يقول المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل: "الخرائط هي التي تروي القصة الحقيقية"، فالخرائط لا تؤدي فقط إلى الكنوز، بل هي كنوز بحد ذاتها، لأنها تحتفظ بمعارف سرية لحقب قديمة.
لعهود طويلة، لم يكن لدى الناس أي فكرة حقيقية عن طبيعة أرضهم وجغرافيتها، ومع ذلك مكّنت الاكتشافات من الوصول إلى ما هو أبعد من أوروبا والصين وإفريقيا، وبدؤوا ربط المعرفة الجغرافية ببعضها بعضاً. ولكن ما دور العرب، وبشكل أكثر تحديداً، ما إرث الملاحين العرب الذي ساعد على جمع بيانات البيئة والطبيعة وتطوير المعرفة الجغرافية؟
اقرأ أيضاً: إلى أين وصلت جهود البشر التي دامت قروناً في سبيل إنشاء خريطة لأسرار قاع البحر؟
وفقاً لدراسة أجرتها الأستاذة المشاركة في إدارة الأعمال بالجامعة الأميركيّة في القاهرة (AUC) مارينا أبايدن، أسهمت الرقعة الجغرافية الكبيرة للبلاد العربية في القرون الوسطى في تطوير المعرفة الجغرافية كما نعرفها اليوم، بالإضافة إلى عناصر أخرى، سنتعرف عليها.
العناصر المكونة للخرائط الجيوسياسية
اعتمدت الدراسة التي نُشرت في مجلة المشرق، على نموذج المؤرخ الفرنسي بروديل في التاريخ العالمي والذي يتكون من:
- الوقت والمدى المكاني.
- التراكيب والمؤسسات.
- التاريخ السردي.
حيث طبقت أبايدن هذا النموذج لتحليل تطور المعرفة الجغرافية ودور الملّاحين العرب في تطورها.
دور الوقت في رسم المعالم الجغرافية للمنطقة العربية
بالعودة إلى فترة ما قبل انتشار الإسلام وحيث كان التمركز الرئيسي للعرب في منطقة شبه الجزيرة العربية، قسّمت السمات الجغرافية للمنطقة السكان ما بين:
- بدو الداخل الذين يعتمدون على تجارة القوافل.
- القبائل الساحلية، والتي نشطت في الملاحة البحرية في الألف الأولى قبل الميلاد.
انتشرت في تلك الفترة، في المدن الساحلية مثل عدن ومسقط والمواج وحصن الغريب، موانئ وساحات بناء السفن، والتي مكّنت التجار العرب من الوصول إلى شرق إفريقيا، وسيلان (سيريلانكا حالياً)، وإندونيسيا، وملاكا الماليزية. يمكن القول إن البيئة القاحلة والفقيرة بالموارد الطبيعية كانت سبباً دافعاً لهم للتوجه نحو التجارة عبر المحيط الهندي، حيث اكتشفوا مضيق باب المندب كبوابة للملّاحين إلى بحر العرب والمحيط الهندي.
أما بعد ظهور الإسلام في أواسط القرن السابع الميلادي، فقد أضافت الفتوحات العربية المزيد من المساحات البحرية (البحر الأبيض المتوسط) بعد أن تمكن المسلمون من الانتشار في رقعة جغرافية وصلت إلى الهند شرقاً، وجنوب أوروبا، وشمال إفريقيا غرباً. يُذكر أن أحد أهم العوامل المؤثرة في نجاح اختراق البحر المتوسط هو الحافز المادي، إذ يحتفظ المقاتلون العرب بما يقدّر بأربعة أخماس غنائم الحرب، بينما كانت تذهب غنائم البيزنطيين لإمبراطورهم، لذا كانوا أقل تحفيزاً في القتال من العرب.
اقرأ أيضاً: ما النتائج التي توصل لها باحثون من جامعة الشارقة حول جودة المياه في الخزانات المنزلية؟
التراكيب والمؤسسات: دور شبكات التواصل للملاحة في رسم الجغرافية
التراكيب والمؤسسات في الدراسة تشير إلى الأدوات والتقنيات والطرق التي استخدمها الملّاحون العرب في مجال الملاحة والاستكشاف، بما في ذلك الخرائط والكتب والأجهزة البحرية، بالإضافة إلى الطرق التجارية والمؤسسات التي أسسوها لتسهيل تبادل السلع والأفكار بين مختلف المناطق والثقافات. بشكلٍ عام يمكن تقسيمها إلى:
- شبكات التواصل: هي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة الموجودة بين الأفراد أو الجماعات داخل المجتمع، كالانتماء واللغة المشتركة والروابط الأسرية.
تمكنت هذه الهيكلية غير الرسمية للتجار العرب من الوصول إلى الأسواق الإفريقية والآسيوية للبلدان التي غزوها.
بالتزامن مع هذا التوسع بالمدى المكاني، مثّل العرب بهيكلياتهم السياسية والاجتماعية أقوى وأقدم شبكات التواصل، فازدادت ثروتهم، حتى استغنوا عن السفر في البحر بأنفسهم، وأصبحوا مالكي سفن، وفقدوا معرفتهم بالبحار والملاحة، واستعانوا بربان للسفن. تزود الربان بمعلوماته إما من ربان آخر أو من تجربته الشخصية، أو كإرث تناقلته العائلات من جيل إلى جيل.
