ما موجة الموت التي تصيب الدماغ؟ وما فوائد دراستها؟

5 دقيقة
ما موجة الموت التي تصيب الدماغ؟ وما فوائد دراستها؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/peterschreiber.media
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لطالما كان الدماغ البشري، بتركيبه المعقد ووظائفه المذهلة والمتشعبة، مصدر إلهام ورهبة للعلماء والفلاسفة على حد سواء ولغزاً يثير فضولهم. ولعل أحد أكثر الجوانب غموضاً في هذا العضو الحيوي هو عملية موته، خاصة عند انقطاع إمداده بالأوكسجين، مثلما يحدث في السكتات الدماغية أو الغرق أو النوبات القلبية. ففي هذه الحالات، تُحرم الخلايا العصبية، وحدات بناء الدماغ وأساس وظائفه، من مصدر الطاقة الأساسي لها، ما يؤدي إلى سلسلة من الأحداث الكهربائية والكيميائية التي تنتهي بموتها، وبالتالي فقدان الوظائف العقلية والحركية للإنسان.

في دراسة حديثة ونوعية، ألقى فريق من الباحثين في معهد باريس للدماغ في جامعة السوربون الفرنسية الضوء على ديناميكيات موت الدماغ على نحو غير مسبوق؛ من خلال استكشاف كيفية استجابة طبقات القشرة الدماغية المختلفة لنقص الأوكسجين والتركيز على الطبقة الخامسة (L5) من القشرة الحسية الجسدية (S1)، وهي منطقة من الدماغ تؤدي دوراً رئيسياً في معالجة المعلومات الحسية والتحكم في الحركة.

وباستخدام مجموعة من التقنيات المتطورة؛ منها تسجيلات إمكانات المجال المحلي (LFP) والتيار المستمر (DC) وتسجيلات داخل خلوية، رصد الباحثون النشاط الكهربائي للخلايا العصبية بدقة عالية وراقبوا التغيرات التي تطرأ عليه مع مرور الوقت في ظل ظروف مُحاكية لنقص الأوكسجين. تغير نتائج هذه الدراسة التي نشرتها دورية البيولوجيا العصبية للأمراض (Neurobiology of Disease) من فهمنا لسكتات الدماغ، وتمهد الطريق لتطوير علاجات جديدة.

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن خلايا الدماغ التي تزداد نشاطاً بعد الموت؟

الدماغ لا ينطفئ فجأة

لا يتوقف نشاط الدماغ على الفور عند انقطاع الأوكسجين، بل يمر بثلاث مراحل حسب الدراسة:

  1. زيادة وجيزة في نشاط موجات التردد العالي: في البداية، تُظهر الخلايا العصبية نشاطاً كهربائياً متزايداً، خاصة في نطاق موجات (بيتا-غاما) التي ترتبط عادة باليقظة والمعالجة المعرفية. يمكن تفسير هذه الزيادة كأنها "صرخة استغاثة" من الدماغ، حيث تُحاول الخلايا العصبية التواصل مع بعضها بعضاً على نحو محموم قبل أن يؤثر نقص الأوكسجين في قدرتها على إنتاج الطاقة.
  2. التذبذبات منخفضة التردد: تبدأ موجات دماغية بطيئة من نوع (دلتا-ثيتا) في الظهور، وهي موجات ترتبط عادة بالنوم العميق وفقدان الوعي. في هذه المرحلة، تعجز الخلايا العصبية عن الحفاظ على مستويات الطاقة اللازمة لوظائفها؛ ما يؤدي إلى دخول الدماغ في حالة تشبه الغيبوبة.
  3. مرحلة الصمت الكهربائي: تعجز الخلايا العصبية في النهاية عن إنتاج أي نشاط قابل للقراءة، وهي علامة واضحة على توقف وظائف الدماغ، ويطلق عليها العلماء "موجة الموت".

الطبقة الخامسة (L5): نقطة الضعف الرئيسية

درس الباحثون كيفية استجابة كل طبقة من طبقات القشرة الدماغية لنقص الأوكسجين، ووجدوا أن الطبقة الخامسة الغنية بالخلايا العصبية المسؤولة عن وظائف مهمة، مثل التحكم الحركي والإدراك، هي الأكثر عرضة للضرر الناتج عن نقص الأوكسجين.

