كيف تفيد الأنظمة الزراعية الفضائية حياتنا على الأرض؟

6 دقيقة
كيف تفيد الأنظمة الزراعية الفضائية حياتنا على الأرض؟
الطماطم المزروعة بينياً (على اليسار) مقارنة بالطماطم المزروعة أحادياً (على اليمين). زُرع كلاهما في اليوم نفسه، ولكن يمكننا أن نلاحظ في هذه الصورة أن نبتة الطماطم المزروعة بينياً أكبر حجماً وتحتوي على عدد أكبر من الثمار، كما أن ثمارها نضجت في وقت أبكر من نظيرتها المزروعة أحادياً.

أول شيء تتذكر عالمة الأحياء الفلكية البرازيلية، ريبيكا غونسالفيس، أنها تعلمته في طفولتها هو ترتيب الكواكب. علّمها عمها، وهو عالم فيزياء فلكية أيضاً، الكثير عن الكوكبات التي تُزيّن سماء الليل فوق مدينة ساو باولو. قالت غونسالفيس: "أحببت الفضاء للغاية منذ صغري".

قادها ذلك لدخول مسار مهني في مجال الزراعة الفضائية، الذي ينطوي على اكتشاف طرق زراعة المحاصيل الغذائية في كواكب أخرى. تُرجع غونسالفيس قناعتها بأن عملها يجب ألّا يقتصر على استكشاف العوالم البعيدة للوقت الذي قضته لاحقاً في العيش مع قبيلة كامبيبا، وهي قبيلة من السكان الأصليين في غابات الأمازون المطيرة التي تنحدر منها. ترغب غونسالفيس في الحفاظ على كوكب الأرض أيضاً؛ إذ قالت: "هذا موضوع أخلاقي في عالم علوم الزراعة الفضائية"، مشيرة إلى أن "كل بحث يُجريه العلماء في هذا المجال يجب أن تكون له فوائد مباشرة على الأرض".

يجعل هذا المبدأ أبحاثها الحديثة مناسبة بصورة خاصة للفترة التي نمر بها. اكتشفت غونسالفيس مع فريق من جامعة ومركز أبحاث فاخينينغن لتحليل نُظم المحاصيل أن هناك تقنية زراعية قديمة من حضارة المايا تُسمَّى "الزراعة البينية" تتمتّع بفاعلية كبيرة في التضاريس الصخرية والجافة في كوكب المريخ.

اقرأ أيضاً: لماذا تعلق ناسا الكثير من الآمال على الزراعة الفضائية؟

الزراعة الفضائية يجب أن تخدم البشر أولاً على الأرض

تتمتّع النتائج التي توصل إليها الفريق، التي نُشِرت في شهر مايو/أيار 2024 في مجلة بلوس ون (PLOS One)، بآثار واضحة في إمكانية استكشاف هذا الكوكب البعيد أو حتى استيطانه. لكن فهم كيفية زراعة المحاصيل في الظروف القاسية للغاية في الكواكب الأخرى له تبعات لا تقتصر على ضمان قدرة أولئك الذين يستعمرون هذه الكواكب على توفير الطعام لأنفسهم؛ إذ إنه يساعد البشر على ضمان توفير الطعام مع ارتفاع درجة حرارة الأرض.

قالت غونسالفيس: "لا يدرك الناس [ذلك] فعلاً، لأن الكواكب الأخرى البعيدة تبدو أن لا علاقة لها بالأرض، لكن أولويتنا الفعلية هي تطوير طرق الزراعة الفضائية لصالح الأرض. الأرض جميلة وفريدة من نوعها ونادرة وعَطوبة، وهي تحتاج إلى مساعدتنا".