بشكلٍ عام، لم تصبح شبكات الصلات هذه رسمية، حتى تم اعتماد التوثيق الخطي، ما مكّن من نشر المعرفة الجغرافية.
- الشبكات الحضرية (المدينية): تشير إلى الأنظمة التي تربط الأشخاص والمؤسسات والبنى التحتية الموجودة داخل مدينة أو منطقة حضرية. يمكن أن يشمل ذلك شبكات النقل، والاتصال مثل خطوط الهاتف والاتصال بالإنترنت، والشبكات الاجتماعية، مثل المنظمات المجتمعية.
يعد فهم هذه الشبكات الحضرية أمراً مهماً لمخططي المدن وواضعي السياسات أثناء عملهم على إنشاء مدن مستدامة وصالحة للعيش.
اقرأ أيضاً: ما الذي تخبرنا به الروائح القديمة عن تاريخ الإنسان؟
السرد التاريخي: توثيق المعلومات
أشارت بعض الوثائق إلى حقيقة وجود معرفة جغرافية منذ فترة ما قبل الإسلام، إلا أنها كانت بشكلٍ مبسط وأولي، بسبب فقدان الدقة أو موثوقية المرجع. ومع ذلك، فإن هذه المصادر تُظهر معرفة مبطنة بأساسيات الجغرافيا. يُذكر منها:
- القرآن الكريم: حيث ذكر البحر نحو 14 مرة، بما في ذلك استخدام النجوم وحجم السفن ودور الرياح في تسييرها، ومخلوقات البحار وأنواع المياه.
- الأحاديث الشريفة: حيث قدّم الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة تفاصيل عن بعض الملاحين العرب المعاصرين لتلك الحقبة، مثل تميم الداري.
- النوادر التاريخية: مثل بعض النصوص التي تعود للقرن التاسع الميلادي، والتي وثّقت المعاملات التجارية مع الصين، وقصة السندباد البحري من حكايات ألف ليلة وليلة في القرن العاشر الميلادي، حيث قدّمت تفاصيل دقيقة لبعض البلدان.
- الخرائط الجغرافية: صمم الجغرافيون العرب الخرائط، مثل أبو زيد البلقي، والاستخاري وابن حوقل، بحيث اعتمدوا القبلة مركزاً للعالم. وعلى الرغم من أنها تفتقر الدقة الهندسية، من حيث أشكال القارات وقياساتها، فإنها استطاعت تحديد المدن والمعالم الرئيسية لها.
كما أشار بعض المؤرخين في القرن العاشر، وهما المسعودي والمقدسي، إلى اختلاف الخرائط التي رسمها الملاحون عن خرائط المؤرخين، حيث اعتمدوا على معرفتهم في علم الفلك والرياضيات لرسم مناطق جديدة وإنشاء روابط تجارية مع الأراضي البعيدة.
وبحلول القرن الحادي عشر أصبحت المعلومات الجغرافية في خرائط الملاحين أكثر دقة، لأنها اعتمدت على تحديد المسافات والمواقع بخطوط الطول والعرض.
في أواخر القرن الخامس عشر، استطاع ملّاح جديد جمع المعلومات البحرية والجغرافية وتوثيقها في موسوعة شاملة للمعرفة الجغرافية والتاريخية، النظرية والعملية، هو شهاب الدين أحمد بن ماجد النجدي.
شهاب الدين أحمد بن ماجد النجدي: أسد البحر
ولد شهاب الدين أحمد بن ماجد النجدي عام 1440 للميلاد، لأب وجد ملاحين، لذا اتبع شبكة الصلات المرتكزة على العائلة، إذ تعلم الحرفة منهما ومارسها، إلا أن طموحه كان أكبر، حيث أراد أن يتوسع عبر المزيد من البحار والقارات.
ما ميّز ابن ماجد عمن سبقه هو توثيقه لمعارف الملاحة البحرية والجغرافية، والتي كانت بداية على شكل أبيات شعر، ثم تحولت لاحقاً في سن الـ 22 إلى كتاب "مختصر أصول علم البحر". تضمن الكتاب 11 فصلاَ، موزعاً ما بين:
- مراحل القمر.
- الاسترشاد بالنجوم.
- التقويمات الأربعة (القبطية والبيزنطية والعربية والفارسية).
- إحداثيات نقاط العلام المهمة.
- تعليمات ملاحية في الخليج العربي والمحيط الهندي.
اقرأ أيضاً: هل يقتصر تقليد سلوكيات الأفراد البارزين على البشر؟
ولعل أهم أعمال ابن ماجد، والتي كانت القدوة العملية المتبعة في كل مكان في العالم، هو كتاب "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد"، والذي استغرقت كتابته نحو 15 عاماً. يتضمن الكتاب:
- معلومات ملاحية عملية.
- تعليمات عن إدارة السفن.
- متطلبات مهنة الملاحين الأخلاقية والتقنية.
- لوائح بالمؤرخين التاريخيين والجغرافيين والملاحين القدماء.
في آخر رحلاته، سافر ابن ماجد من إفريقيا إلى الهند عبر البحر المفتوح وليس على طول خط الساحل، في رحلة استمرت لـ 26 يوماً فقط، وهو ما شكّل إنجازاً ملاحياً، يقر بتفوق الملاحين العرب بمعرفتهم الملاحية والجغرافية.