ويُرجح الباحثون أن هذا يعود إلى عدة عوامل تُسهم في جعل طبقة (L5) أكثر حساسية من غيرها:

  • النشاط المرتفع وطلب الأوكسجين: تتميز خلايا طبقة (L5) بنشاطها المرتفع مقارنة بطبقات أخرى من القشرة الدماغية، وبالتالي تحتاج إلى كميات أكبر من الأوكسجين والغلوكوز للحفاظ على وظائفها. عند نقص الأوكسجين، يزداد تعرض هذه الخلايا للضرر بسبب شدة احتياجها للأوكسجين والانخفاض السريع في مخزونها من الطاقة.
  • كثافة الوصلات العصبية: تتمتّع طبقة (L5) بكثافة عالية من الوصلات العصبية؛ ما يُسهل انتشار موجة إزالة الاستقطاب، التي تعد علامة على بدء موت الخلايا العصبية، وانتقالها إلى المناطق المُجاورة في الدماغ؛ ما يُسرع انتشار الضرر.

اقرأ أيضاً: إليك أغرب الحقائق عن الدماغ

هل يمكن إنعاش الدماغ بعد موته؟

على الرغم من أن حدوث موجة إزالة الاستقطاب يُشير عادة إلى بدء موت الخلايا العصبية، أظهرت الدراسة أن هذه العملية ليست بالضرورة نهائية، فبعد عودة التروية، يمكن أن تستعيد بعض الخلايا العصبية نشاطها، وذلك من خلال إنتاج موجات كهربائية تُعرف بموجات إعادة الاستقطاب. تشير هذه الموجات إلى استمرار قدرة بعض الخلايا العصبية على التعافي، حتى بعد التعرض لنقص الأوكسجين فترة من الوقت.

ومع ذلك، وجدت الدراسة أن موجات إعادة الاستقطاب لا تتبع نمطاً محدداً، بل تحدث بشكل أكثر عشوائية، وهذا يُشير إلى أن عملية تعافي الخلايا العصبية بعد عودة الأوكسجين تتأثر بعوامل مختلفة، مثل مدى الضرر الذي لحق بالخلايا وخصائصها الفردية.

حدود الدراسة

على الرغم من أهمية نتائج الدراسة، فإن هناك بعض القيود التي يجب أخذها بعين الاعتبار:

  • أُجريت الدراسة على الفئران، وعلى الرغم من تشابه العديد من آليات عمل الدماغ بين الفئران والبشر، فإن هناك اختلافات قد تحدّ من تعميم النتائج على البشر على نحو قاطع.
  • خُدرت الفئران خلال الدراسة، وقد يؤثر التخدير في النشاط الدماغي ويغير الاستجابات الفيزيولوجية لنقص الأكسجة.
  • جرى تحفيز نقص الأكسجة في البيئة المُتحكَّم بها للدراسة، لكن قد تختلف الاستجابات في الحياة الواقعية التي تتضمن عوامل أخرى، مثل الصدمات أو الأمراض.
  • ركزت الدراسة على منطقة القشرة الحسية الجسدية لكن قد تختلف استجابة المناطق الدماغية الأخرى لنقص الأكسجة.

آفاق جديدة

تسهم نتائج هذه الدراسة في تغيير فهمنا لما يحدث في الدماغ المُحتضر، وخاصة في أثناء نقص الأكسجة. وتوضح أن الدماغ لا "ينطفئ" مباشرة، بل يمر بسلسلة من التغيرات في النشاط الكهربائي، ما قد يفسر التجارب القريبة من الموت التي يبلّغ عنها البعض. كما تفتح آفاقاً جديدة لحماية هذا العضو الحيوي من الضرر الناتج عن نقص الأوكسجين، وتُمهد الطريق لتطوير استراتيجيات وقائية وعلاجية جديدة، منها:

