لا تزال أصول نشأة الحياة على الأرض تمثل لغزاً وجودياً وعلمياً عميقاً، ويُفترض منذ فترة طويلة أن المحيطات الوفيرة على كوكبنا قد تحمل مفتاح هذا اللغز. يمكن لدراسة جديدة أجراها علماء من جامعة بوردو أن تنقل هذه الفكرة خطوة إلى الأمام.
درست الورقة البحثية، والتي نُشرت في 3 أكتوبر/ تشرين الأول في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS)، الببتيدات، وهي عبارة عن سلاسل من الأحماض الأمينية تعتبر ركائز صغيرة مهمة للبروتينات والحياة نفسها. اكتشف المؤلفون أن الببتيدات الأمينية يمكن أن تتشكل تلقائياً في قطرات الماء أثناء التفاعلات السريعة التي تحدث عندما يتفاعل الماء مع الغلاف الجوي، على غرار ما يحدث عند تطاير رذاذ الماء في الهواء حول شلال ينحدر فوق الصخور. من المحتمل أن تكون هذه العملية قد حدثت عندما كانت الأرض كوكباً بلا حياة تسوده البراكين والماء ومليئاً بالصخور المنصهرة قبل نحو 4 مليارات سنة عندما بدأت الحياة أول مرة.
اقرأ أيضاً: إلى أين وصلت جهود البشر التي دامت قروناً في سبيل إنشاء خريطة لأسرار قاع البحر؟
كيمياء تشكل الببتيدات: الكيمياء الأساسية لنشوء الحياة على الأرض
يقول أحد مؤلفي الدراسة والأستاذ الجامعي للكيمياء التحليلية في جامعة بوردو، غراهام كوكس، في بيان صحفي: «هذه هي الكيمياء الأساسية وراء أصل الحياة. هذا هو أول دليل على أن الجزيئات البدائية؛ الأحماض الأمينية البسيطة، تشكل تلقائياً الببتيدات التي تعتبر اللبنات الأساسية للحياة، في قطرات من الماء النقي. إنه اكتشاف مثير حقاً».
يقول مؤلفو الدراسة إن هذا الاكتشاف يوفر "مساراً معقولاً لتشكيل البوليمرات الحيوية الأولى"، أو الهياكل المعقدة التي تنتجها الكائنات الحية. كان العلماء يحاولون فهم الآلية وراء هذه العملية على مدى عقود، حيث يمكن أن يساعد حل لغز كيف (وحتى لماذا) نشأت الحياة على الأرض العلماء في البحث بشكل أفضل عن الحياة على الكواكب الأخرى أو حتى الأقمار في مجرتنا وخارجها.
تعود محاولة فهم هذه الكيمياء القائمة على الماء إلى محاولة فهم البروتينات التي تعتبر أساس الحياة على الأرض. يُعتقد أن الأحماض الأمينية الخام التي نشأت منها الحياة قد جاءت مع النيازك إلى الأرض منذ مليارات السنين، فتفاعلت واتحدت مع بعضها لتشكل الببتيدات التي تعتبر الركيزة الأساسية للبروتينات، وللحياة نفسها في نهاية المطاف. ولكن كي تتشكل الببتيدات، يجب فقد جزيء من الماء عندما ترتبط الأحماض الأمينية ببعضها بعضاً، وليس من السهل حدوث ذلك على كوكب معظمه مغطى بالمياه. الماء ضروري لنشوء الحياة في الأساس، ولكن هناك حاجة أيضاً إلى فقدان بعض الماء.
اقرأ أيضاً: بعد إبطاء عجلة الشيخوخة عند الفئران: هل سيتمكن العلماء من إعادة عقارب الساعة للوراء عند البشر؟
مفارقة الماء
يقول كوكس لمجلة فايس موضحاً ما يسميه "مفارقة الماء": «تعود مفارقة الماء إلى التناقض بين الدليل الملموس على أن التفاعلات الكيميائية التي تؤدي إلى نشوء الحياة حدثت في المحيط الموجود قبل نشأة الحياة وبين القيد الترموديناميكي الذي يمنع تماماً هذه التفاعلات (فقدان الماء) التي تحدث في الماء. من جهة أخرى، تتشكل البروتينات من الأحماض الأمينية بفقدان الماء، ولكن ذلك لا يمكن أن يحدث في الماء لأن الماء نفسه سيعكس العملية (بسبب القيود الترموديناميكية)».
تقدم الدراسة الجديدة لمحة نادرة عن الأيام الأولى لكوكب الأرض، حين اندمجت المركبات غير الحية فجأةً لتشكيل كائنات حية. وتدعى عملية تخليق الحياة من المادة غير الحية بالتولّد التلقائي (Abiogenesis)، ولا تزال الآلية وراءها غير مفهومة تماماً. نظراً لأن الببتيدات تشكل أساس البروتينات (والجزيئات الحيوية الأخرى التي تستطيع التكاثر ذاتياً)، فإن إنشاء الببتيدات يعد خطوة حاسمة في التولد التلقائي.
اقرأ أيضاً: كيفية مشاهدة مذنّب «ليونارد» أكثر مذنبات هذا العام سطوعاً
أثبت كوكس وفريقه أن الببتيدات يمكن أن تتشكل بسهولة في البيئات الكيميائية المشابهة لتلك التي كانت موجودة على الأرض منذ مليارات السنين. ومع ذلك، فإن أحد الجوانب الرئيسية هو حجم القطرات الصغيرة التي تتطاير في الهواء أو تنزلق على الصخور، والتي تتفاعل مع الهواء وتشكل تفاعلات كيميائية سريعة. يقول كوكس في هذا الصدد: «معدل التفاعلات في قطرات الماء أسرع من مئة إلى مليون مرة من معدل تفاعل نفس المواد الكيميائية في المحلول السائب».
ظروف جعلت تطور الحياة على الأرض ممكناً
لا تتطلب هذه التفاعلات الكيميائية السريعة محفزاً لبدء التفاعل، ما جعل تطور الحياة على الأرض ممكناً. لإعادة بناء عملية تشكّل الببتيدات المحتملة، استخدم الفريق تجارب "دمج القطيرات"، والتي تحاكي كيفية تصادم قطرات الماء في الهواء. يمكن أن يساعد فهم عملية التخليق الكيميائي التي تحدث عندما تتجمع الأحماض الأمينية لتشكل البروتينات علماء التخليق الكيميائي على تسريع التفاعلات الكيميائية الحاسمة لابتكار عقاقير وعلاجات جديدة للأمراض.
يقول كوكس: «إذا كنت تتجول ليلاً في حرم الجامعة ورأيت بعض المباني المضيئة، فإنها المكان الذي يعمل فيه علماء التخليق الكيميائي، نظراً لأن تجاربهم بطيئة جداً إلى درجة أن كل تجربة قد تستمر لأيام أو أسابيع. لم يعد ذلك ضرورياً الآن، فقد بنينا جهازاً معتمدين على التفاعلات الكيميائية في قطرات المياه، ويستخدم حالياً في جامعة بوردو لتسريع تصنيع المواد الكيميائية والعقاقير الجديدة المحتملة».