بخلاف مظهرها الجميل على نحو مريب، تشتهر بطيئات المشية بأنها غير قابلة للتدمير تقريباً. هذه الكائنات الصغيرة محبة للظروف القاسية؛ إذ إنها تكيفت بطرق تتيح لها العيش في بيئات تقتل أغلبية الكائنات الحية الأخرى. تتمتع أنواع مختلفة من بطيئات المشية بقدرات مختلفة على التحمّل، وإحدى أكثر السمات إثارة للاهتمام هي قدرة بعض الأنواع على البقاء في ظل كميات هائلة من الإشعاع المؤيِّن، والذي تتجاوز شدّته أحياناً ألف ضعف من شدة الإشعاع التي تتسبب بموت البشر.
بطيئات المشية لا تقاوم الإشعاع فقط بل تصلح التلف الناجم عنه
فحص العلماء في وقت سابق من عام 2024 نوعاً من بطيئات المشية يحمل اسم "بطيء المشية النموذجي" (Hypsibius exemplaris)، في محاولة لفهم قدرته على تحمّل الجرعات الهائلة من الإشعاع. ما فاجأ العلماء هو أن هذا النوع من بطيئات المشية لم يكتسب آلية لحماية حمضه النووي من التلف الناجم عن الإشعاع، بل إنه يتمتّع بقدرة مذهلة على إصلاح هذا التلف بسرعة وكفاءة.
اقرأ أيضاً: قدرة بطيئات المشية على ترميم تلف حمضها النووي قد تساعد على ابتكار علاجات جديد للسرطان
حققت دراسة جديدة نشرتها مجلة ساينس (Science) بتاريخ 24 أكتوبر/تشرين الأول 2024 في قدرة نوع آخر من بطيئات المشية على تحمّل الإشعاع، وهو بطيء المشية الهيناني (Hypsibius henanensis). اكتشف مؤلفو الدراسة هذا النوع الجديد وأطلقوا عليه اسمه نسبة لمقاطعة هينان الصينية. عرّض الباحثون بطيئات المشية الهينانية إلى جرعات مرتفعة من أشعة غاما، وهي فوتونات مرتفعة الطاقة من أشكال الإشعاع المؤيِّن، ثم فحصوا استجابة أجسامها.
لاحظ الباحثون أن بطيئات المشية هذه تتمتع بالقدرة نفسها على إصلاح الحمض النووي التالف التي تتمتع بها بطيئات المشية النموذجية، إضافة إلى أنها تتمتع بآليات تكيّفية أخرى.
منشأ الخطر الذي يشكّله الإشعاع المؤيِّن على الكائنات الحية هو قدرته على تأيين الذرات؛ إذ يحمل فوتون من أشعة غاما ما يكفي من الطاقة لإزالة أحد إلكترونات ذرة ما عند اصطدامه بها. إذا كانت هذه الذرة تنتمي إلى جزيء من الحمض النووي، فقد يؤدي التأيّن إلى قطع أحد الخيطين الدقيقين اللذين يشكلان حلزون الحمض النووي المزدوج المعروف أو كليهما. قطع الخيطين معاً خطير بصورة خاصة، لكن أي تلف في الحمض النووي قد يمنع الجزيء من التضاعف على النحو السليم. (هذه الطريقة التي يتسبب وفقها الإشعاع المؤين بالسرطان).
كيف تتعامل بطيئات المشية مع الإشعاع؟
يحفّز تعرض بطيئات المشية الهينانية للإشعاع ثلاث آليات رئيسية. الأولى هي آلية الحمض النووي الدفاعية السريعة نفسها التي تتمتع بها بطيئات المشية النموذجية، والتي يحفّزها بروتين يحمل اسم "تي آر آي دي 1" (TRID1، أو البروتين المضطرب المحفّز بالإشعاع والخاص ببطيئات المشية) ويبدو أنه غير موجود إلا لدى بطيئات المشية. فحص مؤلفو الدراسة الجديدة كيفية استجابة هذا البروتين للإشعاع، ولاحظوا أنه يتراكم في المواقع التي انقطع فيها خيطا الحمض النووي ويعزز تراكم بروتين آخر يحمل اسم "53 بي بي 1" (53BPI)، والذي يبدو أنه ضروري للغاية لإصلاح القَطع في الحلزون المزدوج.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن الاستفادة من قدرة التحمل لدى بطيئات المشية في أبحاث الشيخوخة لدى البشر؟
لاحظ الباحثون أيضاً أن التعرض للإشعاع يحفّز نشاط جين يحمل اسم "بي إس سي 1" (BSC1)، وهو يستجيب إلى الإشعاع من خلال زيادة معدل تركيب بروتينين يعلم العلماء أنهما ضروريان لتركيب جزيئات أيه تي بي (ATP) في المتقدرات. قدرة بطيئات المشية الهينانية على تركيب هذين البروتينين بكميات كبيرة دفعت الباحثين إلى وضع فرضية تنص على أن هذه البروتينات تؤدي دوراً في إصلاح الحمض النووي. قد يفسّر ذلك أيضاً حقيقة أن تعرّض البشر للإشعاع قد يؤدي إلى فشل وظيفة المتقدرات. كتب المؤلفون في الدراسة: "كشفت دراستنا وجود علاقة غير متوقعة بين بروتينات المتقدرات وإصلاح الحمض النووي في النواة، ما يوفّر تفسيراً جزئياً لفشل وظيفة المتقدرات بعد التعرض للإشعاع".
