علماء الآثار يستكشفون الجليد بحثاً عن كنوز تاريخية

علماء الآثار يبحثون في الجليد عن آثار تاريخية قديمة
حقوق الصورة: غيتي إيميدجيز.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تتسارع وتيرة ذوبان الأنهار الجليدية أكثر من أي وقت مضى، وعلى الرغم من أن ذلك ربما يؤدي إلى كارثة على الكوكب، فإنه فتح مجالاً جديداً للبحث يسمّى “علم الآثار الجليدية”. حالياً، يذوب الجليد عن القطع الأثرية والجثث والفيروسات المتجمدة في أعماق الجليد منذ ملايين السنين ما يجعلها تطفو على السطح؛ كما يسمح المناخ الأكثر دفئاً لعلماء الآثار بالتنقل في المناطق التي كان من الصعب التنقيب فيها في الماضي.

يقول عالم الآثار الجليدية والمدير المشارك في مشروع أسرار الجليد (Secrets of the Ice) في النرويج، لارس هولغر بيلو (Lars Holger Pilø): “أنا أطلق على هذا النوع من الأبحاث اسم “علم الآثار المظلم”؛ لأن علماء الآثار أصبحوا مستفيدين من تغير المناخ على نحو غير متوقع، إنها نقطة إيجابية مضيئة في ظل الاحتباس الحراري“.

يغطي الجليد نحو 10% من مساحة العالم حالياً. يعمل الجليد بوصفه آلة زمنية حافظت على حالة الأشياء الأصلية عندما تجمدت للمرة الأولى. لذلك؛ لا يقلق علماء الآثار الجليدية بشأن تحلل الأشياء المدفونة ما يجعلها مصدراً مهماً للسجلات التاريخية المحفوظة. يشمل بعض المواقع الغنية بالآثار الجليدية النرويج ومتنزه يلوستون الوطني (Yellowstone National Park) ومنطقة سيبيريا.

اقرأ أيضاً: العلماء ينشؤون شجرة عائلية تعود إلى العصر الحجري من حمض نووي عمره 7 آلاف عام

ما يزال اكتشاف مومياء أوتزي في عام 1991؛ وهو إنسان ما قبل التاريخ يُعتقد أنه عاش في الألفية الرابعة قبل الميلاد، بعد ذوبان نهر جليدي في جبال الألب الإيطالية أعظم اكتشاف في مجال علم الآثار الجليدية حتى الآن. لكنه ليس الاكتشاف الوحيد البارز الذي شهدناه في العقدين الماضيين.

في الشهر الماضي، عثر فريق مشروع أسرار الجليد على هذا السهم المحفوظ جيداً؛ إذ يعود هذا السهم على الأرجح إلى أحد صيادي حيوانات الرنّة منذ آلاف السنين. إسبن فينستاد/ secretsofttheice.com
في الشهر الماضي، عثر فريق مشروع أسرار الجليد على هذا السهم المحفوظ جيداً؛ إذ يعود هذا السهم على الأرجح إلى أحد صيادي حيوانات الرنّة منذ آلاف السنين. إسبن فينستاد/ secretsofttheice.com

كنز دفين من السهام

في وقت سابق من شهر سبتمبر/أيلول، كان بيلو وفريقه يبحثون في جبال يوتنهيمن (Jotunheimen) في شرق النرويج واكتشفوا سهماً خشبياً يحمل رأساً مصنوعاً من صخور الكوارتزيت (quartzite) و3 ريشات. استخدم القدماء الريش لتثبيت السهم وتوجيهه نحو هدفه. تتحلل الريشات عادة مع مرور الوقت؛ لكنّ الجليد حافظ على سلامتها واحتفاظها بحالتها الأصلية. تشير التقديرات إلى أن تاريخ السهم يعود إلى 3,000 عام، وربما تعود ملكيته إلى أحد صيادي حيوانات الرنّة من بداية العصر البرونزي. هذا السهم هو أحد السهام العديدة التي عُثر عليها نتيجة ذوبان الجليد في النرويج في السنوات الأخيرة.

يقول بيلو إن أفضل قطعة أثرية عثر عليها كانت عبارة عن سهم خشبي يعود تاريخه إلى 1400 عام، وله نهاية غير حادة. يبلغ طول هذا السهم نحو 25 سنتيمتراً؛ لذلك فهو صغير جداً، ويعتقد بيلو أنه لن يسبب أي نوع من الضرر عند إطلاقه.

كشف مزيد من التحليل أن هذا السهم كان مجرد لعبة؛ إذ من الممكن أن يعود لطفل استخدمه لمحاولة تعلم فن الرماية ما يشير إلى التركيز على الصيد في تلك الفترة الزمنية. يقول بيلو: “يمكننا أن نتخيل أن السهم ضاع في الثلج ما جعل الطفل حزيناً لأنه فقد لعبته؛ لكن في الواقع، بعد 1400 عام، عثرنا على السهم بعد ذوبان الجليد”.