تتطلب الزراعة البينية، أو زراعة محاصيل مختلفة على مقربة من بعضها لزيادة الغلات وقيمتها الغذائية، مساحة أقل وكمية أقل من المياه مقارنة بالزراعة الأحادية، أي زراعة محصول واحد على نحو مستمر. على الرغم من أن هذه الممارسة رائجة بين صغار المزارعين، لا سيما عبر أميركا اللاتينية وإفريقيا والصين، فإنها لا تزال ممارسة جديدة في معظم أنحاء العالم. يعود ذلك جزئياً إلى تعقيد إدارة هذه الأنظمة والمخاوف التي لا أساس لأغلبيتها حول ضياع الغلة وقابلية إصابة النباتات بالآفات. تركّز أغلبية برامج زراعة النباتات الحديثة أيضاً على الأنواع الفردية وتتبع التوجّه العام المتمثّل في خفض التنوع في الحقول.

الزراعة البينية يمكن أن تسهم في تخفيف آثار التغيّر المناخي

وفقاً لغونسالفيس، هذه فرصة ضائعة. تشير الأدلة إلى أن الزراعة البينية يمكن أن تسهم في تخفيف آثار التغيّر المناخي والممارسات الزراعية غير المستدامة في غلات النباتات التي تُزرع في التربة المتدهورة، التي تشكّل ما يصل إلى 40% من الأراضي الزراعية في العالم. قالت غونسالفيس: "إمكانات الزراعة البينية في حل بعض المشكلات الناجمة عن التغيّر المناخي عالية للغاية".

لهذا السبب، قررت غونسالفيس أن تحاول تطبيق الزراعة البينية في المريخ، حيث لا يحتوي الحطام الصخري، وهو الاسم الذي يُطلق على التراب في العوالم الأخرى، على أي مواد مغذية أو حياة بيولوجية على الإطلاق، ما يجعله شبيهاً بالتربة الأرضية الشديدة التدهور. زرعت غونسالفيس وفريقها مجموعة متنوعة من نباتات الطماطم والجزر والبازلاء داخل دفيئة في الجامعة، في مادة تحاكي المادة الطليقة التي تغطي الصخر الأساس للمريخ بعد إضافة القليل من المغذيات والتربة إليها.

ما اكتشفه الفريق هو أنه على الرغم من أن الزراعة البينية أدّت إلى مضاعفة غلات الطماطم وازدياد سرعة النمو وسماكة سيقان النبات مقارنة بالزراعة الأحادية، فإن نباتات الجزر والبازلاء نمت على نحو أفضل عندما زُرِعت وحدها. (يعتقد الباحثون أن الكمية المحدودة من المغذيات التي أضافوها إلى الحطام الصخري الخشن هي سبب ذلك على الأرجح). على النقيض من ذلك، أدّت الزراعة البينية في التربة الرملية، التي تمثّل مجموعة الضبط في التجربة وتُطبق في العديد من المناطق في العالم، إلى زيادة كبيرة في غلة الطماطم والبازلاء.

اقرأ أيضأً: تقنية زراعية قديمة قد تساعد على توفير الطعام للبشر على المريخ

على الرغم من أن النتائج قد تبدو متفاوتة، ما يلفت النظر هو أن الفريق نجح في زراعة نبات ما في الحطام الصخري المحاكي في المقام الأول، الذي هو عبارة عن "أحجار مطحونة" حسب تعبير غونسالفيس.

بطبيعة الحال، الظروف الزراعية في كوكب المريخ، الذي يسوده الطقس البارد والجاف للغاية ولا يحتوي على كمية كبيرة من الأوكسجين المهم، أكثر تطرفاً بكثير من تلك السائدة في الأرض، التي تشهد بسبب التغيّر المناخي فترات جفاف مزمنة وتحولاً طويل المدى إلى ظروف أكثر جفافاً تؤدي إلى استنزاف إمدادات المياه.

