الخبز المصنوع من العجين المخمَّر هو أقدم أنواع الخبز الموثقة في التاريخ، واعتاد البشر تناوله منذ آلاف السنين. مكونات صنع بادئ العجين المخمر بسيطة للغاية؛ إذ إنه يتألف من الدقيق والماء فقط. يؤدي خلط هذين المكونين إلى تشكيل مزرعة حية تخمّر فيها البكتيريا والخميرة السكريات في الدقيق، ما يولّد نواتج تمنح العجين المخمر طعمه المميز ورائحته الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، هذه المزرعة الحية هي التي تتسبب بانتفاخ العجين في غياب عوامل التخمير الأخرى.
اقرأ أيضاً: 5 بدائل صحية وآمنة للقمح في صناعة الخبز
ورثتُ بادئ العجين المخمر الذي استخدمه، والذي أطلقت عليه بتحبب اسم بادئ "فوسترز" (Fosters)، عن جدي وجدتي اللذين حصلا عليه من أحد زملاء جدتي في سكن الجامعة. رافقني هذا البادئ طوال مسيرتي الأكاديمية التي تنقلت فيها عبر مختلف أنحاء البلاد، من المرحلة الجامعية في ولاية نيو مكسيكو إلى مرحلة الدراسات العليا في ولاية بنسلفانيا إلى مرحلة ما بعد الدكتوراة في واشنطن. حالياً، يوجد البادئ في الغرب الأميركي الأوسط، حيث أعمل في جامعة أوهايو الحكومية بصفتي كبير الباحثين المشاركين، وأتعاون مع الباحثين لدراسة سمات العيّنات في مجموعة واسعة من المجالات من علوم الأغذية إلى علوم المواد. قررت ضمن إحدى دورات الفحص المجهري التي أدرّسها في الجامعة إلقاء نظرة فاحصة على المجتمع الميكروبي في بادئ العجين المخمر الذي ورثته عن عائلتي باستخدام المجهر الذي أستخدمه في أبحاثي يومياً.
المجاهر الإلكترونية الماسحة
الفحص المجهري باستخدام المجهر الإلكتروني الماسح هو تقنية عالية الكفاءة يمكن تطبيقها لتصوير أسطح العينات على مقياس النانومترات. على سبيل المقارنة، يتراوح قطر شعرة الإنسان بين 10 ميكرومترات و150 ميكرومتراً، ويستطيع المجهر الإلكتروني الماسح تصوير سمات أصغر من هذا القطر بـ 10 آلاف مرة. هناك شروط يجب أن تحققها المواد حتى يكون تصويرها بالمجهر الإلكتروني الماسح ممكناً، وذلك لأنه يعتمد على الإلكترونات بدلاً من الضوء للتصوير. يجب أن تكون العينات ناقلة للكهرباء وقادرة على تحمل الضغوط المنخفضة للغاية في وسط مفرّغ من الهواء.
الأوساط المنخفضة الضغط غير مواتية عموماً للميكروبات لأن الظروف السائدة فيها تتسبب بتبخر الماء في الخلايا، ما يؤدي إلى تشويه بنية الميكروبات. يحضّر الباحثون العينات للتحليل باستخدام المجهر الإلكتروني الماسح من خلال تطبيق طريقة تحمل اسم "تجفيف النقطة الحرجة"، التي تُجفّف العينة وفقها بعناية لتقليل نسبة المواد غير المرغوب فيها والحفاظ على التفاصيل الدقيقة. يطلي الباحثون المادة بعد ذلك بطبقة رقيقة من معدن الإيريديوم لجعلها ناقلة للكهرباء.
اقرأ أيضاً: بشرى سارة للمصابين بحساسية الخميرة: علماء يصنعون عجينة بيتزا خالية من الخميرة
استكشاف بادئ العجين المخمر
تشكّل بادئات العجين المخمر وسطاً مواتياً لازدهار العديد من أنواع الميكروبات لأنها تتألف من الخميرة الطبيعية والبكتيريا التي تعيش في الدقيق. قد يحتوي بادئ العجين المخمر على أكثر من 20 نوعاً مختلفاً من الخميرة وأكثر من 50 نوعاً من البكتيريا. تصبح الأنواع الأكثر تكيّفاً سائدة في بادئ العجين. يمكن رصد التعقيد الميكروبي في بادئات العجين المخمر مباشرة من خلال تصوير المكونات المختلفة التي لها أحجام وأشكال مختلفة، مثل الخميرة والبكتيريا. مع ذلك، يتطلب فهم التنوع الذي يتمتع به بادئ العجين تماماً إجراء سَلسَلة جينية كاملة لهذا الخليط. المكوّن الرئيسي الذي يمنح البادئ قوامه هو حبوب النشا التي توجد في الدقيق. يمكن التعرّف على هذه الحبيبات، التي تظهر باللون الأخضر في الصورة، على أنها بُنى كروية كبيرة نسبياً يبلغ قطر كل منها نحو 8 ميكرومترات تقريباً.
اقرأ أيضاً: عنصر جديد يمكن أن يُحدث تحولاً جذرياً في الخبز الأبيض
الخميرة هي التي تتسبب بانتفاخ البادئ، وهي تظهر باللون الأحمر في الصورة أعلاه. تخمّر الخميرة السكريات في حبوب النشا مع نموها، وتطلق نواتج هي الكحول وفقاعات من غاز ثنائي أوكسيد الكربون تجعل العجين ينتفخ. تتراوح أقطار ميكروبات الخميرة عموماً بين ميكرومترين و10 ميكرومترات، ولها شكل مستدير إلى ممدود. يظهر نوعان متميزان من الخميرة في الصورة أعلاه، أحدهما مستدير تقريباً ويقع في أسفل اليسار، والآخر ممدود ويقع في أعلى اليمين. تستقلب البكتيريا (باللون الأزرق) السكريات وتطلق نواتج مثل حمض اللاكتيك وحمض الأسيتيك. تؤدي هذه النواتج دورة مادة حافظة، وهي التي تمنح البادئ رائحته المميزة وطعمه الحامض المميز. تأخذ البكتيريا في هذه الصورة أشكالاً تشبه أقراص الدواء التي يبلغ قطر كل منها ميكرومترين تقريباً. في المرة المقبلة التي تأكل فيها خبز العجين المخمر أو بسكويت الوافل المخمر (وأنصحك بتجربته، فهو لذيذ)، يمكنك أن تتخيل المجموعة الغنية من الكائنات الحية الدقيقة التي تمنح كل قطعة نكهتها المميزة.