ملخص: نعرف جميعاً الأعراض المزعجة للحمى، وعلى الرغم من أن العلماء يعلمون أن درجة الحرارة هي متغير مهم في العديد من العمليات الحيوية وأن الحرارة تقاوم العدوى، فإن وظيفتها غير مفهومة جيداً، وكذلك تأثير ارتفاعها في الجهاز المناعي. وفقاً لدراسة جديدة، فإن ارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى تغيير سلوك بعض الخلايا المناعية، وقد تفسّر نتائجها جزئياً وظيفة الحمى وتوضّح الجانب السلبي للاستجابة المناعية. اكتشف الباحثون أن هذه التغييرات تتعلق بالاستقلاب والمتقدّرات؛ إذ إن ارتفاع درجة الحرارة ينشّط بعض أنواع الخلايا التائية المقاوِمة لمسببات الأمراض ويضر بالخلايا التائية التنظيمية التي تثبّط الاستجابة المناعية ويعرّض الخلايا التائية المساعدة إلى ضغط خلوي قد يحدث في مختلف أنواع الخلايا ويبدو أنه السبب العميق لارتفاع درجات الحرارة. على الرغم من أن التجارب وبعض البيانات تدعم هذه النتائج، فهي أولية وهناك حاجة إلى إجراء الأبحاث على البشر لتأكيدها.
ليس غريباً أن يتساءل المرء في أثناء الحمى الناجمة عن الإنفلونزا عن أسباب الأعراض المترافقة مع ارتفاع درجة الحرارة، مثل القشعريرة والتعرق والآلام. يقدم بحث جديد بعض الرؤى حول الأسباب الكامنة لهذه الأعراض. وفقاً لدراسة نشرتها مجلة ساينس إيميونولوجي (Science Immunology) بتاريخ 20 سبتمبر/أيلول 2024، فإن درجات الحرارة المرتفعة المصاحبة للحمى تغير سلوك بعض الخلايا المناعية، ما يزيد من نشاط بعض الخلايا الضرورية المقاومة للعدوى ويقلل من قدرة الخلايا التنظيمية على تثبيط الاستجابة المناعية من خلال تعديل عملية الاستقلاب التي تجريها.
كيف تساعد الحمى الجسم على مقاومة العدوى؟
تقدم النتائج الجديدة رؤى ثاقبة حول عملية حيوية مثّلت لغزاً غامضاً على مدى فترة طويلة؛ إذ إنها توفر تفسيراً جزئياً للآلية التي تقاوم فيها الحمى العدوى. بالإضافة إلى ذلك، قد يسلّط البحث الجديد الضوء على الجانب الضار من الاستجابة المناعية لدى البشر. قد تؤدي المسارات الحيوية التي كشفها الباحثون دوراً في زيادة خطر الإصابة بالسرطان المرتبط بالالتهابات الطويلة الأمد. باختصار، يقول أستاذ البيولوجيا المناعية في المركز الطبي في جامعة فاندربيلت وكبير مؤلفي الدراسة الجديدة، جيف راثميل: "إن الحمى مفيدة في المستويات المنخفضة، ولكنها مضرة في المستويات المرتفعة".
اقرأ أيضاً: لماذا لا تُعطى الأدوية الخافضة للحرارة لكل طفل تبدو عليه الحمى؟
الحمى هي ارتفاع منتظم في درجة الحرارة يشمل الجسم كله ويرتبط عادة بحالات العدوى. الالتهابات رائجة أيضاً، وهي تنطوي على ارتفاع في درجة حرارة الجسم مركّز محلياً أكثر وتنتج عن الإصابات أو الأمراض. وفقاً لراثميل، على الرغم من أن العلماء يعلمون منذ زمن طويل أن درجة الحرارة هي متغير مهم في العديد من العمليات الحيوية، فإن وظيفة الحرارة غير مفهومة جيداً، وكذلك ما يحدث بالضبط في جهاز المناعة لدى البشر عندما ترتفع درجة حرارة الجسم. يقول راثميل: "ليس لدى العلماء إجابة مقنعة عن هذه الأسئلة". افترض العلماء أن الحرارة عموماً تجعل الجسم وسطاً غير ملائم للميكروبات الغازية، وهي مسببات الأمراض التي تؤدي إلى الإصابة بالأمراض، لكن يقول راثميل إن "وظيفة الحرارة غير مفهومة تماماً".
هل تعزز الحرارة وظيفة الجهاز المناعي؟
وفقاً للبحث الجديد، يبدو أن الحقيقة أكثر تعقيداً من هذا التفسير الأولي؛ فهناك عامل آخر مهم يجب أخذه في الاعتبار، وهو استجابة خلايا البشر إلى ارتفاع درجة الحرارة. وقد أشارت أبحاث سابقة إلى أن الحرارة تعزز وظيفة الجهاز المناعي من خلال تحفيز نشاطه. وتوضّح الدراسة الجديدة هذه الآلية بدقة وصولاً إلى المستوى داخل الخلايا.
