تتبول الحيوانات جميعها للتخلص من الفضلات السائلة في الجسم. وعلى الرغم من أن بول الشخص السليم له لون أصفر مميز، فشل العلماء خلال قرون من الزمن في كشف العامل الذي يمنح البول هذا اللون. ولكن الآن، يعتقد علماء من جامعة ميريلاند والمعاهد الوطنية للصحة أنهم حلّوا هذا اللغز من خلال تحديد الإنزيم الميكروبي الذي يمنح البول لونه الأصفر. فُصّلت النتائج في دراسة نشرت بتاريخ 3 يناير/كانون الثاني 2024 في مجلة نيتشر مايكروبايولوجي (Nature Microbiology).
إنزيم يوجد في ميكروبيوم الأمعاء يمنح البول لونه الأصفر
وفقاً لعالم البيولوجيا الدقيقة في جامعة ميريلاند والمؤلف المشارك للدراسة، برانتلي هول، اكتشف الفريق أن العامل الذي يمنح البول لونه هو إنزيم يوجد في ميكروبيوم الأمعاء يحمل اسم بيليروبن ريدوكتاز، وذلك اعتماداً على المعلومات التي جُمعت في أبحاث أجريت على مدى عقود تعود إلى ستينيات القرن الماضي بالإضافة إلى تجربة مخبرية صعبة استمرت 3 سنوات ونصف.
قال هول لبوبساي: "ميكروبيوم الأمعاء مليء بالمواد المذهلة التي تؤدي الوظائف الكيميائية، والجزيئات التي تركّبها الميكروبات المعوية مهمة للغاية في فيزيولوجيا البشر. سنتوصل إلى فهم أعمق للكثير من الظواهر المهمة بينما نتعلم المزيد عن كيمياء الميكروبات المعوية. ولكن الخطوة الأولى في هذه الجهود هي اكتشاف الإنزيمات وراء هذه الظواهر. لن نتمكن حتى من بدء الأبحاث إذا لم نكتشف هذه الإنزيمات".
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة تفسر العلاقة بين التهاب المسالك البولية ومرض السكري
تفسير لغز ميكروبي
اكتشف العلماء من قبل أن اللون الأصفر للبول ناجم عن الآلية التي يتخلص وفقها الجسم من خلايا الدم الميتة. تصل خلايا الدم الحمراء عادة إلى نهاية دورة حياتها بعد نحو 120 يوماً من تشكّلها وتتحلل في الكبد. يحمل أحد المنتجات الثانوية لهذه العملية اسم البيليروبن، وهو عبارة عن مادة ذات لون برتقالي فاقع تُفرز من الكبد إلى الأمعاء. تحوّل البكتيريا التي تعيش في الأمعاء البيليروبن إلى مادة عديمة اللون تحمل اسم اليوروبيلينوجين. يتحلل اليوروبيلينوجين أخيراً إلى جزيء الصباغ الأصفر الذي يحمل اسم اليوروبيلن، الذي يؤدي دوراً في تلوين اللعاب. وما كان يجهله العلماء هو الإنزيم البكتيري الذي يحوّل اليوروبيلينوجين إلى اليوروبيلن.
مثّل تحديد نوع هذا الإنزيم لغزاً كبيراً في مجال دراسة الميكروبات لسببين رئيسيين. وفقاً لهول، تمثّل التحدي الأول في أن إنماء الميكروبات اللاهوائية في المختبر كانت عملية صعبة ومكلفة للغاية تاريخياً؛ إذ يقول: "لا تستطيع الميكروبات التي تؤدي هذه الوظيفة العيش بوجود الأوكسجين في الغلاف الجوي. وهي تموت في غضون دقائق أو ثوانٍ من تعرضها للهواء، كما أنها لا يمكن أن تنمو في هذه الظروف".
تمكّن هول وفريقه من الاستفادة من التقدمات العلمية التي أُحرزت على مدار الأعوام الـ 15 الماضية في استزراع هذه الميكروبات التي تعيش وتزدهر دون الأوكسجين.
