كيف تساعد أدلة الحمض النووي على حل الجرائم؟

كيف تساعد أدلة الحمض النووي على حل الجرائم؟
قد تحتوي 50-100 خلية فقط على ما يكفي من المواد الوراثية لإنشاء موجز بيانات للحمض النووي. ديبوزيت فوتوز

ما الأدلة المطلوبة لإدانة قاتل متسلسل؟ قد تشمل الأدلة التي تشير إلى الجاني تلك المستخلصة من الجثث أو شهادات شهود العيان أو بصمات الأصابع على الأسلحة، ومع ذلك، يضطر المحققون في الحالات المعقدة إلى التعمق أكثر وفحص المواد الوراثية التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

فحص أدلة الحمض النووي وحل القضايا الجنائية

يمكن أن يساعد فحص أدلة الحمض النووي على حل القضايا الجنائية القديمة التي توقّف التحقيق فيها لقدمها. حتى منتصف يوليو/ تموز من عام 2023، لم يكن هناك أي أدلة مفيدة تشير إلى قاتل لونغ آيلاند المتسلسل، الذي يُعتقد أنه مسؤول عن وفاة الضحايا الذين عُثر على جثثهم في منطقة شاطئ غيلغو في مدينة نيويورك بين عامي 1996 و2011. لكن أدلة الحمض النووي الجديدة منحت الشرطة الإثبات الذي تحتاج إليه لاعتقال المهندس المعماري من مدينة نيويورك، ريكس هيورمان، بتهمة قتل 3 نساء عُثر على جثثهن على الشاطئ قبل عقد من الزمن، كما أنها تقدّم أدلة محتملة تتعلق بجثة رابعة. وبناءً عليه مَثَل هيورمان، الذي أنكر محاميه التهمة الموجّهة ضدّه في يوليو/ تموز 2023، أمام المحكمة بتاريخ 1 أغسطس/آب 2023.

على الرغم من أن كل قضية جنائية تختلف عن الأخرى، ففحص الحمض النووي هو الطريقة الأفضل (ولكنها ليست مثالية) عندما يتعلق الأمر بالقبض على قاتل. في حالة هيورمان، ما ربطه بالجرائم هو قطعة مرمية من عجينة بيتزا وشعر زوجته. تقول الطبيبة النفسية المتخصصة بأدلة الجرائم والشاهدة الخبيرة، كارول ليبرمان: "هناك بالفعل أدلة أكثر من كافية في حالة ريكس هيورمان. ليس من الضروري أن نجد شاهداً على جرائمه".

أصبح بمقدور قوات الشرطة القبض على القتلة بسرعة أكبر مع تقدم تكنولوجيا دراسة الحمض النووي، ومن المحتمل أنها ستستطيع التوصل إلى حلول للقضايا الجنائية القديمة البالغ عددها نحو 15 ألفاً في الولايات المتحدة.

اقرأ أيضاً: ما الحيل الذكية التي تتبعها الخلايا لنسخ الحمض النووي؟

مشتبه بهم بسبب قطع صغيرة من الحمض النووي

يشترك أي إنسان بنحو 99.9% من الحمض النووي مع أي شخص آخر في العالم. ويتعين على خبراء الأدلة الجنائية لحل هذه المشكلة التركيز على أجزاء صغيرة للغاية من الحمض النووي تختلف من شخص إلى آخر، وتحمل اسم التكرارات المترادفة القصيرة. يقول الأستاذ الفخري لعلم الأدلة الجنائية في كلية جون جاي للعدالة الجنائية، لورينس كوبيلينسكي، إن هذه التكرارات هي أزواج أساسية متكررة من عدة أنماط توجد في صبغي واحد ويتراوح عددها بين زوجين و5 أزواج. تمثّل التكرارات المترادفة القصيرة 3% من الجينوم البشري.