زلاجات من العصر الحديدي

في عام 2014، اكتشف بيلو وزملاؤه زلاجة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ بعد ذوبان بقعة جليدية في النرويج. يعود تاريخ هذه الزلاجة إلى 1,300 عام، وما تزال الشرائط التي تُستخدم لتثبيت الأقدام عليها سليمة. في عام 2021، عثر الباحثون على الزلاجة الثانية. لذلك؛ تُعد إحدى أهم الزلاجات المحفوظة جيداً من عصور ما قبل التاريخ حتى الآن.

نظراً إلى أن الزلاجات كانت محفوظة جيداً، يقول بيلو إنهم استطاعوا استخدامها للتزلج على المنحدرات. يقول بيلو: “كان ذلك ممتعاً للغاية”.

عُرضت أنثى ماموث صوفي صغيرة تُدعى "يوكا" (Yuka)، يعود تاريخها إلى 39,000 عام، وقد عُثر عليها في الأراضي المتجمدة في سيبيريا أمام وسائل الإعلام في معرض في طوكيو، اليابان، في عام 2013. كازوهيرو نوغي/ وكالة فرانس برس عن طريق غيتي إميدجيز
عُرضت أنثى ماموث صوفي صغيرة تُدعى “يوكا” (Yuka)، يعود تاريخها إلى 39,000 عام، وقد عُثر عليها في الأراضي المتجمدة في سيبيريا أمام وسائل الإعلام في معرض في طوكيو، اليابان، في عام 2013. كازوهيرو نوغي/ وكالة فرانس برس عن طريق غيتي إميدجيز

حيوانات ما قبل التاريخ

في شهر أغسطس/آب عام 2010، عُثر على جثة محفوظة جزئياً تعود إلى صغير ماموث صوفي في الأراضي المتجمدة في سيبيريا. يقدَّر عمر الحيوان المتجمد الملقب بـ “يوكا” (Yuka) بنحو 39,000 عام؛ أي إنه يعود إلى العصر الجليدي الأخير.

استناداً إلى مكان الاكتشاف، فمن المحتمل أن يكون هذا الماموث ابتعد عن قطيعه في الأراضي العشبية وعلق في الوحل. نظراً إلى أن الجزء السفلي من الجسم كان محفوظاً جيداً في الجليد، تمكّن الباحثون من تحليل هذا النوع المنقرض بالتفصيل واستخلاص عينات من دمه المتجمد لأغراض البحث والتحليل.

اقرأ أيضاً: بلسم التحنيط: سرٌ جديد من أسرار الحضارة المصرية

أدى ذوبان الثلوج في القارة القطبية الجنوبية أيضاً إلى بعض الاكتشافات التطورية المثيرة للاهتمام. وخلال رحلة بحثية في عام 2016، اكتشف عالم الآثار، ستيفن إمزلي (Steven Emslie)، البقايا المحفوظة لبطاريق أديلي (Adelie) التي يعود تاريخها إلى 800 عام تقريباً، بالإضافة إلى بقايا أقل حفظاً لبعض الطيور المائية، التي يعود تاريخها إلى نحو 5,000 عام.

وفقاً لدراسة نشرها إمزلي في عام 2020؛ فمن المرجح أن البطاريق كانت تنتقل من مكان إلى آخر بسبب تغير ظروف الجليد البحري، وأدى تزايد تساقط الثلوج وتراكمها فوق البطاريق إلى الحيلولة دون تحللها.

ربما تمثل هذه القطعة إحدى أقدم القطع الأثرية التي عُثر عليها في البقع الجليدية في منطقة نظام يلوستون البيئي الكبير. تتكون هذه القطعة أساساً من جلد مضفور أو ملتوي مغطى جزئياً بلفائف سوداء من مادة عضوية ربما تكون عبارة عن لحاء أشجار كرز الطيور. استخدم الباحثون تقنية الكربون المشع لتحديد عمر هذه القطعة، وتوصلوا إلى أن تاريخها يعود إلى 1,370 عام. كريغ لي/ إدارة المتنزهات الوطنية
ربما تمثل هذه القطعة إحدى أقدم القطع الأثرية التي عُثر عليها في البقع الجليدية في منطقة نظام يلوستون البيئي الكبير. تتكون هذه القطعة أساساً من جلد مضفور أو ملتوي مغطى جزئياً بلفائف سوداء من مادة عضوية ربما تكون عبارة عن لحاء أشجار كرز الطيور. استخدم الباحثون تقنية الكربون المشع لتحديد عمر هذه القطعة، وتوصلوا إلى أن تاريخها يعود إلى 1,370 عام. كريغ لي/ إدارة المتنزهات الوطنية

القطع الأثرية العضوية

ساعد ذوبان البقع الجليدية علماء الآثار على تحديد الأشياء التي تعود إلى أسلاف الأميركيين الأصليين في شمال الولايات المتحدة. يقول عالم الآثار البيئية في جامعة ولاية مونتانا، الذي أجرى عملاً ميدانياً على البقع الجليدية في منطقة يلوستون وولاية ألاسكا، كريغ لي (Craig Lee): “على عكس الأنهار الجليدية، فإن البقع الجليدية أصغر حجماً وتتحرك ببطء أكبر؛ ما يجعلها مثالية للحفاظ على الأشياء التاريخية”. تمكّن لي وغيره من الباحثين في هذا المجال من اكتشاف مجموعة متنوعة من المواد التاريخية في هذه المساحات الجليدية؛ ويشمل ذلك السهام والرماح القديمة، بالإضافة إلى بقايا الحيوانات القديمة المحفوظة جيداً.

