أدلة جديدة تُسلّط الضوء على سبب اجتماعي لانقراض هذا الإنسان البدائي

4 دقيقة
أدلة جديدة تُسلّط الضوء على سبب اجتماعي لانقراض هذا الإنسان البدائي
اكتشف المنقبون أسنان إنسان نياندرتال الملقب بـ "ثورين" في كهف في فرنسا. عاش ثورين منذ نحو 40-45 ألف سنة في مجتمع معزول من البشراناوات المنقرضة الآن.

اكتشف العلماء سلالة جديدة من إنسان نياندرتال من المرجح أنها لم تتفاعل كثيراً مع السلالات الأخرى من النوع نفسه، وذلك باستخدام الحمض النووي المستخرج من عظام عمرها نحو 45 ألف عام. تعود البقايا إلى رجل أطلق عليه علماء الآثار لقب "ثورين" نسبة إلى ثورين أوكنشيلد، أحد الأقزام من رواية "الهوبيت" (The Hobbit) لجيه آر آر تولكين. عاش ثورين في مجتمع صغير فيما أصبح وادي الرون حالياً في فرنسا.

كشف تحليل وراثي جديد أن المجتمع الذي عاش فيه ثورين كان معزولاً عن المجموعات الأخرى وانفصل عن جماعة مدروسة بالتفصيل من إنسان نياندرتال منذ نحو 100 ألف عام. فصّل العلماء النتائج الجديدة في دراسة نشرتها مجلة سيل جينومكس (Cell Genomics) التابعة لشركة سيل بريس للنشر (Cell Press) بتاريخ 11 سبتمبر/أيلول 2024، ويمكن أن تسلط الضوء على أسباب انقراض هذا النوع.

اقرأ أيضاً: كيف يمكننا حماية الحيوانات المهددة بالانقراض بسبب تغيّر المناخ؟

50 ألف عام من العزلة

قالت عالمة الوراثيات السكانية في جامعة كوبنهاغن والمؤلفة المشاركة للدراسة، ثارسيكا فيمالا، في بيان صحفي: "اعتقد العلماء أنه لم تكن هناك سوى مجموعة واحدة متجانسة وراثياً من إنسان نياندرتال في وقت انقراض هذا النوع، ولكننا أصبحنا نعلم الآن أنه كانت هناك مجموعتان على الأقل في ذلك الوقت".

اكتشف علماء الآثار بقايا ثورين المتحجرة في كهف ماندرين في عام 2015، وهو نظام كهف مدروس جيداً. اكتشف المنقبون العديد من الأدوات والبقايا القديمة في هذا الكهف، وما زالت أعمال التنقيب في المنطقة مستمرة. احتوى كهف ماندرين أيضاً على أفراد من نوع الإنسان العاقل المبكّر، ولكن بقاياهم لا تعود بالضرورة إلى الفترة نفسها التي تعود لها بقايا النياندرتال.

قال عالم الآثار في جامعة تولوز بول ساباتييه الفرنسية والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة، لودوفيك سليماك، الذي اكتشف ثورين أولاً، في بيان صحفي: "لم تتبادل الجماعة التي ينتمي إليها ثورين الجينات مع جماعات النياندرتال الأخرى على مدار 50 ألف عام. يعني ذلك أن هاتين الجماعتين من إنسان نياندرتال عاشتا على بعد نحو 10 أيام سيراً على الأقدام من بعضهما بعضاً فترة دامت 50 ألف عام دون أن يتفاعل أفرادهما مع بعضهم. هذا أمر لا يمكن أن يحدث للإنسان العاقل، ويبيّن أنه لا بد أن إنسان نياندرتال تصور العالم بيولوجياً بطريقة مختلفة تماماً عن الإنسان العاقل".

إنسان النياندرتال تصور العالم بشكل مختلف عن الإنسان العاقل

بناءً على موقع ثورين داخل رواسب الكهف، يعتقد علماء الآثار في فريق الدراسة أنه عاش منذ نحو 40-45 ألف عام. يعني ذلك أن ثورين ينتمي إلى نوع إنسان نياندرتال المتأخر، وهي المجموعة التي عاشت حتى العصر الجليدي الأخير قبل 39-47 ألف سنة.

استخرج علماء الجينوم في الفريق الحمض النووي من أسنان ثورين وفكه وقارنوا تسلسله الجينومي الكامل مع جينومات إنسان نياندرتال التي سلسلها العلماء سابقاً. منحهم ذلك تقديراً لعمر ثورين وعلاقته الجينية بأفراد النياندرتال الآخرين الذين اكتشف العلماء جيناتهم سابقاً.