وتتمتع هذه التكرارات بمعدل طفور مرتفع، ما يعني أن المنطقة التي تحتوي عليها في الحمض النووي تختلف كثيراً من شخص إلى آخر. إذا احتوت عيّنتان من الحمض النووي على النمط نفسه من الأزواج الأساسية، فهذا مؤشر قوي على أن العينتين تنتميان إلى شخص واحد. يقول كوبيلينسكي: "توفّر لنا اختبارات الحمض النووي هذه معلومات بالغة الأهمية لتحديد هوية الأشخاص، ما دام لدينا الكم الكافي من الأدلة التي تتمتع بجودة كافية".

اقرأ أيضاً: متلازمة الخيمرية: هل يمكن أن ينكر اختبار الحمض النووي نسبك لأبويك؟

أهمية جودة العيّنات

في قضية هيورمان، عثرت الشرطة على آثار للشعر على أجسام 3 من الضحايا. توصّل بعض تحليلات التكرارات المترادفة القصيرة إلى أن الشعر يعود إلى أنثى، بينما تعود شعرة أخرى وجِدت على الشريط اللاصق المستخدم لربط إحدى الضحايا، ميغان واترمان، إلى رجل، لكن المحققين لم يتمكنوا من جمع أي معلومات أخرى. كانت أغلبية العيّنات غير قابلة للاستخدام عملياً. هذا ليس غريباً؛ إذ إنه بعد التعرّض للعوامل الجوية لمدة 13 عاماً، من المرجح أن العوامل البيئية مثل الرطوبة ودرجة الحرارة والتلوث البكتيري أو الفطري أدت إلى تحلّل الحمض النووي.

مع ذلك، فإن العثور على كمية قليلة من المادة الوراثية السليمة سيكون مفيداً للغاية. يقول كوبيلينسكي إن الحصول على نحو 100 بيكوغرام من الحمض النووي (أي نحو 50-100 خلية) سيكون كافياً للحصول على موجز للبيانات المتعلقة بالتكرارات المترادفة القصيرة. ويضيف: "لن يتمكن الخبراء إلا من إجراء اختبارات الحمض النووي للميتوكوندريا في حال توفّر كمية أقل".

يمثّل الحمض النووي للميتوكوندريا (Mitochondrial DNA) جزءاً صغيراً من الكمية الكلية من الحمض النووي الموجود في الخلية، ويساوي هذا الجزء 16,500 زوج أساسي من أصل 3 مليارات زوج في الحمض النووي. مع ذلك، هذا الحمض النووي أكثر قدرة على التحمّل من الأنواع الأخرى من الحمض النووي الخلوي، ما يتيح له مقاومة الظروف البيئية التي تلوّث المواد الوراثية الأخرى عادة.

يحتوي السنتيمتر الواحد من الشعر على كمية كافية من هذا الحمض النووي لإنشاء موجز بيانات كامل للحمض النووي للميتوكوندريا. أتاح ذلك لشرطة مدينة نيويورك الحصول على الحمض النووي من بقايا البيتزا التي رماها هيورمان، نقل مسؤولو الشرطة هذه البقايا إلى المختبر، حيث مُسحت بحثاً عن الحمض النووي للميتوكوندريا والحمض النووي الصبغي الجسدي، وهي مواد وراثية يرثها الفرد عن أبويه.

اقرأ أيضاً: مستقبل الطب الجينومي: الذكاء الاصطناعي يلعب دوراً

عيوب فحص الحمض النووي للميتوكوندريا

مع ذلك، الحمض النووي للميتوكوندريا أقل موثوقية من التكرارات المترادفة القصيرة، لأن البشر يرثون الميتوكوندريا من أمهاتهم. يقول كوبيلينسكي: "تتمتع كل امرأة وأمها أو جدتها أو خالتها أو ابنة أختها أو حفيدتها بالحمض النووي للميتوكوندريا نفسه. وهو متطابق لدى الأخوة والأخوات".

