يعكس البشر، مثل معظم الحيوانات الاجتماعية، السلوكيات والتعابير الوجهية لبعضهم بعضاً، ويدعو علماء النفس هذا السلوك "المحاكاة". تساعد المحاكاة في أغلب الأحيان البشر على الإحساس بمشاعر إيجابية تجاه الأشخاص الذين يتعاملون معهم.
يقول "غايلس موستافاوي"، باحث من جامعة "سيرغي بونتواز" في فرنسا: "عندما يتفاعل البشر مع بعضهم، فهم يتّبعون إيقاعات بعضهم عندما يتعلق الأمر بالتنفّس والكلام والتحرّك، وهو سلوك غير واعٍ". هذا الأمر، حسب تعبيره، هو بمثابة "وسيلة للانسجام الاجتماعي".
في بعض الحالات، يمكن أن تسهّل المحاكاة الترابط بين أنواع مختلفة من الحيوانات، مثل بين البشر والقرود. لكن هل يمكن لهذه الظاهرة أن تُلاحظ بين البشر والروبوتات؟ يقول موستافاوي: "إذا تمكّنا من التواصل مع الآلات أو الروبوتات أو الحواسيب بهذه الطريقة، سنستطيع أن نتفاعل معها بطريقة أفضل وأكثر حدسية".
وجد موستافاوي وزملاؤه في دراسة ضيقة نُشرت في 19 يناير/كانون الثاني 2022 في دورية "بلوس ون" أن البشر يحاكون بالفعل حركات الروبوتات الشبيهة بالبشر التي يتفاعلون معها، وأن التنسيق الإيقاعي بين البشر والروبوتات يبدو شبيهاً بنظيره الذي يحصل بين البشر.
يقول موستافاوي: "نشرنا عدداً من الأبحاث التي تحتوي على إثبات لعملية هذه الفكرة"، ويضيف: "لكن الدراسة الجديدة هي الأولى التي تثبت أن البشر قادرون على التنسيق بشكل غير واعٍ مع الروبوتات، وذلك إذا كان الروبوت يتحرّك بطريقة مشابهة للبشر".
اقرأ أيضاً: هل صارت الروبوتات الإسفنجية أقرب إلى الواقع؟
تحرّك كما يتحرّك الروبوت
كانت التجربة بسيطة. وُضع 15 مشاركاً مقابل روبوت شبيه بالبشر اسمه "ناو" يجلس على طاولة. طُلب من المشاركين أن يمدوا أذرعهم ويحركوها للأعلى والأسفل. فعل الروبوت نفس الأمر، وتم التحكم بحركاته من خلال حاسوب خارجي يطبّق خوارزمية سمحت للروبوت إما بتنسيق حركة ذراعه مع حركة ذراع الإنسان أو التحرّك بشكل منتظم، مثل بندول الإيقاع. لم يكن المشاركون يعلمون بما سيفعله الروبوت قبل التجربة، ولم يعلموا ما إذا كان يتحرّك من تلقاء نفسه أو كاستجابة لحركتهم.
طلب الباحثون من كل مشارك أن يحرّك ذراعه بالطريقة التي يريدها، بغض النظر عما كان يفعله الروبوت. ثم طلبوا منهم أن يحاكوا إيقاع حركة الروبوت. كانت هناك مجموعة معيارية أيضاً حرّك فيها المشاركون أذرعهم بحرية أثناء ارتداء عصابة للعينين وسماعات أذنية.
لاحظ الباحثون أن كل المشاركين ما عدا واحدة حاكوا في حركاتهم إيقاع الروبوت في النهاية. كانت هذه المشاركة هي راقصة تحرّكت دائماً بإيقاع غير منسجم مع الروبوت. يقول موستافاوي: "لم ننجح في مزامنة حركتها مع حركة الروبوت، حتى عندما كان يتحرك وفق نموذج عصبوني طوّرته بنفسي لمزامنة الروبوت مع البشر"، ويضيف: "نعتقد أنها كانت تتقصّد عدم تنسيق حركاتها مع حركات الروبوت".
