المشي نشاط معقد لا نفكر فيه كثيراً. إنه جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية لدرجة أننا نستطيع بسهولة القيام بمهام أخرى معه مثل تناول الطعام، دون بذل الكثير من الجهد الذهني. في الواقع، يمكن لكل ساق التحرك بإيقاع منتظم ومستقل عن الساق الأخرى، بتنظيم وتوجيه من الدوائر العصبية الخاصة بها من الحبل الشوكي، ما يسمح لنا بأداء مهام متعددة دون عناء. فإلى أي مدى تخضع الأطراف إلى سيطرة الدماغ؟ وهل ثمة آلية أكثر مرونة تعمل خلال المشي؟
هذا ما حاول باحثون من جامعة أوساكا اليابانية الإجابة عنه في دراسة حديثة نشروا نتائجها في سبتمبر/أيلول 2024، في دورية كوميونيكيشنز بيولوجي (Communications Biology).
ينسّق الدماغ البشري إيقاع الساقين خلال المشي بحيث تكون إحدى الساقين دائماً في منتصف خطوتها عندما تبدأ الساق الأخرى خطوتها. يُعرف هذا التنسيق باسم "علاقة الطور المضاد" (Antiphase Relationship). ومع ذلك، يصبح هذا التنسيق أكثر تحدياً لدى مواجهة عقبات أو عدم تناسق، مثل منحنى في المسار. في مثل هذه المواقف، يتعين على الدماغ بذل المزيد من الجهد للحفاظ على الإيقاع وضمان المشي السلس.
اقرأ أيضاً: أيهما أهم في رياضة المشي: السرعة أم المسافة؟ العلم يجيب
التحكم النسبي في حركة الساقين التلقائية
في الدراسة الحديثة أراد الباحثون فهم كيفية تأثير التغيرات المفاجئة في سرعة جهاز المشي على أنماط المشي لدى الأفراد، فجمعوا البيانات الحركية لمشاركين أصحاء في أثناء سيرهم على جهاز مشي، وتعرضهم لاضطرابات عرضية، مثل التغيرات المفاجئة في سرعة جهاز المشي أو اتجاهه.
صمم الباحثون هذه التغيرات لتعطيل التنسيق الطبيعي بين الأطراف، ما يسمح لهم بمراقبة كيفية تعويض الدماغ عن هذه الاضطرابات.
وبعد تحليل البيانات وتفسيرها وفهم ديناميكيات أنماط المشي، توصل الباحثون إلى أن الأرجل تتحرك في الوضع الطبيعي في علاقة الطور المضاد؛ أي تتحرك إحدى الساقين للأمام بينما تتحرك الأخرى للخلف، لكن التغير المفاجئ في السرعة، أدّى إلى فقدان مؤقت لعلاقة الطور المضاد. ومع ذلك، سرعان ما عدّل المشاركون حركاتهم لاستعادتها.
لتبسيط المشكلة، طبّق الباحثون طريقة تقليل الطور (Phase Reduction)، والتي تفترض أنه بعد حدوث اضطراب؛ مثل التغيير المفاجئ في سرعة جهاز المشي، سيعود النظام (في هذه الحالة، نمط المشي) إلى نمط منتظم متكرر يُسمَّى "دورة الحد" (Limit Cycle)، فاكتشفوا أنّ الدماغ لا يتحكم باستمرار في الطور النسبي في أثناء المشي، أي مدى تقدم أو تأخر حركة إحدى الساقين عن حركة الساق الأخرى، ويسمح بانحرافات بسيطة دون تصحيحها، لكن عندما تكون الساقان غير متزامنتين، بحيث يتجاوز الانحراف عن "الطور المضاد" حداً معيناً، يتدخل لتنسيق حركتيهما.
وفقاً للباحثين، فإن عدم الحاجة إلى التنسيق المستمر من الدماغ، يحافظ على طاقة الدماغ وقدرته على المناورة؛ أي التكيُّف مع التغييرات والحفاظ على التوازن.
يقول المؤلف الرئيسي للدراسة، شينيا أوي (Shinya Aoi): "استناداً إلى نموذجنا، نرى أن الدماغ لا يتحكم بشكل مفرط، وهو ما كان من شأنه أن يحد من قدرتنا على التغلب على العقبات ويستهلك أيضاً الكثير من قوة الدماغ، ولا يتراخى بشكل مفرط، وهو ما قد يؤدي إلى السقوط عندما تصبح الساقين غير منسقة للغاية".
في السياق ذاته، أفادت الدراسة المنشورة في دورية طبوغرافيا الدماغ (Brain Topography)، حول كيفية تأثير وظيفة الدماغ على أداء المشي في ظل ظروف المهمة المزدوجة، مثل المشي وتناول الطعام في آنٍ واحد، أو المشي وأداء مهام ذهنية معاً، أن الأفراد الذين يعانون الاضطرابات العصبية في المشي أظهروا أنماطاً مختلفة من تنشيط الدماغ مقارنة بأولئك الذين لا يعانون الاضطرابات العصبية في المشي عند أداء المشي مع مهمة أخرى.
اقرأ أيضاً: 5 فوائد صحية لرياضة المشي إلى الخلف
تطبيقات الدراسة
تساعد نتائج هذه الدراسة على تحسين فهم العلماء للتحكم الحركي، حيث تشير قدرة الدماغ على التكيُّف مع الاضطرابات في التنسيق إلى نظام أكثر مرونة وكفاءة مما كان يُعتقد سابقاً.
إن فهم الآليات التكيفية للدماغ تساعد على تطوير علاجات أكثر فاعلية للأفراد الذين يعانون إعاقات حركية، وتقنيات إعادة تأهيل، خصوصاً للمرضى الذين تعرضوا لصدمة في الدماغ أو مشكلات عصبية أخرى، ما قد يساعد على تسريع تعافيهم وتحسين قدرتهم على المشي بسلاسة مرة أخرى. على سبيل المثال، يمكن لبرامج إعادة التأهيل أن تركّز على تعزيز الاستجابات التكيفية الطبيعية للدماغ بدلاً من فرض سيطرة صارمة على حركات الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعد هذا البحث على تطوير الأطراف الاصطناعية المتقدمة.