رصد الباحثون نظام ثقب أسود ثلاثياً في الفضاء أول مرة. يبعد هذا النظام الجديد نحو 8 آلاف سنة ضوئية عن الأرض، ويتألف من ثقب أسود مركزي يلتهم مادة نجم صغير يدور على مسافة قريبة. ما فاجأ العلماء هو وجود نجم آخر يدور حول الثقب الأسود المركزي لكن على مسافة أكبر بكثير. وصف العلماء هذا الاكتشاف في دراسة جديدة نشرتها مجلة نيتشر بتاريخ 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024.
رصد النظام الثلاثي
تبدو أغلبية الثقوب السوداء التي رصدها العلماء أنها تنتمي إلى زوج من الأجرام السماوية يحمل اسم "النظام الثنائي". تتألف هذه الأنظمة من الثقب الأسود نفسه وجرم ثانوي مثل نجم أو نجم نيوتروني أكثر كثافة بكثير أو ثقب أسود آخر. يتحرك الجرمان في النظام الثنائي حول بعضهما في مسار حلزوني، وما يجمعهما في النظام هو جاذبية الثقب الأسود المركزي.
يحتوي النظام الثلاثي الذي رصده العلماء مؤخراً على جرم سماوي إضافي يدور حول الثقب الأسود المركزي. يكمل النجم الأقرب دورة واحدة حول الثقب الأسود كل 6 أيام ونصف تقريباً، ويقدّر الباحثون أن الجرم الأبعد يكمل دورة واحدة كل 70 ألف سنة.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يتوسع الثقب الأسود في مركز مجرتنا ويلتهمنا؟
تثير حقيقة أن الثقب الأسود المركزي يؤثر ثقالياً في جسم بعيد لهذه الدرجة بعض التساؤلات عن منشأ هذا الثقب الأسود. يعتقد العلماء أن الثقوب السوداء تتشكل من المستعرات العظمى، وهي الانفجارات العنيفة للنجوم الميتة. يطلق النجم في هذا الانفجار كمية هائلة من الطاقة والضوء في دفقة واحدة نهائية قبل أن ينهار ويشكّل ثقباً أسود غير مرئي.
إذا تشكّل الثقب الأسود المرصود حديثاً من مستعر أعظم نموذجي، فإن الطاقة التي سيطلقها هذا المستعر الأعظم قبل انهياره في نهاية المطاف كانت ستدفع الأجسام الأخرى المرتبطة ارتباطاً ثقالياً غير محكم وتدور حول أطرافه بعيداً. نظرياً، يجب ألا أن يكون النجم الثاني الخارجي موجوداً حول الثقب الأسود، ويعتقد الفريق أن هذا الثقب الأسود نتج عن عملية أقل عنفاً، وهي الانهيار المباشر. ينهار النجم على نفسه خلال هذه العملية، مشكلاً ثقباً أسود دون حدوث الانفجار الأخير العنيف. ليس من المفترض أن تتسبب هذه العملية غير العنيفة باضطراب الأجسام البعيدة غير المرتبطة بالنجم ارتباطاً ثقالياً محكماً.
بما أن النظام الثلاثي الجديد يحتوي على نجم بعيد للغاية عن النجم المركزي، فمن المحتمل أن يكون هذا الثقب الأسود قد تشكّل بسبب عملية الانهيار المباشر غير العنيفة هذه. في حين أن علماء الفلك يرصدون المستعرات العظمى العنيفة منذ قرون، قد يمثّل هذا النظام الثلاثي الجديد أول دليل على وجود ثقب أسود تشكل بهذه العملية.
قال الفيزيائي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والمؤلف المشارك للدراسة، كيفن بورج، في بيان صحفي: "نعتقد أن أغلبية الثقوب السوداء تتشكل بسبب الانفجارات العنيفة للنجوم، لكن الرصد الجديد يثير الشكوك حول هذه الفرضية. هذا النظام مثير جداً للحماس في مجال البحث حول تطور الثقوب السوداء، وهو يثير التساؤلات أيضاً حول وجود المزيد من أنظمة الثقوب السوداء الثلاثية في الكون".
اكتشاف بالصدفة
اكتشف الباحثون النظام الثلاثي بالصدفة نوعاً ما؛ إذ إنهم اكتشفوه بينما كانوا يفحصون أطلساً للبيانات الرصدية الفلكية التي جمعتها التلسكوبات الفضائية والأرضية يحمل اسم "علاء الدين لايت" (Aladin Lite) استخدم الباحثون هذا الأطلس للبحث عن صور للجزء من السماء الذي يحتوي على النظام الثلاثي، وهي صور التقطتها تلسكوبات مختلفة أعدها الخبراء لتتحسس أطوالاً موجية عديدة.
كان الباحثون في الأساس يبحثون ضمن مجرة درب التبانة عن علامات تشير إلى وجود ثقوب سوداء جديدة. دفع الفضول بورج لفحص صورة للثقب الأسود "في 404 الدجاجة" (V404 Cygni) الذي يبعد نحو 8 آلاف سنة ضوئية عن الأرض. كان هذا الثقب الأسود في عام 1992 أحد أول الأجسام الفضائية التي أثبت العلماء أنها ثقوب سوداء. ومنذ ذلك الحين، وثّقت أكثر من 1,300 ورقة بحثية وجوده، فضلاً عن أنه من أكثر الثقوب السوداء المدروسة التي اكتشفها العلماء. مع ذلك، لم تبلّغ هذه الدراسات عن وجود النظام الثلاثي الغريب.