استطاع لي ومساعدوه أيضاً تحديد المواد العضوية الموجودة في القطع الأثرية التي عثروا عليها؛ مثل الخشب والمنسوجات والأدوات الحجرية. يقول لي: “إن الوصول إلى هذه المواد العضوية القديمة يُعد أمراً نادر الحدوث لأنها تتعرض إلى عمليات التحلل الطبيعية بصورة أكبر؛ لكنّ البقع الجليدية توفر بيئة مناسبة جداً للحفاظ على المواد التاريخية”. أحد الأمثلة لذلك هو سلة مصنوعة من لحاء شجرة البتولا، التي عُثر عليها في بقعة جليدية متقلصة في ولاية ألاسكا في عام 2012، ويقدَّر عمرها بنحو 650 عاماً.

اقرأ أيضاً: مفاجأة أثرية في البيرو: اكتشاف مومياء عمرها 1,000 عام تحتفظ بشعر كامل وفك سليم

مستقبل غامض

على الرغم من أن المناخ الدافئ يمهد الطريق لمزيد من الاكتشافات حول التاريخ القديم، فإن ثمة عقبات تواجه هذه العمليات. يقول عالم الآثار في المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي، روس مكفي (Ross MacPhee): “على الرغم من سهولة الوصول حالياً إلى الأماكن التي كانت غير ملائمة للاستكشاف والدراسة سابقاً، فإن ذوبان الثلوج يمكن أن يؤثر سلباً في عمليات البحث؛ إذ يؤدي ذوبان الثلوج إلى تحول السطح إلى مستنقعات من الوحل جاعلاً البحث عن الأحافير أصعب بكثير”.

توجد أيضاً مشكلة الآثار القديمة التي تجرفها المياه: يقدر بيلو أن نسبة 60 إلى 80% من الجليد الذي يغطي الجبال في النرويج عرضة إلى خطر الذوبان بحلول نهاية هذا القرن.

يصف بيلو تلك العملية بأنها سباق مع الزمن، ويقول: “إذا لم نكن مستعدين للبحث عن هذه الاكتشافات، فسوف تضيع وتختفي معها القصص التاريخية التي تحملها”.

اكتشف اثنان من متسلقي الجبال مومياء أوتزي (Otzi)، وهي أقدم مومياء بشرية طبيعية في أوروبا، في سلسلة جبال أوتزتال (Otztal)، التي تُعد جزءاً من جبال الألب بين النمسا وإيطاليا في شهر سبتمبر/أيلول عام 1991. بول هيني/ غاما رافو عن طريق غيتي إميدجيز
اكتشف اثنان من متسلقي الجبال مومياء أوتزي (Otzi)، وهي أقدم مومياء بشرية طبيعية في أوروبا، في سلسلة جبال أوتزتال (Otztal)، التي تُعد جزءاً من جبال الألب بين النمسا وإيطاليا في شهر سبتمبر/أيلول عام 1991. بول هيني/ غاما رافو عن طريق غيتي إميدجيز

ساعد استخدام مجموعة من المصادر المختلفة؛ مثل التصوير الجوي للجبال والنماذج الرقمية للتضاريس وصور الأقمار الصناعية، علماء الآثار الجليدية في تحديد المناطق التي يحدث فيها ذوبان الأنهار الجليدية، بالإضافة إلى التي يمكن أن تظهر فيها القطع الأثرية المدفونة تحت الجليد.

على الرغم من ذلك، فإن جهود العلماء تواجه تحديات كبيرة؛ إذ يستمر ذوبان الجليد حول القطبين بسرعة غير مسبوقة. يحذر بيلو من أن 90% من الجليد الذي يغطي الجبال في النرويج ربما يختفي بحلول عام 2100 إذا استمر ارتفاع درجات الحرارة؛ إذ كان شهر يوليو/تموز عام 2023 الشهر الأشد حرارة في تاريخ البشرية.

اقرأ أيضاً: هيكل خشبي مكتشف حديثاً يُبيّن أن تسمية “العصر الحجري” لم تَعد دقيقة

وعلى الرغم من ذلك، يحاول علماء الآثار مثل بيلو اغتنام هذه الفرصة القصيرة لإجراء عمليات الحفر والتنقيب في طبقات الجليد الرقيقة قبل ذوبان الجليد كلياً. على الرغم من أن الفرص ضئيلة، فما يزال بيلو يأمل في أن يساعد ذوبان الأنهار الجليدية على العثور على مومياء جليدية أخرى.