أطلقت وكالة ناسا مركبة فضائية روبوتية تحمل اسم "أوروبا كليبر" (Europa Clipper) إلى أقمار كوكب المشتري في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2024. ستصل هذه المركبة إلى قمر المشتري المغطى بالجليد، أوروبا، في عام 2030 وستقضي عدة سنوات وهي تجمع بيانات مهمة عن إمكانية إيوائه للحياة وإرسالها إلى الأرض.
كليبر ليست المهمة الوحيدة التي تسلط الضوء على اهتمام الباحثين بكوكب المشتري وأقماره؛ إذ أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية صاروخاً يحمل مركبة فضائية وجهتها كوكب المشتري بتاريخ 13 أبريل/نيسان 2023. تحمل هذه المركبة اسم "مستكشفة أقمار المشتري الجليدية" (أو جوس اختصاراً، JUICE)، ومن المقرر أن تقضي 3 سنوات على الأقل في أقمار المشتري بعد وصولها إليها في عام 2031.
أنا عالم كواكب أدرس بنية الكواكب الصلبة والأقمار في المجموعة الشمسية وتطورها.
هناك العديد من الأسباب التي تدفعني وزملائي لترقّب البيانات التي نأمل أن يرسلها مسبارا أوروبا كليبر وجوس إلى الأرض في ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين. لكن ربما المعلومات الأكثر إثارة للحماس بالنسبة لنا هي تلك المتعلقة بالماء. تحتوي ثلاثة من أقمار كوكب المشتري، وهي أوروبا وغانيميد وكاليستو، على محيطات جوفية كبيرة من الماء السائل يمكن أن تدعم تشكُّل الحياة.
اقرأ أيضاً: كيف تساعدنا دراسة الأجرام السماوية الغريبة على اكتشاف كواكب خارجية جديدة؟
آيو وأوروبا وغانيميد وكاليستو
يمتلك كوكب المشتري عشرات الأقمار، ويهتم علماء الكواكب بأربعة أقمار منها بصورة خاصة.
الأقمار آيو وأوروبا وغانيميد وكاليستو هي أجرام سماوية كبيرة نسبياً وكروية الشكل ومعقّدة، مثل قمر الأرض. أرسلت وكالة ناسا في مهمتين سابقتين مركبتين فضائيتين إلى مدار حول نظام المشتري جمعتا بيانات عن هذه الأقمار. دارت مركبة المهمة الأولى، وهي مهمة غاليليو، حول المشتري من عام 1995 إلى عام 2003 وأسهمت في اكتشافات جيولوجية في الأقمار الأربعة الكبيرة جميعها. بينما لا تزال مركبة المهمة الثانية، جونو (Juno)، تدور حول المشتري حتى الآن، ومنحت العلماء رؤى غير مسبوقة عن تركيب هذا الكوكب وبنيته وبيئته الفضائية.
كشفت هاتان المهمتان وغيرهما من الأرصاد أن قمر آيو، وهو الأقرب من الأقمار السابقة الذكر إلى كوكبه المضيف، نشط جيولوجياً للغاية؛ إذ إنه يحتوي على بحيرات الحمم والجبال المتكونة بفعل النشاط التكتوني ويشهد الثورانات البركانية. لكن هذا القمر لا يحتوي على كميات كبيرة من الماء.
أما الأقمار أوروبا وغانيميد وكاليستو فهي تحتوي على تضاريس جليدية. سطح أوروبا هو أرض عجيبة متجمدة تتمتع بتاريخ حديث لكنه معقد، وربما يحتوي على نظائر جليدية للصفائح التكتونية والبراكين. غانيميد، وهو أكبر قمر في المجموعة الشمسية بأكملها، أكبر من كوكب عطارد ويتمتع بحقل مغناطيسي خاص به تولّده نواة من المعدن السائل. يبدو القمر كاليستو خاملاً إلى حد ما مقارنة بالأقمار الأخرى، لكنه بمثابة كبسولة زمنية ثمينة تعكس ماضياً لم يعد رصده ممكناً على السطحين الحديثَي العهد لأوروبا وآيو.
الحقيقة الأكثر إثارة للاهتمام هي أن الأقمار أوروبا وغانيميد وكاليستو تحتوي على محيطات جوفية من الماء السائل.
العوالم المائية
يتمتع كل من أوروبا وغانيميد وكاليستو بأسطح باردة تصل درجة حرارتها إلى مئات الدرجات تحت الصفر. ويتمتع الجليد بطبيعة شبيهة بطبيعة الصخر الصلب عند هذه الدرجات.
لكن كلما ازداد العمق تحت أسطح هذه الأقمار، ارتفعت درجة الحرارة، تماماً مثل الأرض. وإذا تعمقنا بما يكفي، سنصل إلى مناطق تسودها درجات الحرارة التي يذوب فيها الجليد ويتحول إلى ماء سائل. لم يحدد العلماء بدقة العمق الذي يحدث فيه ذلك بالضبط بعد، لكنهم يأملون أن تحل مركبتا جوس وأوروبا كليبر هذا اللغز. مع ذلك، العلماء واثقون من وجود هذه المحيطات من الماء السائل تحت أسطح أوروبا وغانيميد وكاليستو.