الاستفادة من أبحاث الزراعة على المريخ في الأماكن القاحلة على الأرض

مع ذلك، تتمتّع التربة التي تغطي الكوكب الأحمر بصفات مشابهة للغاية للتربة الأرضية الرملية التي تضررت بشدة بسبب التغيّر المناخي في المناطق القاحلة وشبه القاحلة حول العالم، مثل بعض المساحات في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وشمال الصين والأجزاء الجنوبية من أميركا الجنوبية، التي تُعدّ من المناطق المنتجة للحبوب التي أدّت فيها ندرة المياه وأنماط هطول الأمطار المتقلبة إلى فشل المحاصيل وانخفاض غلاتها في السنوات الأخيرة.

وفقاً للباحثين، ما توضحه هذه التجربة هو أن الزراعة البينية قد تمثّل حلاً غير مستغل لإحياء الأراضي الزراعية المستنفدة يسهم أيضاً في حل المشكلة الواسعة النطاق المتمثلة في استخدام الأراضي الزراعية. بيّنت الدراسات السابقة أن الزراعة البينية لمحصولين تحتاج في المتوسط إلى مساحة أقل بنسبة 19% مقارنة بزراعة كل محصول على نحو منفصل.

قالت غونسالفيس: "خذ على سبيل المثال قرية في إفريقيا تعاني تدهور التربة وتأوي مزارعين يواجهون الصعوبات في مجتمع يعاني. إذا تمكنا من تطبيق الإعداد الذي أنشأناه للمستعمرة المريخية، فلن يختلف الأمر عن قرية إفريقية صغيرة، لأن التكنولوجيا التي سنطبقها هناك هي نفسها. الإمكانات التي يمكن أن نستفيد منها لا حصر لها؛ إذ يمكننا إنشاء نسخة من نظام مستعمرة المريخ في المجتمعات المحلية في الأرض".

لكن ما مدى قدرتنا على تطبيق هذه الحلول في الأجزاء من العالم التي تحتاج إليها أكثر من غيرها؟ الجواب المختصر هو أن المسألة معقدة.

تعقيد تطبيق هذه الحلول على الأرض

اكتشف العلماء في ورقة بحثية نُشِرت عام 2024 تستكشف تحديات تطبيق التكنولوجيا التي طُوِّرت لأبحاث الفضاء في مختلف مناطق نصف الكرة الأرضية الجنوبي أنه عند تحليل دراسات الحالة في غيانا وتنزانيا ونيبال وفيتنام، استمرت آثار أوجه عدم المساواة في السلطة واستبعاد المجموعات المهمشة تاريخياً بسبب السرديات والبنى والأفكار والعلاقات الناشئة عن البنى الاستعمارية التاريخية. تعتمد هذه الورقة على الأبحاث السابقة التي كشفت كيف أدّت "الثورة الخضراء" في الهند، التي تبنت فيها البلاد أساليب حديثة لإحداث تحول صناعي في الزراعة، إلى عواقب زراعية وصحية غير مقصودة على صغار المزارعين.

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة: استخدام الأسمدة بذكاء يقلل انبعاثات الكربون في الزراعة

أبحاث غونسالفيس هي جزء من مجموعة سريعة التنامي من الأبحاث في مجال الزراعة الفضائية التي يحفّزها كلٌّ من الاهتمام الشديد من جانب الحكومات وصانعي السياسات والقطاع الخاص والاستثمارات التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.

قبل عامين، نشر فريق من جامعة فلوريدا بحثاً بارزاً يصفُ كيفية زراعة نبات رشاد أُذن الفأر في الحطام الصخري القمري الذي جُمِع خلال فترة مهمات أبولو. في العام نفسه، زرع العلماء في جامعة آيوا الحكومية اللفت والفجل والخس في مادة تحاكي الحطام الصخري المريخي، بينما راجعت دراسات أخرى على الصعيد الوطني الصعوبات التي تواجه إجراء التجارب البحثية التي أُنبتت فيها المحاصيل مثل القمح في مواد تحاكي التربة القمرية والمريخية. تشير هذه التحقيقات التي تركّز على الفضاء إلى زيادة زخم العمل في مجال يستفيد من اهتمام البشر الكبير بالعوالم الأخرى بينما يستكشف ببراعة حلولاً لأزمة أرضية سُيّست لدرجة أنها تُثير مشاعر الانفصال عن الطبيعة.