يتمثل التحدي الثاني في أن العلماء لم يتمكنوا من سَلسَلة جينوم ميكروبيوم الأمعاء بالكامل. أدّت التقدمات الحديثة في مجال السلسلة الجينية إلى توفير المزيد من السلاسل الجينية التي تمكّن الفريق من دراستها لكشف آلية عمل الميكروبات في الأمعاء.
يقول هول: "حددنا في الدراسة الميكروبات التي تختزل البيليروبن وتلك التي لا تفعل ذلك. [الاختزال هو عملية كيميائية تكتسب فيها الذرات الإلكترونات في التفاعلات]. ثم أجرينا تحليلاً جينياً للمقارنة بين النوعين وحددنا أنوع الجينات التي قد تكون مسؤولة عن الاختزال".
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة تؤكد وجود علاقة بين الجسيمات البلاستيكية النانوية والإصابة بالخرف وباركنسون
داخل ميكروبيوم الأمعاء
قارن الفريق في الدراسة بين جينومات الأنواع المحددة من بكتيريا الأمعاء البشرية التي تحوّل البيليروبن إلى يوروبيلينوجين وجينومات بكتيريا الأمعاء التي لا تستطيع فعل ذلك. وساعد ذلك الفريق على تحديد الجين المسؤول عن تشفير إنزيم بيليروبن ريدوكتاز. بعد ذلك، استخدم الباحثون بكتيريا الإشريكية القولونية لاختبار إن كان هذا الإنزيم قارداً على تحويل البيليروبن إلى يوروبيلينوجين داخلها وداخل أنواع أخرى من بكتيريا الأمعاء.
لاحظ الباحثون بعد البحث عن هذا الجين في أنواع البكتيريا المعروفة جميعها أن هناك نوعاً رئيسياً من البكتيريا يركّب هذا الإنزيم وينتمي إلى مجموعة كبيرة من البكتيريا التي تهيمن على ميكروبيوم الأمعاء تحمل اسم متينات الجدار. فحص الباحثون بعد ذلك الميكروبات المعوية لأكثر من ألف شخص بالغ جينياً بهدف العثور على الجين المسؤول عن تلوين البول، ولاحظوا أن أجسام 99.9% من الأشخاص تحتوي على بكتيريا الأمعاء التي تحتوي على الجين الذي يشفّر إنزيم البيليروبن ردوكتاز.
يقول هول: "أعتقد أن أكثر ما فاجأني هو مدى انتشار هذه الوظيفة لدى البشر البالغين. بول البشر جميعهم له لون أصفر، في المقابل لون البراز بنيّ، لذلك عرفنا أنه لا بد أن الميكروبات هي المسؤولة عن ذلك. في الواقع، عدد الميكروبات المسؤولة عن هذه الوظيفة قليل، ولكنها واسعة الانتشار في جسم كل شخص".
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تبيّن أن فضلات الإنسان قد تساعد على محاربة البكتيريا
التطبيقات الطبية المحتملة
حاول مؤلفو الدراسة أيضاً تحديد إن كان هذا الجين موجوداً لدى البالغين المصابين بداء الأمعاء الالتهابي والرضّع المصابين باليرقان. احتوت أجسام نحو 68% فقط من المصابين بداء الأمعاء الالتهابي على هذا الجين، في حين بلغت هذه النسبة نحو 40% لدى الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 3 أشهر والأكثر عرضة للإصابة باليرقان. على الرغم من الحاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث، فإن تحديد أنواع هذه الإنزيمات والجينات سيساعد على تطوير علاجات أكثر فعالية لداء الأمعاء الالتهابي واليرقان وحتى حصيات المرارة.
يقول هول: "الأشخاص متحمّسون للغاية بشأن صحة الأمعاء، وأنا أحب التحدث معهم عن هذا الموضوع. يعاني الكثيرون المشكلات المعوية، وأعتقد أن لدينا فرصة ثمينة لتعديل ميكروبيوم الأمعاء البشري بطريقة إيجابية وتحسين صحتهم".