في حال نجاحه: الاندماج النووي البارد قد يشكّل ثورة في إنتاج الطاقة

عودة مثيرة لتقنية الاندماج البارد إلى المشهد العلمي
المبنى المحاط بحلقة دائرية هو المرفق الأوروبي للإشعاع السنكروتروني في فرنسا، حيث يدرس الباحثون في مجال التفاعلات النووية المنخفضة الطاقة جسيمات البلاديوم النانوية. المرفق الأوروبي للإشعاع السنكروتروني/ بي. جاييت

في وقت سابق من هذا العام، أعلنت وكالة أربا- إي (ARPA-E)، وهي وكالة حكومية أميركية مُخصصة لتمويل أبحاث الطاقة المتقدمة، عن عدد من المِنح لمجال تسمّيه "التفاعلات النووية المنخفضة الطاقة" أو "إل إي إن آر" (LENR). ربما لم يلاحظ معظم العلماء الخبر الذي أعلنت عنه الوكالة. لكن بالنسبة لمجموعة صغيرة من هؤلاء العلماء، كان الإعلان تأكيداً لصحة تخصصهم في مجال الاندماج البارد.

الاندماج البارد

الاندماج البارد، الذي يُعرف لدى الخبراء باسم التفاعلات النووية المنخفضة الطاقة (LENR)، هو علم أو فن دمج النوى الذرية، وتسخير الطاقة الناتجة عنها تسخيراً مثالياً. يحدث كل ذلك دون الحاجة إلى درجات حرارة عالية جداً، ربما تصل إلى ملايين الدرجات، التي تتطلبها عملية الاندماج النووي التقليدي. إذا تحقق حلم الاندماج البارد بنجاح، فسيوفر لنا موارد غير محدودة من الطاقة النظيفة التي يمكن الحصول عليها بسهولة.

اقرأ أيضاً: صغيرة الحجم وعالية الأداء: ماذا تعرف عن الجيل الجديد من المفاعلات النووية؟

على الرغم من أن هذا يبدو مثيراً للإعجاب، لم يحظَ الاندماج البارد بالاهتمام خلال الـ 30 عاماً الماضية، وذلك بعد أن أثار جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية، إذ ادّعى عالمان في مجال الكيمياء في عام 1989 تحقيق هذا الإنجاز، الذي لم يتمكن أي شخص آخر من تكرار نتائجه، ما أدى إلى شكوك كبيرة في صحة هذا الاكتشاف. لا توجد حتى الآن نظرية مقبولة بصورة عامة تدعم الاندماج البارد، ولا يزال العديد يشككون في إمكانية حدوثه. على الرغم من ذلك، يعتقد العلماء والمهندسون الذين يعملون في مجال التفاعلات النووية المنخفضة الطاقة أن المنح الجديدة تشكل إشارة على أن هذا المجال بدأ يؤخذ على محمل الجد بعد عقود من إهماله.

يعتقد المهندس في جامعة جورج واشنطن، ديفيد نيغيل (David Nagel)، أن الاندماج البارد بدأ بصورة سيئة وتعرّض لانتقادات لاذعة، لكن بعد عدة سنوات، ظهرت الدلائل، التي تدعم فكرة تحقيق هذه التقنية.

كيف يتحقق الاندماج البارد؟

يتطلب تحفيز عملية الاندماج الضغط على نوى الذرات معاً، ما يؤدي إلى إنشاء نوى أكبر وإطلاق كميات هائلة من الطاقة. بالتأكيد، هذا ليس بالأمر السهل. تحتوي النواة على بروتونات تمنحها شحنة إيجابية، فيما تتنافر النوى، التي تحمل الشحنة نفسها، كهربائياً. ويجب على علماء الفيزياء دفع الذرات بقوة ليصطدم بعضها ببعض.

يتطلب تجاوز هذا الحد عادة كمية هائلة من الطاقة، لذلك يحدث الاندماج بصورة طبيعية في النجوم، حيث تسود درجات حرارة عالية وضغوط هائلة، وتحتاج التجارب الأرضية إلى إنشاء ظروف مشابهة لتحقيق الاندماج. لكن ماذا لو وُجدت طريقة أخرى تعمل عند درجة حرارة أقل؟

درس العلماء هذه الطرائق منذ بداية القرن العشرين، ووجدوا بعض الأساليب غير الفعالة والمعقدة للغاية. لكن في الثمانينيات، اعتقد عالمان في مجال الكيمياء أنهما تمكّنا من تحقيق نجاح كبير باستخدام إحدى هذه الطرائق.

