دراسة جديدة: لماذا عانى كتبة مصر القديمة تلف العظام؟

3 دقيقة
دراسة جديدة: لماذا عانى كتبة مصر القديمة من تلف العظام؟
تماثيل تبيّن صاحب المقام الرفيع، الفرعون نفر، وزوجته في بلدة أبو صير في مصر.

كان بناء أهرامات مصر القديمة الشهيرة مهمة جسدية متطلبة للغاية، ولكن كان هناك أيضاً قدر كبير من الأعمال الكتابية والإدارية التي تعيّن على الكتبة إنجازها. من المحتمل أن كلاً من المهام التكرارية التي أجراها هؤلاء الرجال أصحاب المكانة العالية والوضعيات التي اتخذوها في أثناء العمل أدّى إلى تغيرات تنكسية في هياكلهم العظمية. وُصفت هذه التغيرات العظمية في دراسة نشرت بتاريخ 27 يونيو/حزيران 2024 في مجلة ساينتفيك ريبورتس (Scientific Reports)، وهي تساعدنا على فهم حياة الكتبة خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد.

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تُبيّن أن أطباء َمصر القديمة ربما حاولوا علاج السرطان

زمن بناة الأهرامات والكتبة

عاش الكتبة الذين فحصتهم الدراسة الجديدة خلال عصر المملكة القديمة في مصر (2700 إلى 2180 قبل الميلاد). كانت هذه أيضاً هي الفترة التي عاش فيها بناة الأهرامات، عندما كان الملك يُعد إلهاً حياً. يعود بعض البقايا إلى عهد الملك ني أوسر رع الذي حكم مدة 30 عاماً تقريباً.

تقول عالمة المصريات في المعهد التشيكي لعلم المصريات في جامعة تشارلز والمؤلفة المشاركة للدراسة، فيرونيكا دوليكوفا، لبوبيولار ساينس: "أُجري خلال فترة حكم هذا الملك العديد من التغييرات في الإدارة والدين وهندسة المقابر غير الملكية. انتشرت في عهده السياسة الملكية الاستراتيجية على نطاق أوسع أول مرة في مصر القديمة. زوّج ني أوسر رع الأميرات إلى عائلات من مقامات رفيعة تتمتّع بالنفوذ والقوة بهدف تمتين التحالفات معها".

وفقاً لدوليكوفا، يستطيع العلماء والمؤرخون تحديد المكانة الاجتماعية لأي فرد من خلال موقع قبره داخل المقبرة وأبعاده وأنواع المواد المستخدمة في الدفن. تمتّع الكتبة بمكانة اجتماعية عالية وكانوا رجالاً يستطيعون الكتابة وأداء المهام الإدارية.

 

تقول دوليكوفا: "هذه النصوص هي في الأساس نصوص ذات طبيعة إدارية تتعلق بعمل المكاتب الفردية وإدارة البلاد ككل. كما أنها تعلقت بعمل مجمّعات الأهرامات الملكية؛ أي مقابر الملوك. بما أن المصريين القدماء سجلوا كل شيء بعناية فائقة، يمكننا أن نحدد من هذه النصوص الكهنة الرفيعي المقام (مثل الكهنة الخدم للآلهة) الذين عملوا في المعبد الهرمي، وأنواع الأثاث والتجهيزات التي حُفظت في مخازن هذا المعبد وغير ذلك".

اقرأ أيضاً: بلسم التحنيط: سرٌ جديد من أسرار الحضارة المصرية

الحقيقة في العظام

فحص فريق الدراسة بقايا الهيكل العظمي لـ 69 ذكراً بالغاً من الذين دفنوا في مقبرة أبو صير في مصر بين عامي 2700 و2180 قبل الميلاد. كان 30 رجلاً من هؤلاء من الكتبة. اكتشف الفريق أن التغيرات التنكسية في المفاصل كانت أكثر شيوعاً بين الكتبة مقارنة بالرجال الذين عملوا في مهن أخرى. لاحظ الباحثون هذه التغيّرات في المفاصل التي تربط الفك السفلي بالجمجمة، وعظمة الترقوة اليمنى والجزء العلوي من عظم العضد الأيمن حيث يتصل بالكتف، وعظم السِّنع الأول في الإبهام الأيمن، وأسفل الفخذ حيث يتصل بالركبة، وفي مختلف أنحاء العمود الفقري لكن في أعلاه على وجه الخصوص.