لاحظ معظم المشاركين أنهم كانوا يتزامنون مع الروبوت، ولكنّهم لم يكونوا متأكدين ما إذا كانوا هم من يعدّلون إيقاع حركاتهم مع الروبوت أم العكس. وفقاً لموستافاوي، ربما يكون إيجاد طريقة لقياس القصدية باستخدام مخطط كهربية الدماغ أو التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي هو الخطوة التالية في كشف الحقائق الحيوية العصبية وراء هذا السلوك.
يمكن أن تكون هناك تطبيقات عملية لهذا البحث. كان موستافاوي جزءاً من فريق استخدم روبوت ناو مع مرضى الفصام لإعادة تأهيل قدرتهم على تنسيق حركتهم. كانت الفكرة هي استخدام الروبوت لمساعدة المرضى على معايرة حركتهم. يوضح موستافاوي أن العديد من هؤلاء المرضى لا يمارسون الرياضة ويمكن أن يكون لديهم عجز اجتماعي يجعل من الصعب عليهم التنسيق، ما يزيد من إضعاف قدرتهم على القيام بالتفاعلات الاجتماعية العادية.
مؤخراً، طُلب من موستافاوي دراسة تأثير الروبوت على المرضى الذين يعانون من مرض شذوذ الحركة، وهو مرض يتسبب في تجميد الأشخاص لحركاتهم بشكل لا يمكن السيطرة عليه. لكن حسب موستافاوي، ما يميز هذه الحالة، هو أنك إذا تحركت أمامهم، فسوف يقلدونك دون وعي. يعتقد موستافاوي أن الروبوت يمكن أن يساعد هؤلاء المرضى.
اقرأ أيضاً: هذه الروبوتات العنكبونية قد تزحف داخل جسمك يوماً ما
هل ينبغي على المهندسين أن يعلموا الروبوتات المهارات الاجتماعية البسيطة؟
التنسيق غير الواعي ضروري في البيئات الاجتماعية البشرية، ربما لأنه مرتبط بالانتباه والتعلم. وإذا كان ضرورياً للتفاعل بين البشر، فهذا يعني أنه ضروري للتفاعل بين الإنسان والآلة.
إذن، ما هي تبعات هذه الدراسة على تصميم الروبوتات المستقبلية؟ بدأ المهندسون في الابتعاد عن تصميم الروبوتات الميكانيكية الصلبة ويتوجّهون نحو تصميم الروبوتات الأكثر نعومة التي تتميز بخصائص فيزيولوجية بشرية أو حيوانية، وهو أمر يمكن أن يجعل حركات وإيماءات هذه الروبوتات تبدو طبيعية أكثر. لكن لكي يكون وجود الروبوتات في عالمنا طبيعياً أكثر، يعتقد موستافاوي أن هذه الأنظمة الروبوتية بحاجة إلى التفاعل معنا. هذا يعني بناء أنظمة وروبوتات وتصميم خوارزميات جديدة ذات ردود أفعال حركية وحسية طبيعية، كما أنه ليس من الضروري أن تكون هذه الروبوتات معقّدة حتى تكون فعالة. بالنسبة لتجربة موستافاوي وزملائه، لم يكن من الضروري أن يبدو الروبوت بشرياً، بل كان الأهم أن يتحرك مثل بشري.
يقول موستافاوي: "إذا حاولت أن أتنبأ بكل ما ستفعله، فلن يكون تفاعلنا طبيعياً للغاية"، ويضيف: "لسنا بحاجة إلى التحكم أو توقع كل تعبير". ما يجعل التفاعلات الثنائية مرنة هي الأمور البسيطة، مثل إيماء رأسك عندما يومئ شخص آخر رأسه لتبيّن له أنك تستمع.