كشفت دراسة حديثة أجراها باحثون من معهد الطب الجزيئي الفنلندي (Institute for Molecular Medicine Finland)، أن الوضعين الاجتماعي والاقتصادي بالتفاعل مع العوامل الوراثية يؤديان دوراً حاسماً في تحديد خطر الإصابة بأمراض مختلفة.
وبيّنت الدراسة، التي عُرِضت في مؤتمر الجمعية الأوروبية لعلم الوراثة البشرية (European Society of Human Genetics) في يناير/كانون الثاني عام 2024، أن الأفراد الذين ينتمون إلى مستويات اقتصادية واجتماعية منخفضة، حُدِدت بناءً على التحصيل العلمي والمهنة، يكونون أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وداء السكري، ويمتلكون أيضاً استعداداً وراثياً أكبر للإصابة بمجموعة من الأمراض المعقدة، مثل التهاب المفاصل الروماتويدي وسرطان الرئة والاكتئاب.
في المقابل، يكون الأشخاص من المستويات الاجتماعية والاقتصادية الأعلى أكثر عرضة للإصابة بأنواع محددة من السرطان، ويواجهون خطراً وراثياً أكبر للإصابة بسرطان الثدي والبروستاتا وأورام أخرى.
اقرأ أيضاً: ما مخاطر التعرّض للأضواء الاصطناعية والتلوث الجوي ليلاً؟
ما البيانات التي احتوت عليها دراسة تأثر الإصابة بالأمراض بالمستويين الاجتماعي والاقتصادي؟
استخدمت الدراسة بيانات نحو 280 ألف شخص تتراوح أعمارهم بين 35-80 عاماً من المشروع الفنلندي "فين جين" (FinnGen)، وهو مشروع بحثي في علم الجينوم يهدف إلى توضيح الأسس الوراثية للأمراض.
تُعدّ هذه الدراسة هي الأولى من نوعها التي تُقيِّم تأثير الوضعين الاجتماعي والاقتصادي في القابلية الوراثية لـ 19 مرضاً معقداً منتشراً في البلدان ذات الدخل المرتفع، وفقاً لما ذكره الباحثون.
أهمية هذا البحث
إحدى الأفكار المهمة لهذه الدراسة هي أن الخطر الجيني للأمراض ليس ثابتاً؛ فعلى الرغم من أن المعلومات الوراثية تظل ثابتة طوال الحياة، فإن تأثيرها في احتمالية الإصابة بالأمراض يختلف باختلاف العمر والظروف الاجتماعية والاقتصادية. وهذا يعني أن التنبؤات الصحية المستندة إلى علم الوراثة يجب أن تأخذ في الاعتبار أيضاً الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للشخص.
وقد وضّحت الباحثة في معهد الطب الجزيئي في فنلندا، فيونا هاغنبيك (Fiona Hagenbeek)، هذه النقطة قائلة إنه يمكن لهذه النتائج أن تؤدي إلى تحسين الرعاية الصحية عبر تصميم بروتوكولات فحوص طبية تناسب الاحتياجات الفردية على نحو أفضل، وذلك من خلال دمج المعلومات الجينية المستخدمة في تقدير احتمالية الإصابة بأمراض معينة، مع النظر في الحالة الاجتماعية والاقتصادية للشخص.
على سبيل المثال، يمكن تصميم الفحوصات الطبية اللازمة للكشف عن سرطان الثدي عند النساء ذوات المخاطر الوراثية العالية والحاصلات على تعليم عال في وقت مبكر وعلى نحو متكرر أكثر من النساء ذوات المخاطر الوراثية الأقل الحاصلات على تعليم أقل. يضمن هذا النهج الشخصي في الرعاية الصحية حصول الأشخاص الأكثر عرضة للخطر على الاهتمام الذي يحتاجون إليه، ما يحسّن الاكتشاف المبكر ونتائج العلاج.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تكشف الآلية التي يتبعها الدماغ للتمييز بين الموسيقى والكلام
اتجاهات البحوث المستقبلية
يخطط الباحثون إلى مواصلة استكشاف كيفية تأثير الجوانب المختلفة للتعليم والمهنة والمعلومات الجينية في خطر الإصابة بالأمراض، كما يعتزمون مقارنة نتائجهم ببيانات البنوك الحيوية من بلدان أخرى، مثل المملكة المتحدة والنرويج وإستونيا، وذاك لفهم فيما إذا كانت هناك أنماط مماثلة في أماكن أخرى.
يُذكر أن الدراسة الحالية قد شملت الأفراد من أصل أوروبي، وسيكون من المهم في المستقبل معرفة فيما إذا كانت هذه النتائج ستتكرر عند الأشخاص من أصول متعددة في البلدان المرتفعة والمنخفضة الدخل.
إذ تقول الباحثة هاغنبيك: "بما أن الهدف العام لدمج المعلومات الجينية في الرعاية الصحية هو تسهيل الطب الشخصي، فينبغي لنا ألّا نتعامل مع المعلومات الجينية على أنها مقاس واحد مناسب الجميع، وإنما ينبغي التحقيق في الظروف التي تعدّل المخاطر الجينية، ثم تضمينها عند تنفيذ التنبؤ بالأمراض".