تقول عالمة الأنثروبولوجيا في المتحف الوطني في براغ والمؤلفة المشاركة للدراسة، بيترا بروكنر هافيلكوفا، لبوبيولار ساينس: "خلافاً لتوقعاتنا، لم يستخدم الكتبة الأطراف السفلية بدرجة مختلفة كثيراً عن غيرهم من الرجال. يعود ذلك على الأرجح إلى أن وضعية الجلوس مع تصالب الرجلين أو وضعية الركوع كانت رائجة بين بقية السكان أو طبيعية بالنسبة لهم. ربما أكثر ما فاجأنا هو الحِمل الزائد للغاية على مفاصل الفك لدى الكتبة. هذه ظاهرة لم نتوقعها حتى في البداية؛ إذ إننا ركّزنا في المقام الأول على الأجزاء الأخرى في الهيكل العظمي المختلفة عن الجمجمة".

يعتقد الباحثون أن التغيرات في العظام قد تكون مؤشراً على الإجهاد البدني الناجم عن الاستخدام المتكرر لعظم العضد وعظم الورك الأيسر. كانت هذه التغيرات أكثر شيوعاً بين الكتبة مقارنة بالرجال الذين عملوا في مهن أخرى. ظهرت أيضاً في الهياكل العظمية للكتبة فجوات في كلتا الرضفتين، وظهر سطح مسطح على عظمة في الجزء السفلي من الكاحل الأيمن.

قد ينتج التنكس الملحوظ في العمود الفقري والكتفين من الجلوس مع تصالب الرجلين وميلان الرأس إلى الأمام وثني العمود الفقري مع عدم إسناد الذراعين. قد تشير التغيرات في الركب إلى أن الكتبة فضّلوا الجلوس وسيقانهم اليسرى في وضعة الركوع أو القرفصاء مع ثني الساق اليمنى وتوجيه الركبة للأعلى، في وضعية الجثوم أو القرفصاء. يبين العديد من التماثيل وزخارف الجدران في المقابر الكتبة وهم يجلسون في هاتين الوضعيتين ويقفون أيضاً في أثناء العمل.

يمكن أن يكون التنكس في مفاصل الفك ناتجاً عن عض الكتبة لنهايات سيقان نبات الأسل لتشكيل رؤوس تشبه الفرشاة يمكنهم الكتابة باستخدامها. في حين قد تكون التغيرات في عظام الإبهام الأيمن ناجمة عن الضغط المستمر على الأقلام.

تقول هافيلكوفا: "عندما توصلنا إلى النتائج وفهمنا هذه التغيرات في ضوء عض الكتبة لأقلامهم الرفيعة التي تشبه الفرشاة والمصنوعة من الأسل، ولكن أيضاً في ضوء الإعاقة في العمود الفقري العنقي الذي يرتبط وظيفياً ارتباطاً وثيقاً بالمفصل الصدغي الفكي، بدت هذه النتائج منطقية ومتوقعة للغاية".

اقرأ أيضاً: فرع مفقود لنهر النيل قد يساعد على تفسير وجود الأهرامات في مكانها الحالي

الجمع بين الرياضيات والأنثروبولوجيا

وفقاً لهافيلكوفا ودوليكوفا، تمثل الدراسة الجديدة مجرد بداية هذا النوع من الأبحاث التي تنظر في عظام الكتبة. يأمل الباحثون إثبات صحة هذه الفرضيات من خلال إجراء المزيد من الدراسات، التي من المحبّذ أن تشمل مجموعة مختلفة من بقايا الهياكل العظمية البشرية من زمان ومكان قريبين من موقع الدفن في المملكة المصرية القديمة الذي استُخرجت البقايا التي فُحصت في الدراسة الجديدة منه.

تقول دوليكوفا: "أنا متحمسة للغاية لإجراء أبحاث تعاونية متعددة التخصصات مع علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الرياضيات. يتّبع علماء الرياضيات طريقة مختلفة في التفكير ويعملون بطرق مختلفة ويطرحون أسئلة مختلفة. والأمر نفسه ينطبق على علماء الأنثروبولوجيا. لذلك، ستوفّر الأبحاث المشتركة حول مجتمع المملكة القديمة رؤى عميقة جديدة حول آليات عمل هذا المجتمع".

المحتوى محمي