارمي بعنوان 'أسئلة حول البصريات الشاملة' (Questiones super perspectiva communi) وكتاب ليون باتيستا ألبيرتي بعنوان 'عن الصورة' (De pictura) وكتاب لورينزو غيبرتي بعنوان 'تعليقات' (Commentarii)، وبلغ تأثير كتاب المناظر ذروته عند نشر أول نسخة لاتينية منه في كتاب 'كنز البصريات' من تأليف فريدريش ريزنر في القرن السادس عشر.
يشير البزري إلى أن ابن الهيثم وضع في كتاب المناظر أسس "منهج تجريبي علمي مبتكر ودقيق يشمل اختبارات متكررة وتحقيقية منضبطة ومتقنة، في إطار التراكيب المتماثلة بين الفيزياء والرياضيات.
افرأ أيضاً: جائزة نوبل في الفيزياء 2021 لأبحاث المناخ ونظرية الفوضى
يهدف ابن الهيثم في كتاب المناظر إلى توضيح طبيعة الإدراك البصري من خلال دراساته عن تشريح العين والأعصاب البصرية والجزء الأمامي من الدماغ وفيزيولوجيّة هذه الأعضاء، ودراسة علم النفس الإدراكي وتحليل الأفعال النفسية الجسمية والحسية الحركية البصرية".