قال جين جياكوميلي إنه على الرغم من أن دراسة غونسالفيس تقدّم نظرة "مثيرة" إلى كيفية استخدام الأساليب الزراعية التقليدية في المريخ، فإن هذه الأساليب قد لا تمثّل "النهج الأكثر منطقية" الذي يمكن تطبيقه هناك. يعتبر جياكوميلي أن إجراءات الزراعة دون تربة، أو الزراعة المائية، هي "النهج الوحيد" المناسب للبدء بإنتاج الغذاء في كوكب آخر بأمان. جياكوميلي هو المدير المؤسس لمركز الزراعة في البيئة الخاضعة للرقابة في جامعة أريزونا، حيث أمضى أكثر من 20 عاماً في تطوير دفيئة يمكن استخدامها في المريخ.

مع ذلك، يوافق جياكوميلي على أن الزراعة البينية يمكن أن تكون مفيدة في التربة الأرضية المتدهورة، وهي فكرة أثارت اهتمام توماس غراهام أيضاً. غراهام هو أستاذ مشارك في جامعة غويلف درس الزراعة الفضائية منذ عام 1997، وهو يعتقد أن بحث غونسالفيس يؤكد "أهمية التربة العالية الجودة في توفير إمدادات غذائية موثوقة، سواء في الأرض التي تتعرض تربتها لضغط كبير أو في التطبيقات الفضائية المستقبلية".

شارك غراهام في بداية حياته المهنية في مشروع موّلته وكالة ناسا لبناء دفيئة صغيرة في منطقة السهول الجليدية القطبية المرتفعة في كندا، وهو "موقع مشابه لكوكب المريخ" معروف بظروفه القاسية. شهد غراهام في أثناء المشروع "قضايا انعدام الأمن الغذائي المروعة" التي تواجه أولئك الذين يعيشون في بعض المجتمعات النائية في أقصى شمال كندا. وقال: "الحصول على طعام طازج هناك صعب للغاية، وذلك إن كان بالإمكان الحصول عليه في المقام الأول. بالإضافة إلى ذلك، الطعام الطازج مكلف للغاية هناك". دفعه ذلك إلى البحث عن الحلول التكنولوجية للتحدي المتمثل في زراعة المحاصيل في أكثر البيئات قسوة، وهي الفضاء الخارجي.

قال غراهام: "كنت محظوظاً لأنني تمكنت من الإسهام في استكشاف الفضاء ومساعدة الناس على الحصول على الطعام في الوقت نفسه. كما أن هذا المشروع يدعم طريقتي للإسهام في مساعدة المجتمع على التكيُّف مع تبعات التغيّر المناخي الناجم عن النشاطات البشرية".

وفقاً لغراهام، يمكن تطبيق الحلول مثل الدفيئات الزراعية التي طُوِّرت لاستعمار عوالم أخرى في المناطق التي اجتاحها الجفاف في الأرض "مباشرة" بعد ابتكارها.

اقرأ أيضاً: أول اكتشاف في التاريخ لجزيئات الماء على سطح كويكب يعوم في الفضاء

بطبيعة الحال، سيعتمد تحقيق ذلك بطريقة تفيد الأشخاص الذين يستطيعون الاستفادة منه بالقدر الأقصى على مزيج ملائم من التمويل والإرادة السياسية والتبني الشامل. دون هذه المحفزات، قد يكون التطبيق الواسع النطاق لهذه التقنيات الزراعية مستبعداً بقدر تمكننا من توفير الطعام للأشخاص الذين سيسكنون في العوالم الأخرى في المستقبل.