يعيش في أعماق غابات أميركا الجنوبية أحد أنواع البرمائيات التي تتميز بألوانها الزاهية، وهو ضفدع السهم السام. لا تظن أن جمال ألوان هذه الضفادع يجذب الحيوانات الأخرى إليها؛ فهو تحذير بأن من يهاجمها سيتعرض للأذى. يمكن أن يؤدي لمس جلد ضفدع السهم السام الذي يعتبر من أكثر الحيوانات سميّة في العالم إلى الغثيان والتورّم والشلل، حتى للبشر.
اكتسبت مفترسات هذه الضفادع القدرة على تمييز الدرجات اللونية الزاهية على أنها علامات تبين أن هذه الحيوانات سامة ويجب عدم الاقتراب منها. ولكن استغرق اكتساب هذه المفترسات القدرة على ربط ألوان الحيوانات بالخطر الذي تمثّله وقتاً طويلاً، ما شكّل مفارقة طبيعية بالنسبة لعلماء الأحياء. كيف استمرت الأنواع التي تتعرض للافتراس فترة طويلة بما يكفي لاكتساب الألوان التي تؤدي دور إشارات التحذير على الرغم من أنها تعيش في بيئات تسودها مفترسات تستطيع العثور عليها بسهولة أكبر ولم تكتسب القدرة على تجنّبها؟
اقرأ أيضاً: اكتشاف نوع جديد من الضفادع له أنف في الأمازون
تطورياً: كيف اكتسبت هذه الحيوانات ألوانها الزاهية؟
تنص إحدى الفرضيات على أن الألوان التي تؤدي دور إشارات التحذير، وتسمى "التحذير اللوني" (aposematism)، تطوّرت بشكل غير مباشر وعلى مراحل تدريجية. يشير العلماء في دراسة نُشرت بتاريخ 16 مارس/ آذار 2023 في مجلة ساينس (Science) إلى أن بعض الكائنات استخدمت الإشارات المخفية في أثناء اكتسابها الجلود الدائمة ذات الألوان الزاهية، ما منح المفترسات ما يكفي من الوقت لفهم أن هذه الألوان تعني ضرورة التعامل مع هذه الكائنات بحذر. كانت هذه الألوان مخفية غالباً في بطون هذه الحيوانات أو جوانبها السفلية.
يقول الأستاذ المساعد في جامعة سيؤول الوطنية في كوريا الجنوبية والمؤلف المشارك في الدراسة الجديدة، تشانكو كانغ (Changku Kang): "إذا ظهرت سمة الألوان الزاهية فجأة بين أفراد سلالة سامة فسيكون انتشار الطفرة المسؤولة عن هذه السمة في الجماعة مستبعداً لأن المفترسات لن تعرف أن ألوان هذه الحيوانات مرتبطة بآلية الدفاع الكيميائية السُميّة" وستستمر بصيدها.
صنّف الباحثون أكثر من ألف نوع من الضفادع والسمندر في 5 مجموعات بهدف دراسة آلية تطور الألوان في هذه الحيوانات. يقول الزميل الباحث في مرحلة ما بعد الدكتوراة في جامعة كارلتون الكندية والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة، كارل لوفلر-هنري (Karl Loeffler-Henry)، إن الباحثين صنّفوا الحيوانات في فئتين فقط في معظم الدراسات السابقة التي أجريت على تطور سمة التلوّن، وهما الحيوانات البارزة والحيوانات المموّهة، ما حدّ من قدرتهم على فهم هذه الظاهرة المعقّدة.
اقرأ أيضاً: هذا الضفدع يملك جلداً شفافاً يظهر أعضاءه الداخلية
بدلاً من ذلك، تمعنت الدراسة الجديدة في الحيوانات البارزة والحيوانات المموهة بالإضافة إلى التكيّفات المحتملة الأخرى التي اكتسبتها الحيوانات؛ فصنّف الباحثون الحيوانات التي اكتسبت جلودها الألوان التي تميّزها، مثل درجات اللون الأحمر والأصفر والأزرق الفاقع، على أنها حيوانات بارزة، بينما اعتبروا أن الحيوانات التي اكتسبت الألوان التي تساعدها على تمويه نفسها في بيئاتها حيوانات متخفّية. صنّفوا أيضاً الحيوانات ذات الألوان المخفية إلى حد ما في أطرافها ومناطق أخرى من أجسامها على أنها حيوانات بارزة جزئياً، واعتبروا أن الحيوانات ذات الألوان الزاهية المخفية تماماً في أسفل البطن والمناطق الأخرى غير الظاهرة هي حيوانات بارزة تماماً، وصنّفوا البرمائيات التي تتميز بالألوان البارزة والمخفية معاً على أنها تنتمي لفئة تحمل اسم الحيوانات متعددة الأشكال.
اختبر المؤلفون بعد ذلك 9 نماذج حاسوبية تطورية مختلفة لمحاكاة السياقات التطورية التي مر بها أسلاف الحيوانات المدروسة، وهي تشمل الفترات التي اكتسب الأسلاف فيها السميّة وإشارات التحذير اللوني كآليات دفاعية.
سياق ظهور آلية التحذير اللوني
لم يكن السياق الذي أدّى إلى ظهور التحذير اللوني مباشراً. ومرّت سمة التحذير اللوني بمرحلة انتقالية مهمة من ناحية تأثيرها في تطور هذه الحيوانات بدلاً من التطوّر مباشرة من سمة التمويه. يقول عالم الأحياء المتخصص في علم الأحياء التطوري في جامعة كارولاينا الشرقية الذي لم يشارك في الدراسة الجديدة، كايل سمرز (Kyle Summers): "من المرجح أن الظروف التي أسهمت في ظهور الألوان الزاهية لم تكن مُقيّدة للغاية. مع ذلك، فهي أسهمت في تطوّر سمة الألوان الزاهية كسمة عامة بشكل مباشر". عندما اكتسبت الحيوانات أصباغاً ذات ألوان فاقعة لأول مرة، كانت هذه الألوان مخفية في أجزاء من الجسم مثل الأطراف أو أسفل البطن.
اقرأ أيضاً: 5 أمثلة من الطبيعة لأغرب آليات الدفاع لدى الكائنات
لجأت هذه الحيوانات عند تعرّضها للخطر إلى رفع أطرافها أو أجسامها للكشف عن الأجزاء الملونة وإظهار الألوان التي أصبحت لاحقاً إشارة تحذير للمفترسات التي كانت تأكلها في غفلة عن طبيعتها السمية، يقول لوفلر-هنري: "تطوّرت سمة التحذير اللوني بشكل مستقل في سلالات مختلفة من البرمائيات عدة مرات. وتفسّر الإشارات المخفية كيفية حدوث ذلك، كما أنها تكشف عن العمليات التطورية التي أدّت لظهور هذه السمة".
تقول الأستاذة المساعدة لمادة علم الحيوان في جامعة تشارلز بمدينة براغ، أليس إكسنيروفا (Alice Exnerová)، التي لم تشارك في الدراسة الجديدة: "تقدّم هذه الدراسة حلاً جديداً للمفارقة القديمة المتمثلة في تطور إشارات التحذير اللوني التي تحمي من المفترسات". تضيف إكسنيروفا قائلة إن النتائج الجديدة تبين أهمية دراسة الاستراتيجيات التطورية البديلة التي تجاهلها المجتمع العلمي، والتي تعمّق فهمنا لآليات الدفاع المتنوعة ضد المفترسات في العالم الطبيعي.