اقرأ أيضاً: لماذا تحتاج محطات الطاقة النووية إلى الكهرباء لتبقى آمنة؟

وضع الثنائي مارتن فلايشمان (Martin Fleischmann) وستانلي بونز (Stanley Pons) معدن البلاديوم الثمين في حوض يحتوي على ماء ثقيل؛ وهو شكل من أشكال الماء (O2H)، الذي تحتوي ذرات الهيدروجين فيه على نيوترون إضافي، وتسمى هذه الصيغة الديوتيريوم (deuterium)، الذي يُستخدم عادة في العلوم النووية. عندما وصل كل من فلايشمان وبونز تياراً كهربائياً عبر جهازهما وتركاه يعمل لفترة من الوقت، لاحظ الباحثان زيادات حرارية مفاجئة وشديدة، بحسب زعمهما، بالإضافة إلى رصد جزيئات تشبه النيوترونات.

وفقاً لما ذكره العالمان، لا يمكن لأي عملية كيميائية تفسير هذه الزيادات الحرارية والجزيئات التي لاحظاها. لكن يمكن تفسير ذلك باندماج نوى الديوتيريوم في الماء الثقيل، بالطريقة نفسها التي يحدث بها الاندماج في النجوم.

إذا كانت نتائج فلايشمان وبونز صحيحة، فإن الاندماج يمكن أن يحدث في درجة حرارة الغرفة داخل مختبر كيميائي بسيط. إذا كنت تعتقد أن هذا يبدو مثالياً لدرجة يصعب تصديقها وتحقيقها، فأنت لست وحدك في هذا الرأي. عندما أعلن الثنائي عن نتائجهما في عام 1989، شهد المجتمع العلمي ردود فعل شديدة، وكانت هذه النتائج واحدة من أكثر الأحداث إثارةً وجدلاً في تاريخ العلوم الحديثة. حاول العلماء إعادة تجربة فلايشمان وبونز، لكن لم يتمكن أحد من تكرار النتائج تكراراً صحيحاً.

اقرأ أيضاً: ما تبعات أزمة الطاقة الأوروبية على تجارب مصادم الهادرونات الكبير؟

نتائج مثيرة للجدل

ثمة جدل كبير بشأن نتائج تجربة فلايشمان وبونز، ولا يزال العلماء يختلفون حتى اليوم حول صحة نتائج التجربة ودقتها. ربما كانت المشكلة أن هذين العالميَن الكيميائيين يحاولان تحقيق إنجاز في مجال يُعد من اختصاص علماء الفيزياء. بغض النظر عن النتائج التي توصلا إليها، لكنّ الدلائل لإثبات فرضية الاندماج البارد لم تكن كافية لتحظى باعتراف المجتمع العلمي.

على الرغم من ذلك، تتواصل تجارب التفاعلات النووية المنخفضة الطاقة. (حاول بعض الباحثين إجراء بعض التعديلات على نظرية فلايشمان وبونز، وسعى آخرون، لا سيّما في اليابان، إلى استخدام فكرة التفاعلات النووية المنخفضة الطاقة بوصفها وسيلة لتنظيف النفايات النووية عن طريق تحويل النظائر المشعّة إلى نظائر أقل خطورة). كشف بعض التجارب عن ظواهر غريبة مثل الحرارة الشديدة أو ظهور جسيمات ألفا، وهي ظواهر يمكن تفسيرها تفسيراً أفضل إذا تفاعلت النوى الذرية بطريقة لا يمكن ملاحظتها بسهولة.

يقول المحلل في معهد بريكثرو (Breakthrough Institute) للدراسات وطالب الدراسات العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، جونا ميسينجر (Jonah Messinger): "نجح الباحثون والعلماء المهتمون بمجال التفاعلات النووية المنخفضة الطاقة في الحفاظ على هذا المجال على قيد الحياة واستمراره في العمل والتطور على مدى 30 عاماً، على الرغم من التحديات التي واجهوها، وذلك بفضل إيمانهم بقدرتهم على تحقيق التقدم في هذا المجال".

تجارب فلايشمان وبونز

لا تزال المشكلة الرئيسية التي تواجه تجارب فلايشمان وبونز، والتي تتمثل في عدم إمكانية تكرار نتائج تجاربهما، تلقي بظلالها على هذا المجال. حتى بعض التجارب اللاحقة التي بدت أنها ناجحة، لا يمكن تكرار نتائجها. لكن لم تثنِ هذه التحديات المؤيدين الحاليين للتفاعلات النووية المنخفضة الطاقة عن دعم هذا المجال ومواصلة البحث والتطوير فيه. يقول العالم النووي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فلوريان ميتزلر (Florian Metzler): "يعاني العلم دائماً من مشكلة قابلية تكرار النتائج".