يبدو أن بطيئات المشية الهينانية قادرة على تقليل كمية التلف الناجمة عن الإشعاع المؤين في المقام الأول. على الرغم من أن التلف المباشر للحمض النووي قد يكون كارثياً، قد يؤدي الإشعاع المؤين إلى التلف بطرق أخرى. كتب المؤلفون في الدراسة: "تظهر الآثار البيولوجية [للإشعاع المؤين] من خلال آليتين، التأثير المباشر والتأثير غير المباشر. النوع الثاني مسؤول عن 60% إلى 70% من تأثيرات [الإشعاع المؤين]، والتي تقوم بدور الوسيط فيها مركّبات الأوكسجين التفاعلية".
كيف تحل بطيئات المشية مشكلة الإجهاد التأكسدي؟
اكتسبت الأحياء آلية دفاعية خاصة بها ضد الجذور الحرة، وهي مضادات الأكسدة. تتفاعل هذه المركّبات مع الجذور الحرة وتبطل مفعولها بفعالية، وتحتوي أجسام الأحياء عموماً على مضادات الأكسدة والجذور الحرة بنسب متوازنة. مع ذلك، عندما ترتفع نسب الجذور الحرة في أجهزة الأحياء بدرجة كافية لخفض قدرة مضادات الأكسدة، تدخل هذه الأحياء في حالة تحمل اسم "الإجهاد التأكسدي"، وهي حالة تستطيع فيها مركبات الأوكسجين التفاعلية التفاعل مع الأنسجة الخلوية وجزيئات الحمض النووي وأي جزيئات أخرى قد تصادفها.
تحل بطيئات المشية الهينانية هذه المشكلة من خلال تركيب كميات كبيرة من البروتينات التي تحمل اسم "البيتالينات" (betalains) استجابة للتعرض للإشعاع. هذه البروتينات هي مضادات أكسدة تفاعلية للغاية، وهي تعمل بالأساس من خلال التخلّص من الجذور الحرة قبل أن تتمكن هذه الأخيرة من إتلاف أجهزة بطيئات المشية. وجود البيتالينات في بطيئات المشية مهم لأنها توجد عادة في النباتات. ينظّم جين يحمل اسم "دي أو دي أيه 1" (DODA1) تركيب هذه البروتينات، ويعتقد الباحثون أنه وصل إلى بطيئات المشية عبر عملية نقل الجينات الأفقي، على الأرجح من بكتيريا تنتمي إلى شعبة "بديلوفيبريونوتا" (Bdellovibrionota).
اقرأ أيضاً: رحلة مميتة لبطيئات المشية مع الحلزون بحثاً عن ظروف أفضل
التوصل إلى فهم كيفية بقاء بطيئات المشية على قيد الحياة بعد التعرض للإشعاع أمر مثير للاهتمام في حد ذاته، فضلاً عن أنه قد يساعد البشر على البقاء أيضاً بطريقة مشابهة. في وقت سابق من 2024، اكتشف الباحثون الذين ألهمتهم الأبحاث حول بطيئات المشية النموذجية أن إدخال بروتين تي آر آي دي 1 إلى خلايا البشر بدا وكأنه يعزز قدرة هذه الخلايا على مقاومة التلف في الحمض النووي. بالنظر إلى أن العلماء يجهلون الكثير عن قدرة بطيئات المشية على التحمّل، من المحتمل أن هذه الحيوانات الصغيرة تتمتع بآليات خفية أخرى يمكن كشفها. قال مؤلفو الدراسة الجديدة في بيان صحفي: "تتمتع الكائنات المحبة للظروف القاسية مثل بطيئات المشية بالعديد من آليات مقاومة الإجهاد الجزيئية المهمة غير المكتشفة. وإجراء الأبحاث الوظيفية حول آليات تحمّل الإشعاع سيوسّع معارفنا حول قدرة الخلايا على البقاء في الظروف المتطرفة، كما قد يلهم بتطوير طرق جديدة لتحسين صحة البشر ومكافحة الأمراض".