يوفّر الحقل المغناطيسي لكوكب المشتري أدق الأدلة التي تشير إلى وجود هذه المحيطات. المياه المالحة تنقل التيار الكهربائي، وتولّد هذه الأقمار بينما تعبر الحقل المغناطيسي للمشتري حقولاً مغناطيسية ثانوية أقل شدّة تشير إلى احتوائها على محيطات جوفية. تمكّن العلماء من إثبات أن الأقمار أوروبا وغانيميد وكاليستو تحتوي على محيطات جوفية بالاعتماد على هذه الظاهرة. هذه المحيطات ليست صغيرة؛ إذ قد يحتوي محيط القمر أوروبا وحده على كمية من الماء تتجاوز ضعفَي كمية الماء في محيطات الأرض جميعها.
اقرأ ايضاً: تلسكوب جيمس ويب الفضائي يكتشف كوكباً خارجياً جديداً أكبر من كوكب المشتري
يقودنا ذلك إلى سؤال بديهي ومثير للاهتمام، هل يمكن أن تدعم هذه المحيطات الأحياء خارج الأرضية؟ وجود الماء السائل هو من العوامل المهمة التي تجعل الكواكب صالحة لإيواء الحياة، لكنه ليس العامل الوحيد؛ إذ يتطلب ازدهار الحياة الطاقة وبعض المركبات الكيميائية أيضاً. لا تحدث عملية التركيب الضوئي في هذه المحيطات ولا تصل إليها أشعة الشمس لأنها تقبع تحت طبقة من الجليد تبلغ سماكتها عدة كيلومترات. لكن من المحتمل أن توفر مصادر أخرى المكونات الضرورية لتشكّل الحياة.
على سبيل المثال، يغطي محيط الماء السائل في القمر أوروبا طبقة داخلية صخرية. من المحتمل أن قاع البحر الصخري هذا يوفّر الطاقة والمواد الكيميائية عبر البراكين تحت المائية، ما قد يجعل محيط أوروبا صالحاً لإيواء الحياة. ربما يكون هذا المحيط وسطاً عقيماً غير صالح لإيواء الحياة، ويحتاج العلماء إلى جمع المزيد من البيانات للإجابة عن هذا السؤال.
المهمات المستقبلية لوكالة الفضاء الأوروبية ووكالة ناسا
ستجمع مهمتا أوروبا كليبر وجوس معلومات ثورية عن قابلية إيواء أقمار المشتري للحياة. في حين أن المهمتين ستجمعان بيانات عن عدة أقمار، سيدور مسبار مهمة جوس حول قمر غانيميد وسيرّكز عليه، بينما سيجري مسبار مهمة أوروبا كليبر العشرات من عمليات التحليق القريب من قمر أوروبا.
تحمل مركبتا المهمتين مجموعة من الأدوات العلمية المصممة خصيصاً لدراسة المحيطات الجوفية؛ إذ ستتيح الرادارات للمركبتين سبر الطبقات الخارجية من الجليد الصلب في القمرين. تكنولوجيا الرادار قادرة على كشف الجيوب الصغيرة من الماء السائل في الجليد، وقد ترصد أيضاً المحيط الأكبر حجماً في أوروبا، والذي يتمتع بطبقة جليدية خارجية أقل سماكة مقارنة بغانيميد وكاليستو.
تحتوي مركبتا المهمتين أيضاً على مقاييس المغناطيسية. ستمكّن هذه الأدوات العلماء من دراسة الحقول المغناطيسية الثانوية الناجمة عن تفاعل المحيطات الناقلة للكهرباء مع الحقل المغناطيسي للمشتري بدقة عالية، ويأمل الباحثون أن تمنحهم أدلة على ملوحة هذه المحيطات وأحجامها.
سيرصد العلماء أيضاً التفاوتات الصغيرة في قوى الجاذبية للقمرين من خلال تتبع الحركات الدقيقة في مداري المركبتين الفضائيتين، ما قد يساعد على تحديد إذا ما كان قاع البحر في أوروبا يحتوي على براكين توفر ما يلزم من الطاقة والمواد الكيميائية لدعم تشكل الحياة.
ستحمل المركبتان العديد من الكاميرات وأجهزة استشعار الضوء التي ستلتقط صوراً غير مسبوقة للمعالم الجيولوجية للأسطح الجليدية لهذه الأقمار، وستجمع بيانات جديدة حول التركيب الكيميائي لها.
اقرأ أيضاً: مركبة إنسايت تودّع العالم بإرسال آخر صورة لكوكب المريخ
ربما ستتمكن مركبة فضائية يوماً ما من الحفر إلى أعماق طبقة الجليد الصلب في أوروبا أو غانيميد أو كاليستو لاستكشاف المحيطات الجوفية مباشرة. حتى ذلك الحين، الأرصاد التي ستوفرها مركبتا أوروبا كليبر وجوس هي أفضل ما سيحصل عليه العلماء قريباً لدراسة هذه العوالم المحيطية.
عندما اكتشف غاليليو هذه الأقمار عام 1609، كانت أولى الأجرام المعروفة بأنها تدور حول كوكب آخر. وكان هذا الاكتشاف بمثابة المسمار الأخير في نعش الفرضية التي تنص على أن الأرض، وكذلك البشر فيها، هي مركز الكون. ربما تحتوي هذه العوالم على مفاجآت جديدة تبعث على التواضع.