في ظل غياب الدعم الكبير من الحكومات والمؤسسات الرسمية، قدَّم القطاع الخاص الكثير من الدعم لمجال التفاعلات النووية المنخفضة الطاقة. في أواخر عام 2010، على سبيل المثال، أنفقت شركة جوجل عدة ملايين من الدولارات على أبحاث الاندماج البارد، لكن لم تحقق النتائج المأمولة. لكن الآن بدأت وكالات التمويل الحكومية بإظهار اهتمام أكبر بهذا المجال. إذ انضم برنامج أربا- إي (ARPA-E) إلى مشروعَي الاتحاد الأوروبي، هيرميس (HERMES) وكلين آتش إم إي (CleanHME)، اللذين انطلقا في عام 2020. (ميسينجر وميتزلر هما عضوان في فريق معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي سيحصل على تمويل من برنامج أربا- إي)

اقرأ أيضاً: نجاح تفاعل الاندماج النووي في مفاعل جيت الأوروبي: خطوة صغيرة أم قفزة كبيرة؟

مقارنة بالتمويل الذي يُخصص لأبحاث الطاقة الأخرى، لا تُعد المبالغ المخصصة لهذا المجال كبيرة؛ إذ تقدّر ميزانية برامج الاتحاد الأوروبي وبرنامج أربا- إي بنحو 10 ملايين دولار لكل منها، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بأكثر من مليار دولار تخطط الحكومة الأميركية لإنفاقها في عام 2023 على أبحاث الاندماج التقليدي.

لكن وفقاً لمؤيدي هذا التمويل، ستُستخدم هذه الأموال بطرق مهمة. توجد مسألتان رئيسيتان يجب التركيز عليهما في هذا المجال. الأولى هي جذب الانتباه إلى هذا المجال من خلال ورقة بحثية عالية الجودة توضِّح وجود ظواهر غير متوقعة وغير اعتيادية، ويفضّل نشرها في مجلة مرموقة مثل نيتشر (Nature) أو ساينس (Science). يقول ميتزلر: "أعتقد أن ذلك سيؤدي إلى زيادة التمويل لهذه التقنية، كما سيتضاعف عدد الأشخاص الذين يعملون في هذا المجال ويسهمون في تطويره".

الهدف الثاني، الذي يتطلب وقتاً أطول، هو شرح كيفية عمل تقنية الاندماج البارد. وفقًا لفهم العلماء لقوانين الفيزياء الحالية، لا توجد إجابة متفق عليها حول سبب إمكانية حدوث الاندماج البارد.

لا يرى ميتزلر أن هذا السؤال المطروح يمثل مشكلة؛ إذ يقول: "أحياناً يطرح الناس هذه الأسئلة الجدلية؛ مثل فكرة أن الاندماج البارد يتعارض مع قوانين الفيزياء القائمة حالياً، أو شيء من هذا القبيل". لكنه يعتقد أن ثمة أسئلة لا تزال تحتاج إلى إجابات في الفيزياء النووية، خاصة عند التعامل مع الذرات الأكبر حجماً. يقول: "لا نزال نجهل إلى حد كبير الجوانب المتعلقة بالأنظمة النووية".

وعلى الرغم من ذلك، يرى خبراء آخرون أن الإجابة عن تلك الأسئلة ستكون لها فوائد كبيرة. يقول نيغيل: "يشعر العديد من الأشخاص في المجتمع العلمي بالإحباط ما دامت هذه الظاهرة غير مفهومة، لذلك، فهم ليسوا على استعداد للاهتمام بهذا الموضوع".

اقرأ أيضاً: مفاعلات نووية بحجم سلة المهملات لتأمين الطاقة للمستوطنات المريخية

بالطبع، من الممكن تماماً أن يكون الاندماج البارد مجرد وهم. إذا كان الأمر كذلك فعلاً، فمن الممكن أن توفر منحة برنامج أربا- إي دليلاً إضافياً للباحثين لإثبات عدم صحة نظرية الاندماج البارد. ومن الممكن أن توفر دليلاً على وجود ظواهر غير معروفة يمكن أن تسهم في حدوث الاندماج البارد.

يقول مؤيدو مجال التفاعلات النووية المنخفضة الطاقة، إن البحث الذي أجراه كل من فلايشمان وبونز يتلاشى الآن مع دخول الباحثين الأصغر سناً إلى هذا المجال، إذ لا يتذكر هؤلاء الجدل الذي حدث في عام 1989، ما يسهم في تحرير هؤلاء الباحثين الشباب من أي تحيزات سلبية تجاه الاندماج البارد. ربما سيسمح هذا الأمر بخروج نظرية التفاعلات النووية المنخفضة الطاقة من عباءة البحث الذي أجراه كل من فلايشمان وبونز، ويتمنى ميسينجر أن يكون مجتمع علماء الفيزياء مستعداً للاستماع إلى أي ظواهر غير متوقعة قد يُكشف عنها في هذا المجال ومناقشتها.

المحتوى محمي