ملخّص: وجود المواد المتطايرة هو أحد الشروط الأساسية التي أدّى تحققها إلى تطور الحياة في الأرض، وهذه المواد هي العناصر والمركبات التي تتبخّر بسهولة. فحص العلماء في دراسة جديدة منشأ الزنك في الأرض وتوصلوا إلى أن أغلبية المواد المتطايرة نشأت من نسبة صغيرة نسبياً من المادة التي تشكلت منها الأرض. وتؤكد هذه الدراسة أن هناك العديد من المعايير التي يجب تلبيتها لتشكّل الكواكب الصالحة لإيواء الحياة، منها وجود المواد المتطايرة والماء، وتشير إلى ضرورة البحث عن المواد المتطايرة في الكواكب الأخرى التي تقع في المنطقة الصالحة لكي تأوي الحياة.
أحد الشروط الرئيسية التي جعل تحققها تطور الحياة كما نعرفها ممكناً هو وجود المواد المتطايرة، وهي العناصر والمركبات التي يمكن أن تتبخر بسهولة في ظروف درجات حرارة منخفضة نسبياً. يعني ذلك أن فهم منشأ هذه المواد المتطايرة، وإن كانت الأرض غنية بها على نحو استثنائي، مهم للغاية لفهم ما يجعل تشكُّل الحياة ممكناً، وتشير دراسة جديدة نشرتها مجلة ساينس أدفانسز (Science Advances) بتاريخ 11 أكتوبر/تشرين الأول 2024، إلى أن أغلبية المواد المتطايرة نشأت من نسبة صغيرة نسبياً من المادة التي تشكلت منها الأرض.
كيف تتشكل المواد المتطايرة؟
تتشكل الكواكب بفعل التراكم التدريجي لتجمّعات صغيرة من المادة تحمل اسم "الكواكب المصغّرة". هناك فئتان أساسيتان من الكواكب المصغّرة، الكواكب المصغرة المتمايزة والكواكب المصغرة غير المتمايزة. تقول المؤلفة الرئيسية للدراسة الجديدة، هاييسا مارتشينس، إن النوعين يتشكلان من "كتل كبيرة من الغبار والقطع الصخرية الصغيرة الأخرى التي تتجمّع معاً (وتكون غالباً منخفضة الكثافة)". تظل الكواكب المصغرة غير المتمايزة في هذه الحالة غالباً، بينما تتميّز الكواكب المصغرة المتمايزة بأنها تعرضت لقدر كافٍ من الحرارة لصهر مكوناتها جميعها معاً.
ينتج هذا الانصهار عن التحلل الإشعاعي للألومنيوم-26، وهو نظير غير مستقر للألومنيوم. يولّد هذا النظير في أثناء تحلله كمية هائلة من الحرارة تؤدي إلى انصهار المواد المحيطة به. تقول مارتشينس إن "هذه العملية تتسبب بإزالة الغازات من (أو حرغَزة) الكثير من المواد المتطايرة"، التي تطفوا في الفضاء بمجرد تبخرها و"تبتعد عن هذه الأجسام الصغيرة بسبب الجاذبية المنخفضة لهذه الأجسام".
لحسن الحظ، تحللت كمية الألومنيوم-26 بأكملها الموجودة في المجموعة الشمسية في وقتٍ مبكر للغاية، ما تسبب بتشكُّل ما يكفي من المواد غير المتمايزة لتزويد الأرض بالمركبات المتطايرة الضرورية لنشوء الحياة. وبمجرد تحلل هذا النظير، فهو لن يتشكّل مجدداً. يتشكّل الألومنيوم-26 في نوى النجوم التي استهلكت وقودها من الهيدروجين بأكمله وتقترب بسرعة من المرحلة الأخيرة المتفجّرة من حياتها.
اقرأ أيضاً: ما الذي تخبرنا به نقاط حمراء صغيرة عن المليار عام الأولى من تاريخ الكون؟
ماذا يعني وجود الألومنيوم-26 بالنسبة لتشكل النجوم والكواكب الجديدة؟
يعني ذلك أن هذا النظير موجود في مناطق تشكّل النجوم في الكون، حيث تتشكل النجوم الجديدة بتجمّع بقايا أسلافها الميتة المتناثرة معاً، وليس في الأوساط المستقرة نسبياً مثل المجموعة الشمسية كما هي اليوم. تقول مارتشينس: "يتشكّل الألومنيوم-26 على نحو مستمر في المناطق من مجرتنا التي تتشكل فيها النجوم والكواكب الجديدة، ولكن ليس بالضرورة أن تزوّد هذه المناطق الأنظمة الكوكبية نفسها به طوال حياتها. ستكون الظروف غير ملائمة أبداً لو تعرض كوكب الأرض إلى قصف متكرر من المستعرات العظمى".
فحصت مارتشينس وزملاؤها في الدراسة الجديدة مصدر الزنك في الأرض، واكتشف الفريق أنه على الرغم من أن 70% من كتلة الأرض تشكّلت بفعل تراكم الكواكب المصغرة المتمايزة، زوّدت هذه المواد المتمايزة الأرض بنسبة 10% فقط من محتواها من الزنك. يشير ذلك إلى أن المواد الأرضية التي لم تتشكل من الكواكب المصغرة المتمايزة والتي تبلغ نسبتها 30% هي مصدر الأغلبية الساحقة من المركبات المتطايرة على الأرض. تقول مارتشينس: "سيكون مخزون الأرض من المركبات المتطايرة أخفض بكثير دون هذه المواد".
اقرأ أيضاً: كيف يمكن الاستفادة من جاذبية الشمس لاستكشاف الكون؟
هل وجود المواد المتطايرة بوفرة على الأرض صدفة؟
لا يزال العلماء يجهلون إن كانت وفرة هذه المواد المتطايرة في الأرض تعود إلى الصدفة أم أنها ظاهرة أكثر شيوعاً مقارنة بالكواكب الشبيهة في الأنظمة الكوكبية الأخرى. تقول مارتشينس: "هناك عوامل أخرى بخلاف الزمن تؤثّر في تحديد مقدار [المادة المتمايزة والمادة غير المتمايزة] التي تتراكم في كوكب ما (أي المواد التي تنتقل عبر مسافات مختلفة نسبة لمركز الشمس وتختلط). لا يزال هناك جدل حول إن كان الألومنيوم-26 موزعاً بتجانس في جميع أنحاء المجموعة الشمسية أو مركزاً في بعض الأجزاء أكثر من غيرها".
اقرأ أيضاً: علماء الفلك يكتشفون طريقة جديدة للبحث عن الحضارات الأخرى في الكون
وفقاً لمارتشينس، لا شك في قدرتنا على تصور أنظمة شمسية أخرى تحتوي على كواكب شبيهة بالأرض تدعم تشكّل الحياة نظرياً ولكنها تشكلت دون المكونات اللازمة لدعم الحياة؛ إذ تقول: "تؤكد الدراسة أن هناك العديد من المعايير التي يجب تلبيتها لتشكّل الكواكب الصالحة لإيواء الحياة. عندما نبحث عن الأحياء خارج الأرض، فإننا نبحث عادة عن الكواكب التي تقع في منطقة تحمل اسم 'النطاق الصالح للحياة' لأن احتمال احتواء الكواكب في هذه المناطق على الماء السائل على أسطحها أكبر. لكن ذلك يعتمد على الافتراض الذي ينصُّ على وجود الماء والمواد المتطايرة في المقام الأول، في حين أن الكوكب قد يكون جافاً للغاية منذ تشكله. لم نحسب في الدراسة احتمالية هذا السيناريو، ولكنه احتمال وارد على الأقل".