يجب على المدّعين العامين تقديم الإحصائيات التي تبيّن احتمال تطابق الحمض النووي الذي وجِد في مسرح الجريمة مع الحمض النووي للمدعى عليه، لأن الحمض النووي للميتوكوندريا لا يمكن أن يتطابق مع الحمض النووي للميتوكوندريا للجاني بنسبة 100%. على سبيل المثال، قد يزعم هؤلاء أن احتمال الخطأ يساوي 1 بالكوادريليون أو 1 بالألف.

كلما ازدادت كمية الحمض النووي للميتوكوندريا الذي يعود إلى مصادر مختلفة، كان ذلك أفضل. استخلصت الشرطة الأدلة من مسارح الجريمة جميعها بالإضافة إلى عجينة البيتزا، كما استخلص المسؤولون عيّنات من 11 زجاجة في كيس قمامة رماه هيورمان خارج منزله. عندما مُسحت الأدلة واختُبرت بحثاً عن الحمض النووي للميتوكوندريا، كانت النتائج مشابهة لموجز بيانات الحمض النووي الذي يعود لزوجة هيورمان، كما أنها كانت مشابهة للشعر الأنثوي الذي وجد في أكياس الخيش المستخدمة في لف الجثث.

وفقاً لكوبيلينسكي، هذا ليس مفاجئاً لأن شعر البشر يتساقط عادة بمعدل 100-50 شعرة يومياً؛ يقول: "ليس من الغريب أن يلتصق الشعر بالثياب. ربما انتقل شعر زوجته إليه ثم إلى أكياس الخيش في المكان الذي لفَّ الضحايا فيه".

حساسية ودقة معززتان

يسهّل التقدم الذي أُحرز في مجال تكنولوجيا دراسة الحمض النووي كشف القتلة الذين يمكن أن يرتكبوا الجرائم مجدداً وإدانتهم. يقول كوبيلينسكي إن اختبارات الميتوكوندريا تتمتّع اليوم بحساسية ونوعيّة أكبر مما تمتعت به قبل عقد من الزمن. تحسّنت كفاءة أداة مسلسِل الجيل التالي، وهي أداة للكشف عن ترتيب أزواج الحمض النووي الأساسية، ما أدى إلى إنشاء موجزات بيانات للحمض النووي من الأدلة الوراثية التي جُمعت من مسارح الجريمة على نحو أسرع وأدق.

على سبيل المثال، تمكّن الباحثون من كشف %0.1 من عيّنة جينوميّة في مزيج من الحمض النووي يحتوي على مواد أخرى غير ذات صلة باستخدام إحدى طرق سلسلة الجيل التالي التي تعتمد على تكنولوجيا كريسبر-كاس 9. وفقاً للمعهد الوطني للعدالة، هذه التقنية "تفوقت على آليات سلسلة الجيل التالي الأخرى من ناحية الأداء" وتمكّنت من تحديد 2,500 متغير بدقة بلغت 83%.

اقرأ أيضاً: كيف يمكننا الاستفادة من علوم الأحياء الرياضية في دراسة تشابك الحمض النووي؟

تسهّل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أيضاً فحص عينات الحمض النووي المنخفضة الجودة والتحقق من سلاسل الحمض النووي في قواعد بيانات المجرمين والجرائم المرتكبة في أماكن مختلفة. بينما تتعمق الشرطة أكثر في ماضي هيورمان، سيعلم عوام الناس إذا ما توقّف قاتل لونغ آيلاند المتسلسل المزعوم عن ارتكاب الجرائم لعقد من الزمن أو إذا ما كان هناك المزيد من الجثث التي لم تُكتشف بعد.

تشير ليبرمان إلى ضرورة التوصل إلى العديد من الأدلة المكتشفة بطرق مختلفة لمحاولة إدانة قاتل متسلسل. يمكن أن يقلل وجود الشهود وكشف الأنماط السلوكية عدد المجرمين المحتملين، لكن دراسة الحمض النووي يمكن أن تحول الأدلة الظرفية إلى قضايا مفتوحة أو محسومة.

المحتوى محمي