اقرأ أيضاً: اكتشاف أقدم النجوم في الكون في محيط مجرة درب التبانة
لاحظ بورج وهو ويفحص الصور البصرية للثقب الأسود "في 404 الدجاجة" ما يشبه نقطتين من الضوء تفصل بينهما مسافة صغيرة. مثّلت النقطة الأولى الثقب الأسود نفسه ونجماً داخلياً يدور بالقرب منه. هذا النجم قريب جداً من الثقب الأسود لدرجة أن هذا الأخير يسحب جزءاً من مادته، إضافة إلى أنه يصدر ضوءاً مرئياً. أما النقطة الثانية، فمن المرجح أنها تمثّل الضوء الذي يصدره نجم بعيد جداً لم يرصده العلماء من قبل.
قال بورج: "تعني قدرتنا على رؤية نجمين مختلفين تفصل بينهما مسافة شاسعة في الصورة أن النجمين بعيدان عن بعضهما جداً".
بينت الحسابات أن النجم الخارجي يبعد 3,500 وحدة فلكية عن الثقب الأسود المركزي، والوحدة الفلكية الواحدة هي المسافة بين الأرض والشمس. يعني ذلك أن هذا النجم أبعد عن الثقب الأسود من بعد الأرض عن الشمس بـ 3,500 مرة، أو أبعد عن الثقب الأسود من بعد كوكب بلوتو عن الشمس بمائة مرة.
نظر الباحثون بعد ذلك فيما إذا كان النجم الخارجي مرتبطاً ثقالياً بالثقب الأسود والنجم الداخلي، وتوصلوا إلى الإجابة باستخدام بيانات القمر الاصطناعي غايا (Gaia)، الذي يتعقّب حركة النجوم جميعها في مجرة درب التبانة منذ عقد من الزمن. حلل هؤلاء حركة النجمين الداخلي والخارجي من خلال فحص بيانات غايا التي تغطي العقد الماضي بأكمله، ولاحظوا أن النجمين يتحركان بتزامن مقارنة بالنجوم القريبة. وفقاً لحسابات الفريق، يبلغ احتمال تزامن الحركة بهذه الطريقة نحو واحد من 10 ملايين.
قال بورج: "من المرجح أن هذا التزامن لم يحدث بالصدفة؛ إذ إننا نرى نجمين يتبع كل منهما الآخر لأنهما يرتبطان ارتباطاً ثقالياً ضعيفاً. ما يعني أنهما يجب أن ينتميا إلى نظام ثلاثي".
طائرة ورقية ثقالية
نظر الفريق بعد ذلك في منشأ النظام الثلاثي. كان على الانفجار العنيف للمستعر الأعظم النموذجي أن يدفع النجم الخارجي بعيداً منذ زمن طويل.
قال بورج: "تخيّل أنك تتحكم في طائرة ورقية، لكنك تشدها بشبكة عنكبوت بدلاً من حبل متين. ستنقطع الشبكة إذا سحبتها بقوة كبيرة، وستفقد الطائرة. تشبه الجاذبية خيطاً ضعيفاً غير مثبت بإحكام، وإذا حدث اضطراب عنيف في النظام الثنائي الداخلي للنظام الثلاثي، فمن المرجح أن يُفلت النجم الخارجي من جاذبيته".
اختبر بورج فرضية خيط الطائرة الورقية هذه من خلال إجراء محاكيات حاسوبية هدفت لكشف تطور مثل هذا النظام الثلاثي وكيفية احتفاظه بالنجم الخارجي.
اقرأ أيضاً: شاهد واحدة من أجمل الصور للإشعاع المنبعث من ثقب أسود فائق
أدخل بورج 3 نجوم إلى كل محاكاة في بدايتها، وكان النجم الثالث هو الذي سيتحول إلى ثقب أسود. أجرى بورج بعد ذلك آلاف المحاكيات، وتمتّعت كل محاكاة بسيناريو مختلف قليلاً من حيث الطريقة التي قد يتحوّل فيها النجم الثالث إلى ثقب أسود ويؤثّر في حركة النجمين الآخرين. على سبيل المثال، حاكى بورج مستعراً أعظمياً وغيّر كمية طاقته والاتجاه الذي يُصدر وفقه هذه الطاقة. كما أجرى محاكاة لسيناريو الانهيار المباشر، الذي انهار فيه النجم الثالث على نفسه مشكلاً ثقباً أسود دون إطلاق الطاقة.
قال بورج: "تبين الأغلبية الساحقة من المحاكيات أن الطريقة الأسهل لتشكل نظام ثلاثي من هذا النوع هي الانهيار المباشر".
كشف النجم الثالث الخارجي أيضاً عن عمر النظام الثلاثي. لاحظ فريق الدراسة أن النجم الخارجي يخضع لعملية التحوّل إلى عملاق أحمر، وهي مرحلة تحدث في نهاية عمر النجم. ويعتقد المؤلفون بناءً على عملية التحوّل هذه أن عمر هذا النجم يبلغ نحو 4 مليارات سنة. بما أن النجوم المحيطة بالنظام تشكّلت في الفترة نفسها تقريباً، يعتقد الفريق أن عمر النظام الثلاثي يبلغ 4 مليارات سنة أيضاً.
قال بورج: "لم يتمكن العلماء من دراسة أي ثقب أسود قديم بهذه الطريقة من قبل، ونحن نعلم الآن بفضل هذا الاكتشاف أن الثقب الأسود "في 404 الدجاجة" هو جزء من نظام ثلاثي ربما تشكّل من خلال عملية الانهيار المباشر قبل نحو 4 مليارات سنة".