وقد أشاد الأستاذ من مركز علم الجينوم التكاملي (Center for Integrative Genomics) في جامعة لوزان السويسرية (University of Lausanne)، ألكسندر ريموند (Alexander Reymond)، بهذا البحث، موضحاً أنه للوصول إلى نهج الرعاية الصحية الشخصي ينبغي حقاً قياس عوامل الخطر الجينية والبيئية على السواء.
هل يمكن تفسير العلاقة بين الوضعين الاجتماعي والاقتصادي واحتمالية الإصابة ببعض الأمراض المحددة؟
لم يذكر الباحثون أسباباً محددة تفسّر هذا الارتباط، لكن يمكن القول إن العلاقة بين الحالتين الاقتصادية والاجتماعية والنتائج الصحية معقدة ومتعددة الأوجه وتتضمن مزيجاً من العوامل الوراثية والبيئية والسلوكية. فيما يلي تفسير بعض الأسباب بالنسبة للطبقات المختلفة:
- العوامل البيئية: غالباً ما يعيش الأفراد الذين يعانون انخفاض الحالتين الاقتصادية والاجتماعية في بيئات ذات ظروف سكنية أقل جودة، مثل وجود تلوث الهواء داخل المنزل وفي البيئة المحيطة، والازدحام السكاني، والضوضاء المحيطة مع محدودية الوصول إلى الأطعمة الصحية. قد تفاقم هذه العوامل خطر الإصابة ببعض الأمراض مثل سرطان الرئة والسمنة وداء السكري.
- نمط الحياة: يرتبط انخفاض الحالة الاقتصادية والاجتماعية بارتفاع معدلات التدخين والخمول واتباع نمط غذائي غير صحي، ما يسهم في المحصلة بارتفاع الإصابة بسرطان الرئة والسمنة وما يترتب عليها من تفاقم خطر الإصابة بأمراض القلب وداء السكري.
- الوصول إلى الرعاية الصحية: إن الوصول المحدود إلى الرعاية الصحية والخدمات الوقائية، أو ارتفاع تكاليفها، يعني أن الأمراض غالباً ما تُكتشف في مراحل لاحقة أكثر خطورة، ما يسهم في ارتفاع معدلات الإصابة وانخفاض استجابة للعلاج. في المقابل، وعلى الرغم من أن الوصول الأفضل إلى الرعاية الصحية يؤدي عادة إلى نتائج أفضل، لكنه يعني أيضاً أن الأشخاص يكونون أكثر عرضة للخضوع لاختبارات الفحص والتشخيص، مثل الأشخاص ذوي الحالات الاجتماعية والاقتصادية الأعلى، ما قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات اكتشاف بعض أنواع السرطان قبل ظهور الأعراض.
- التوتر والصحة النفسية: يمكن أن يؤدي التوتر المزمن المرتبط بعدم الاستقرار المالي وانعدام الأمن الوظيفي إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالاكتئاب والقلق.
- العوامل الإنجابية: غالباً ما يرتبط ارتفاع الوضع الاجتماعي والاقتصادي بإنجاب عددٍ أقل من الأطفال وإنجابهم في سن متأخرة، وهي عوامل قد تزيد خطر للإصابة بسرطان الثدي مقارنة بإنجاب عدد أكبر من الأطفال وفي سن مبكرة.
- التفاعل بين الجينات والبيئة: قد يتأثر الاستعداد الوراثي للإصابة ببعض الأمراض بالعوامل البيئية ونمط الحياة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحالتين الاقتصادية والاجتماعية. في الواقع، إن الجينات معرضة للتعديل استجابة للإجهاد السام ومشكلات التغذية، ومن المحتمل أن يحصل تضخيم بعض الاستعدادات الوراثية أو تخفيفها من خلال السلوكيات الصحية الشائعة في المجموعات السكانية المختلفة. على سبيل المثال، قد يكون لدى المجموعات ذات الحالتين الاقتصادية والاجتماعية الأقل قابلية وراثية أعلى للإصابة بمرض السكري من النوع الثاني، والذي يتفاقم أكثر بسبب سوء التغذية وعدم ممارسة الرياضة.
اقرأ أيضاً: كيف يخفّض الصيام الإصابة بالأمراض المزمنة؟ دراسة حديثة تجيب
باختصار، تتشكل العلاقة بين الحالتين الاجتماعية والاقتصادية والقابلية للإصابة بالأمراض من خلال التفاعل المعقد بين العوامل الوراثية والبيئة، بما في ذلك خيارات نمط الحياة، والحصول على الرعاية الصحية، ومستويات التوتر، وغيرها. يواجه الأفراد ذوو الحالة الاقتصادية الاجتماعية المنخفضة عبئاً أكبر من الأمراض المرتبطة بهذه العوامل، في حين أن الأفراد ذوي الحالة الاقتصادية الاجتماعية الأعلى لديهم خطر متزايد للإصابة ببعض أنواع السرطان بسبب اختلاف نمط الحياة وسلوكيات الرعاية الصحية. يؤكد هذا في المحصلة أهمية النهج الشخصي في الرعاية الصحية الذي يأخذ في الاعتبار العوامل الوراثية والاجتماعية والاقتصادية.