درس راثميل وزملاؤه كيف تتفاعل أنواع معينة من الخلايا التائية، وهي مجموعة فرعية من خلايا الدم البيضاء، مع الحرارة. لاحظ الباحثون في عدة تجارب أجروها على الخلايا المستزرعة في المختبر أن "الحمى المعتدلة" التي تصل درجات الحرارة فيها إلى نحو 39 درجة مئوية تعزز كلاً من النشاط الاستقلابي لمجموعة واحدة من الخلايا التائية غير المتخصصة وانقسامها ونشاطها، وهي خلايا تتمايز إلى خلايا مناعية مختلفة ذات وظائف متباينة. في الوقت نفسه، تضررت الخلايا التائية التنظيمية التي تعمل عموماً على تثبيط الاستجابة المناعية، ما أضعف القيود المفروضة على نظام الدفاع في الجسم.
أخيراً، تعرّض أحد أنواع الخلايا التائية المساعدة (helper T cells) التي تؤدي دوراً مهماً في درء الفيروسات للضغط بسبب درجات الحرارة المرتفعة، وكان هذا مخالفاً للتوقعات. مات العديد من خلايا تي آتش 1 استجابة للضغط. مع ذلك، كانت الخلايا التي نجت فعالة للغاية؛ إذ إنها كانت أسرع في أداء وظائفها وتمتعت بمعدل انقسام مرتفع. قال راثميل: "تمتعت الخلايا التي نجت بتكيفات أتاحت لها التغلّب على الضغط. كان أداء هذه الخلايا أفضل على المدى الطويل، ولكن كان عليها التعرض لهذا الضغط لاكتساب هذه التكيفات".
يقول زميل ما بعد الدكتوراة في المركز الطبي في جامعة فاندربيلت والمؤلف الرئيسي للدراسة، دارِن هاينتسمان: "إن وجود هذا التوازن منطقي في حالات العدوى العادية؛ إذ يجب أن يكون أداء الخلايا المثبّطة أسوأ وأداء الخلايا المقاومة أفضل". لكن هناك تفصيل مهم.
اقرأ أيضاً: كيف تحدث الإصابة بالحمى المالطية أو ما يُعرف بـ «داء البروسيلات»؟
الآليات الكامنة وراء التغيرات المرافقة للحمى
تمكن العلماء في التجارب اللاحقة من تحديد الآلية الكامنة وراء العديد من تلك التغييرات التي لاحظوها. كان كل من الاستقلاب الخلوي والمتقدرات مهماً للغاية، وخصوصاً مجمّع بروتيني استقلابي كبير يحمل اسم "سلسلة نقل الإلكترون 1". تراجع أداء مجمع البروتين هذا بدرجة كبيرة في ظروف درجة الحرارة المرتفعة، الذي يساعد على تزويد الخلايا بالطاقة. من المرجح أن الجسم كله يتعرّض للضغط الخلوي نفسه الذي تتعرض له الخلايا التائية المساعدة؛ أي أن هذا الضغط يحدث في متقدرات العديد من الخلايا المختلفة، ما يتلف الحمض النووي الذي يمكن أن يؤدي بدوره إلى مشكلات صحية مثل نمو الخلايا السرطانية. يقول هاينتسمان: "يصبح الضغط مضراً عندما تصبح الحرارة والالتهابات مزمنة؛ أي في الحالات مثل أمراض المناعة الذاتية".
من المعروف أن بعض أنواع السرطان، مثل سرطان القولون، مرتبط بالالتهابات الناجمة عن أمراض الأمعاء مثل داء كرون. وتوصل العلماء الآن إلى فرضية واضحة واحدة على الأقل تفسّر هذا الارتباط. يقول راثميل لبوبيولار ساينس: "قد تكون الحرارة المرتبطة بالالتهاب الموضعي بسبب آلية الميتوكوندريا هذه... وربما تسهم هذه الحرارة في النهاية في تشكّل الطفرات [التي تحفّز السرطان]".
مع ذلك، يضيف راثميل أن هذا الكلام تكهني حتى الآن. وتشير نتائج التجارب التي أجراها مؤلفو الدراسة الجديدة في أطباق بتري، بالإضافة إلى بعض البيانات السابقة من الدراسات على الفئران والبشر، إلى أن الفرضيات التي وضعوها سليمة، لكن هناك حاجة إلى إجراء المزيد من الدراسات على الأجهزة الحية لتأكيد تخميناتهم. إن دراسة التغيرات في درجات الحرارة لدى الحيوانات صعبة للغاية لأن وجود العديد من المتغيرات المؤثرة يجعل تحديد تأثيرات أي تغيّر شبه مستحيل، ولكن تحديد هذه التأثيرات "مهم للغاية، وخاصة لنا"، بحسب تعبير راثميل.
يقول هاينتسمان: "تصيب الحمى جميع الأشخاص، ويشهد الجميع تغيّرات في درجات الحرارة والأعراض مثل التورم والنبضات في الأصابع [المصابة]". ويضيف أن العلماء لديهم الآن فهم أعمق لتأثيرات العمليات الحرارية في الجسم، السلبية منها والإيجابية. وفقاً لهاينتسمان، لا يعني ذلك أنه يجب عليك تجنّب تناول الأدوية الخافضة للحرارة في أثناء المرض، ولا يجب أن تقلق على نحو مفرط أيضاً بشأن تورم كاحلك إذا لويته مع ذلك، تبين النتائج الجديدة أنه حتى الاستجابات الحيوية الطبيعية تكون مضرة إن لم تكن معتدلة.