اكتشف العلماء بقايا ثورين في نظام كهف ماندرين الفرنسي. حقوق الصورة: لودوفيك سليماك. فيليب سايلا

المفاجئ هو أن التحليل الجيني الجديد أشار إلى أن ثورين كان في الواقع أكبر سناً بكثير مما أشارات إليه تقديرات علماء الآثار. كان جينوم ثورين مختلفاً عن جينوم غيره من أفراد نوع النياندرتال المتأخر، وكان أكثر تشابهاً مع جينومات النياندرتال الذي عاش قبل أكثر من 100 ألف عام.

قال سليماك: "عملنا على مدى 4 سنوات لتحديد التقدير العمري الصحيح، تقدير علماء الآثار أو تقدير علماء الجينوم".

اقرأ أيضاً: علماء الآثار يستكشفون الجليد بحثاً عن كنوز تاريخية

حلل الفريق النظائر المشعة من عظام ثورين وأسنانه لتحديد المناخ الذي عاش فيه بهدف تسوية هذا النزاع الأثري. عاش إنسان نياندرتال المتأخر خلال العصر الجليدي، بينما عاش إنسان نياندرتال المبكّر في مناخ أكثر دفئاً. بيّن التحليل النظيري أن ثورين عاش في مناخ بارد للغاية، ما يرجّح أنه انتمى لنوع إنسان نياندرتال المتأخر.

قال عالم الوراثيات السكانية في جامعة كوبنهاغن والمؤلف المشارك للدراسة، مارتن سيكورا، في بيان صحفي: "هذا الجينوم هو بقايا بعض من أقدم جماعات إنسان نياندرتال في أوروبا. لا بد أن السلالة التي انحدر منها ثورين انفصلت عن السلالة التي انحدرت منها جماعات النياندرتال المتأخر الأخرى منذ نحو 105 آلاف عام".

مجتمعات النياندرتال كانت مجتمعات انعزالية

بالمقارنة مع جينومات إنسان نياندرتال الأخرى التي سلسلها العلماء سابقاً، يشبه جينوم ثورين إلى حد كبير جينوم فرد اكتشفه المنقبون على بعد نحو 1,600 كيلومتر شمال شرق جبل طارق. يعتقد سليماك أن الجماعة التي انتمى إليها ثورين هاجرت من جبل طارق إلى جنوب فرنسا على الأرجح.

قال سليماك: "يعني ذلك أنه كانت هناك جماعة غير معروفة من إنسان نياندرتال في منطقة البحر الأبيض المتوسط، انتشرت من أقصى الطرف الغربي لأوروبا حتى وادي الرون في فرنسا".

قد يؤدي اكتشاف أن مجتمعات إنسان نياندرتال كانت أصغر حجماً وأكثر انعزالية دوراً كبيراً في فهم انقراض هذه الجماعات. يعتقد العلماء عموماً أن الانعزال الجيني هو عيب في سلامة تجميعة الجينات لجماعة ما.

قالت فيمالا: "تواصل الجماعات مع بعضها مفيد دائماً. عندما تنعزل جماعة ما فترة طويلة، يصبح التنوع الجيني فيها محدوداً، ما يعني أن قدرتها على التكيف مع المناخات ومسببات الأمراض المتغيّرة ستنخفض، كما أن الانعزال يحد الجماعة اجتماعياً لأنه يمنعها من مشاركة المعارف ويعوق تطورها بصفتها جماعة".

هناك حاجة إلى سلسلة المزيد من جينومات إنسان نياندرتال لفهم بنية جماعات هذا النوع وتفسير انقراضه في النهاية. يشتبه العلماء في أن العوامل مثل التغيرات المناخية وزيادة المنافسة مع البشر والتكاثر معهم، وربما العزلة وانعدام الاتصال مع الآخرين من النوع نفسه، هي التي أدت إلى انقراض إنسان نياندرتال في نهاية المطاف منذ نحو 40 ألف عام.

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن الجينوم الشامل؟

قالت فيمالا: "هذا الجانب التكهني من الموضوع، لكن القدرة على التواصل أكثر وتبادل المعرفة هي قدرة يتمتع بها البشر ربما لم يتمتع بها إنسان نياندرتال بسبب نمط الحياة الانعزالي الذي انطوى على تشكيل جماعات أصغر. القدرة على التواصل وتبادل المعرفة هي مهارة ضرورية. لاحظنا وجود أدلة تبين أن البشر الأوائل في العصر الحديث في سيبيريا شكلوا ما نسميه 'شبكات التزاوج' لتجنّب عواقب التوالد الداخلي في أثناء العيش في مجتمعات صغيرة، وهو سلوك لم نكتشفه لدى إنسان نياندرتال".

المحتوى محمي