  • تطوير بروتوكولات إنعاش مُحسّنة: قد تساعد معرفة أن طبقة (L5) أكثر حساسية لنقص الأوكسجين في توجيه الجهود لحمايتها بطريقة محددة في أثناء السكتة الدماغية أو حالات الطوارئ الأخرى. مثلاً، يمكن تطوير تقنيات تبريد موضعي لهذه المنطقة الدماغية في أثناء الإنعاش القلبي الرئوي (CPR) للحد من الضرر.
  • تطوير علاجات جديدة: يمكن تطوير علاجات جديدة لأمراض الدماغ المرتبطة بنقص الأكسجة، مثل الخرف أو الشلل الدماغي، لتقليل الضرر وتحسين فرص التعافي.
  • مراقبة محسّنة لنشاط الدماغ: يمكن تطوير أجهزة مراقبة أكثر دقة لنشاط الدماغ في أثناء السكتة الدماغية أو حالات الطوارئ الأخرى، ما يُتيح للأطباء تقييماً أفضل لمدى الضرر واتخاذ قرارات علاجية أكثر فاعلية.
  • أهمية الإسعافات الأولية: بعد معرفة مرور الدماغ بمراحل قبل توقف نشاطه تعززت أهمية تعلم كيفية تعامل الشخص العادي مع حالات الطوارئ، مثل السكتة الدماغية أو الغرق أو النوبات القلبية؛ ما قد ينقذ حياة الكثيرين.
  • تحسين بيئة العمل: تُلهم هذه الدراسة أصحاب العمل لتوفير بيئة آمنة تقلل من مخاطر حوادث العمل التي قد تؤدي إلى نقص الأكسجة، مثل التأكد من التهوية الجيدة وتوفير معدات السلامة.
  • رفع كفاءة التعلم والعمل: يمكن للشخص العادي تحسين تركيزه وإنتاجيته من خلال أخذ فترات راحة قصيرة للتنفس بعمق أو ممارسة بعض التمارين الخفيفة لتنشيط الدورة الدموية.
  • زيادة الوعي: تؤكد الدراسة أهمية الأوكسجين للدماغ، ما قد يشجع الناس على عيش أنماط حياة صحية من خلال اتباع نظام غذائي متوازن، وممارسة الرياضة بانتظام، والحصول على قسط كافٍ من النوم، وإدارة التوتر؛ وذلك لدعم صحة القلب والأوعية الدموية، وضمان وصول كميات كافية من الأوكسجين إلى الدماغ، والحد من مخاطر الإصابة بأمراض قد تؤثر في وصول الأوكسجين إليه.

ينصح اختصاصي أمراض الأعصاب، محمد المهدي، باتباع ثلاث طرق لتجديد خلايا الدماغ والحفاظ على صحته وتقليل خطر الإصابة بأمراض مثل ألزهايمر والاكتئاب، وهي التعلم المستمر وممارسة الرياضة وتناول العناصر الغذائية المفيدة للدماغ، وتشمل الدهون الصحية: مثل تلك الموجودة في الجوز (عين الجمل) والأطعمة المحتوية مادة الهسبريدين (الموجود في الحمضيات كالليمون) إلى جانب الزنجبيل والزعتر وفطر عرف الأسد.

اقرأ أيضاً: ما هي عملية «التجديد العصبية» التي يخضع لها الدماغ بعد سن الأربعين؟

كما تؤكد اختصاصية التغذية، ميرنا الصباغ، أهمية النظام الغذائي الصحي في الحفاظ على صحة الدماغ، وتذكر 6 عناصر غذائية مهمة لصحة الدماغ، وتشمل:

  1. الكولين: متوفر في صفار البيض والدجاج واللحوم والخضروات الورقية، وهو ضروري لصحة دماغ الجنين في المراحل الأولى من الحمل.
  2. أوميغا 3: يكوّن 25% من دهون الدماغ، ومصادره الأسماك والمكسرات.
  3. اللوتين: غني بالأحماض الدهنية غير المشبعة الضرورية لعمل خلايا الدماغ.
  4. البروتين: ضروري لصنع النواقل العصبية في الدماغ، ومصادره اللحوم والدجاج والبقوليات.
  5. الإلكتروليتات: مثل الصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم والمغنيزيوم، ومصادرها الخضروات والفواكه.
  6. الدهون الصحية: متوفرة في المكسرات النيئة.

كما تحذر الصباغ من العادات الغذائية السيئة التي يمكن أن تُضعف الذاكرة وتزيد خطر الإصابة بألزهايمر، ومنها الإفراط في تناول السكر والكربوهيدرات المكررة والدهون غير الصحية والأطعمة المصنعة والمقلية.